كنت أتمنى أن تمر شعائر الحج هذا العام تحديداً بهدوء، وأن يعود جميع الحجاج المسلمين إلى ديارهم سالمين آمنين، ولكن قراءتي للمشهد الاقليمي ومعرفتي الدقيقة بسلوكيات النظام الايراني وبشاعة ممارساته، جعلتني لا أتوقع أن تمر مراسم الحج لهذا العام بشكل هادىء كعادتها كل عام، لسبب البسيط أن التعبئة السياسية والاعلامية الايرانية التي سبقت موسم الحج هذا العام كانت تنبىء بكثير من الشرور والنوايا السيئة العابرة من الشاطىء الآخر للخليج العربي.
تاريخ إيران مع مواسم الحج لمن لا يعرف ملىء بالفوضى والعنف والاستغلال السياسي، حيث أسفرت تظاهرات الحجيج الايراني عام 1987 عن صدامات دامية بسبب الشغب وأعمال التخريب وقطع الطرق والاصطدام ببقية الحجيج، ثم قاطعت بعدها إيران موسم الحج لأعوام عدة، ثم جاءت حادثة نفق المعيصم عام 1989، التي تمثل أحد محطات التآمر لإفشال موسم الحج عبر قيام حجاج من الشيعة الموالون لإيران بضخ غازات سامة في النفق ماتسبب في مقتل الآلآف!!.
قبل بداية شعائر الحج، قرأت تقارير عدة عن خطط إيرانية لإحراج المملكة العربية السعودية ومحاولة إفساد موسم الحج هذا العام بشتى الطرق والوسائل، وأشار بعض هذه التقارير إلى اجتماعات عقدت بين مسؤولين أمنيين وعسكريين إيرانيين مع المرشد الأعلى علي خامنئي وبعض المسؤولين السياسيين بهدف الرد على مبادرة السعودية بوقف التدخل الايراني الغاشم في اليمن الشقيق، حيث أشارت تقارير إلى أن هذه النقاشات أسفرت عن ضرورة إفشال موسم الحج وإحراج السلطات السعودية. وفي أغسطس أيضا كتب أحد الشخصيات المحسوبة على جماعة الحوثي اليمنية على صفحته عبر موقع "فيسبوك" تهديداً صريحا مفاده أن موسم الحج لهذا العام ستحدث فيه "أمور لم يشهد لها التاريخ مثيلا"!!.
وبطبيعة الحال يدرك كل من قام بأداء الشعائر المقدسة أن الترتيبات الأمنية السعودية تكون دقيقة بما يصعب معه إحداث تفجيرات أو اللجوء إلى الوسائل الايرانية التقليدية المعتادة مثل التظاهرات ورفع الشعارات واثارة الفوضى وغيرها، ولكن هناك وسائل "رخيصة" يمكنها تحقيق الهدف البغيض مثل اثارة الذعر والقلاقل والاضطراب وسط حشود وتجمعات مليونية، بما يكفي للتزاحم والتدافع ويؤدي بالنهاية إلى مقتل المئات وتحقيق الهدف المرجو وإطلاق آلة الاتهامات الرسمية الايرانية التي لم تتوقف برهة لفهم الظروف المحيطة بما حدث بل بادرت فوراً إلى إصدار بيانات رسمية تحمل فيها السلطات السعودية المسؤولية عن مقتل الحجيج عند رمي الجمرات واتهامها بالفشل والتخاذل وعدم الخبرة والتهاون وغير ذلك من قائمة طويلة من الاتهامات، التي يمكن الرجوع إليها في البيانات والتصريحات الرسمية الصادرة عن مسؤولين إيرانيين منذ وقوع الحادث الأليم.
ثمة نقطة نظام لأن البعض قد يبادر إلى اتهامي بتبني نظرية المؤامرة في التعامل مع الحادث، ورغم قناعتي الشديدة بأن النظام الايراني هو المؤامرة ذاتها لا مجرد نظرية لها، فإنني سأتناول ماحدث بموضوعية شديدة، فهذا النظام قد قتل الآلآف من الشعب الايراني في الداخل وقدم دمائهم قرباناً لاستمرار الملالي على كرسي الحكم، وبالتالي فلن يتورع عن التخطيط لاضطرابات في موسم الحج، علماً بأن هذا النظام قد تسبب غير مرة في إرباك موسم الحج بما كان يعرف بتظاهرات "البراءة من المشركين" الشهيرة التي كانت أحد مظاهر السلوك الايراني البغيض خلال موسم الحج كل عام في سنوات سابقة، ولكن الهدف هذه المرة غال على طهران، التي لا تتصرف من منطلقات دينية بل من مصالح طائفية ومذهبية وسياسية سخيفة، فهي تريد إحراج السعودية ووضعها تحت الضغط وفي موقع الدفاع بحيث تتراج الرياض عن مساعيها الرامية إلى الوقوف في وجه المخططات الايرانية الاقليمية الرامية إلى السيطرة على العديد من دول المنطقة.
