يحاول رئيس الحكومة العراقية السابق نوري المالكي بعد عودته من طهران، أن يخلق إنطباعا مفاده بأنّ ورقته السياسية لم تستنفذ بعد، وبأنّه رغم فقدانه منصب النائب"الأول" لرئيس الجمهورية ضمن حزمة الإصلاحات الجارية، لا يزال الرجل الأصلح لتمثيل ورعاية المصالح الإيرانية في العراق، والأقدر من غيره لقراءة سياستها الإقليمية وتلبية مستلزمات تنفيذها كما كان يفعل على الدوام طوال ثمانية أعوام من حكمه وإدارته للبلاد.
&ومن المؤكد أيضا، أنّه لا يعود الى بغداد التي تكاد أن تتلمس طريقها نحو ضوء نهاية النفق بعد موجة التظاهرات الشعبية وبداية الشروع& بالخطوات الإصلاحية الموعودة& لحكومة الدكتور حيدر العبادي، وذلك لمجرّد أن يحضر جنازته السياسية، دون حصوله على ضمانات وتطمينات خاصة من أولي الأمر، أو لمجرّد رغبة شخصية جامحة في أن يحوم حول المكان مرّة أخرى أو أخيرة، أو نتيجة عناد مرضي متأصل يلّح عليه كما كان يلّح على سابقيه من حكام العراق الذين تخرّجوا من ذات المدرسة السياسية المعروفة بغطرستها ونرجسيتها وعقدّها& المركّبة وإنكارها الدائم للأخطاء المميتة حتى لو كانت بحجم ضياع الوطن وتبديد الثروات وتدمير مستقبل أجياله.
ويقينا، أنّ "مختار العصر"، لا يعود الى بغداد التي بدأت تتصالح مع نفسها وتطالب بإستعادة عافيتها ومدنيتها الضائعة ويكتشف شبابها الغاضب بأنّهم خدعوا مرّة بالشعارات والوعود الكاذبة ومرّة أخرى بوقوفهم& صامتين على الحياد طويلا إزاء الخدعة المستمرّة، لكي يدافع فقط عن نفسه وينفي الإتّهامات الخطيرة التي قد تقوده الى منصّة الإعدام . ربّما كان يستعرض شريط الذكريات في طريق عودته على متن الطائرة الإيرانية الخاصة الى بغداد، ولم يتوقف طويلا عند محطات ذلك المشوار الطويل الذي بدأه من معلم مدرسة إبتدائية في بلدته طويريج، مرورا بسنوات النضال السرّي في دمشق وإنتهاءا بتسنّمه رئاسة الوزراء في ربوع المنطقة الخضراء. رحلة شاقّة وعسيرة دون أدنى شكّ، طالت عقودا وكان بإمكانها أن تصنع سياسيا ناضجا يختزن آلام شعبه وعذابات رفاقه ومجايليه ممّن قارعوا الدكتاتورية. لكنّه حتما توقّف وأوقف الزمن معه عند أعتاب المحطة الأخيرة لا غير. تلك هي محنته وحماقته معا. فهو من فئة الحكام المولعين بمونتاج التاريخ وإستقطاع أجزاءه غير المرغوبة. لذا فهو لا يستطيع أن يكون إلاّ في المقدمة وفي الصفّ الأول زعيما ملهما وقائدا مغوارا ورث القيادة عن أسلافه وسيرثها لأولاده من بعده .&
لم يتعلّم معلم المدرسة الإبتدائية في طويريج شيئا يذكر من عقود الدكتاتورية وحروبها وأهوالها ومقابرها الجماعية، ولم يعرف ما معنى بشاعة الإستبداد بالقرار والى أية هاوية سحيقة يمكن للتفرّد بالسلطة ونزعة الإحتكار وتهميش الخصوم السياسيين وإنتاج الأزمات الدورية وحياكة الدسائس أن تقوده وتقودنا معه. لم يتعلّم من التداول السلمي للسلطة سوى الشعار، أمّا بعده الثقافي العميق فقد عبّر عنه شخصيا في قولته الشهيرة: "بعد ما ننطيها". لذلك فالأجدر به هو العودة الى بلدته الأولى ولكن ليس كمعلم هذه المرّة وإنّما كتلميذ في الصفّ الأول كي يتعلّم الف باء السياسة والف باء الوطنية العراقية وسيجد قدّامه مستشاريه وجنرالاته وحاشيته ومريديه في نفس الصفّ.
هو لايعود الى بغداد قلعة الأسود لكي يتحدّى القرارات ويواجه مصيره المحتوم، ولكن بسبب ما شبّه له ولأسياده في طهران، أنّ عاصمة السلام هي قلعة للفئران والفقاعات، وأنّ ليل الظلم والظلام الذي فرضوه قسرا على العراقيين لا فجر له، وستبقى ثروات البلاد نهبا في متناولهم وفي خدمة المشروع التوسعي الإيراني الى الأبد. يعود لأنّ ثمّة محاولات أخيرة لخلط الأوراق وإثارة النعرات الطائفية وربّما شقّ صفوف التحالف الوطني وحزب الدعوة على أقلّ تقدير وتعطيل العمل الحكومي وكلّ ذلك من أجل عرقلة وإيقاف مسار الإصلاحات .
باريس&
&