هناك تقارير إعلامية متداولة منذ الأمس تنقل عن شهود عيان في مشعر مني قولهم أن هناك دور للحجاج الايرانيين في ما حدث من تدافع في منى، ما تسبب في وفاة أكثر من 700 حاج وأصابة مئات آخرين، حيث قال بعض الحجاج أن حجاجاً إيرانيين كانوا يرددون شعارات سياسية في المشعر ما تسبب في التجمهر وإعاقة الحركة في موقع الحادث، وقال آخرون أن حجاجا من إيران تجمعوا بهدف تعطيل الحركة وإعاقة جهود رجال الأمن السعودي في تنظيم الحجاج& لحظة توجههم لرمي الجمرات في أول أيام التشريق، وقال أحد الحجاج للصحفيين أنه حدث ارتفاع كبير في الأعداد وتداخل مفاجىء بينهم بعدما اندفعت تجمعات حجاج إيرانيين وسط الحجيج. قد يقول قائل أن هذا الكلام يلقى على عواهنه ولا برهان عليه، ولكن مثل هذه الحوادث لا يوجد فيها دليل أهم ولا أخطر من شهود العيان، وكاميرات المراقبة التي رصدت ماحدث، والتاريخ القريب والبعيد يؤكد أن ملالي طهران يخططون دوما لاثارة الفوضى والاضطراب في مواسم الحج، ولكنهم يفشلون غالباً بسبب الرقابة والتدقيق الأمني السعودي، ولكن التدافع المفتعل ربما يمثل خطة "رخيصة" ولكنها فعالة لتحقيق الهدف السياسي المرجو!!! البعض سيقول ولماذا تفعل إيران ذلك وهل يمثل إحراج السعودية هذه الأهمية ويدفع النظام الايراني للتسبب في مقتل المئات بمن فيهم نحو تسعون حاجا إيرانياً؟!
هذا التساؤل المنطقي مردود عليه لأن طهران لا تفكر بالمنطق من الأساس، وإلا ما كانت ذهبت إلى حد تشريد ملايين السوريين والعراقيين تحقيقاً لرغبتها ومصالحها وخططها التوسعية في العراق وسوريا، فضلا عن أن المسألة لالاتعلق بفكرة الاحراج السياسي للسعودية فقط ومن يتابع الاعلام الايراني يدرك بسهولة غرض طهران ومراميها من كل هذه المغامرات غير المحسوبة في العالم العربي والاسلامي.
قبل أيام، نطق مسؤول إيراني بما في نفس طهران وما تخطط له عقب تدبير بعض الجرائم التي تنال من مقدرة السلطات السعودية على تنظيم شعيرة الحج والتشكيك في مقدرتها على إدارة الموسم بشكل كفؤ، حيث دعا عضو لجنة الأمن القومي في مجلس الشورى الايراني باقر حسيني، إلى سحب إدارة شؤون الحج من المملكة العربية السعودية، ومنحها للجنة دولية منبثقة من البلدان الاسلامية كمنظمة التعاون الاسلامي،& وقال حسيني في تصريح لوكالة "فارس" الإيرانية للأنباء، إنه "بالنظر الى أن الكعبة الشريفة تعود الى العالم الاسلامي كله وليس لبلد ما لذلك من الافضل تسليم شؤون ادارة موسم الحج والمسجد الحرام الى لجنة من البلدان الاسلامية كمنظمة التعاون الاسلامي وتقديم الخدمات للحجاج".
هذا هو الهدف الأساسي الذي اعتقد أن طهران ترمي إليه وهو إشعال فتنة جديدة في العالم الإسلامي عبر الدعوة إلى سحب إدارة الأماكن المقدسة من السلطات السعودية وإسنادها إلى إدارة دولية بحجة عدم كفاءة الإدارة السعودية لهذه الأماكن!!! والمؤكد أن طهران لن تنجح في ذلك ولن يفلح طلبها في إقناع أحد، ولكنه قد يحدث ضجة وتشويش بالغ بين المسلمين، ويقسم الصفوف ويفاقم الخلافات وهذا هو ماتريده إيران تماماً.
تريد إيران انتزاع كل أسباب القوة المادية من المملكة العربية السعودية وتجريدها من مكانتها الروحية التي تتمتع بها بين المسلمين في أنحاء العالم كافة، وهذا الهدف ربما يلقى هوى غربي ومن أطراف دولية وإقليمية أخرى، وهذه هي بوابة المؤامرة التي كانت أحد أسباب موافقة القوى الدولية على إعادة دمج إيران والتوصل إلى اتفاق نووي معها رغم تاريخها الحافل بالارهاب واختراق قواعد القانون الدولي، ولكن الهدف المقبل يستحق هذه التضحية من القوى الدولية التي أيقنت تماماً ان معركة إيران الحقيقة ليست مع الغرب ولا إسرائيل بل مع جوارها الاسلامي، وبذلك وجدت الأرضيات والقواسم والأهداف المشتركة، فهي معركة إسلامية ـ إسلامية بامتياز تحقق أهداف أعداء الاسلام والمسلمين بأياد ترفع شعارات الإسلام وتزعم الدفاع عن المستضعفين والمظلومين من المسلمين.
ليس دفاعاً عن السعودية، فالحق أحق أن يتبع، والسلطات السعودية تبذل جهود خارقة ربما لا تقدر عليها دول عربية وإسلامية أخرى مجتمعة في تنظيم موسم الحج وراحة وخدمة حجاج بيت الله الحرام، ولكن الاستغلال السياسي البغيض لهذا الموسم كاف لعرقلة جهود العالم أجمع وليست جهود السعودية فقط، وللأسف فقد أظهرت إيران بنفسها وجهها القبيح وأهدافها ونواياها الخبيثة عبر الإعلان المسبق عن أهدافها، ثم توجيه هذا الكم الهائل من الاتهامات من دون سند حقيقي.
بدلا من أن الدعوةالايرانية الخبيثة لإسناد إدارة الأماكن الاسلامية المقدسة إلى "منظمة المؤتمر الاسلامي"، ادعو من جانبي هذه المنظمة لتشكيل لجنة للتحقيق في جرائم طهران التي ارتكبتها ـ ولا تزال ـ طيلة مواسم الحج السابقة مع التركيز على الموسم الحالي، وإعلان نتائج تحقيقها على الملأ حتى يعرف نحو مليار ونصف مسلم حقيقة القناع الذي يخفي وجه إيران القبيح!!.
&