&
إن كلمة التفكير الناقد هوس يردده التربويون كلما عقدت ورشة للمعلين حول أساليب التعليم الحديثة وكلما كتب باحث ورقة في المجال التربوي، وهي تعني باختصار محاكمة الفكرة لبيان معناها وقيمتها العلمية وهل هي رأي أو حقيقة وما هي تطبيقاتها وجدواها العملية ومن ثم توظيفها، وهي لا تقتصر على العلوم التطبيقية، بل تنتقل إلى المواد الإنسانية كعلم الاجتماع وعلم النفس والديانة واللغات. وعندما تجلب الحكومات الجامعات الأجنبية إلى بلادها، فإن هناك ما يبرر المبالغ الطائلة التي تنفق عليها، لأن العبرة ليست بالمادة العلمية التي يمكن استيرادها وتنفيذها بأيد وطنية، ولكن أيضا في أسلوب توصيل المعلومة. وقد اطلعت على بعض الواجبات التي أعطيت للطلاب في إحدى الجامعات الأمريكية في مادة الجغرافيا فوجدت بونا شاسعا بينها وبين ما يعطى للطلاب في الجامعات العربية، وكان فحواها مقتطفا من كتاب للمسعودي وآخر لماجلان وكان الواجب المطلوب هو بيان الفرق في الأسلوب العلمي الذي اتبعه الكاتبان في سرد رحلاتهم.&
كانت تلك محنة لمعظم الطلاب، نظرا لأن طلابنا لم يتعادوا على مادة جغرافية تدرس بهذه الطريقة، بل كان هناك نصوص وعليهم أن يحفظوها ومن ثم يرددونها وينجحون في امتحانها. ولكن الأسلوب الأول هو ما يسمى بالتفكير الناقد، وهو الذي يثبت في أدمغة الطلاب ولا ينسونه بسرعة. كما أنه يضيف إلى المعرفة مهارة التفكير العلمي.&
عادت بي الذاكرة إلى أيام خلت والشيء بالشيء يذكر، فذات يوم في درس العلوم شرحت المعلمة أن المرآة تعكس ضوء الشمس بنفس درجة الحرارة، فقالت إحدى الطالبات، لماذا إذن لا نصنع مدافئ من المرايا؟ فردت المعلمة: من أين لك هذا الذكاء؟ فضحكت التلميذات وأطلقن عليها لقب "مرايا" وصرن ينادينها ب "مرايا" بدل اسمها. وذات مرة شرحت معلمة الدين أن إبليس رفض السجود لآدم، فأراد الله سبحانه وتعالى أن يدخله النار، فطلب إبليس أن يمهله لكي يملأ جهنم بالناس، فأمهله الله عز وجل. فسألت إحدى التلميذات "كيف علم إبليس أن الله سيخلق حواء وسيمنعهما من أكل الفاكهة، وسوف تقوم حواء بإغواء آدم ليأكل منها وسيغضب الله عليهما وينزلهما إلى الأرض ويتكاثران فيقوم إبليس بإضلال الناس ثم ليملأ جهنم بهم؟ هل كان إبليس يعلم بالغيب؟" فنظرت المعلمة إلى التلميذة، وأهملت السؤال وأكملت الشرح. وذات مرة، سألت تلميذة معلمة العلوم بعد أن شرحت المعادلة الكيميائية للملح &"أنا وضعت كلور على صودا ولم ينتج ملح لماذا؟" بالطبع، كان على المعلمة أن تشرح الظروف الضرورية لإنتاج هذا التفاعل، ولكنها أعادت شرح المعادلة، ولم يكن هذا ما سألته التلميذة.&
إن هذه الأمثلة أفضل توضيح لمفهوم التفكير الناقد، فالتلميذة في المرة الأولى فكرت بتطبيق للقاعدة العلمية، والتلميذة الثانية تساءلت بعد أن فكرت تفكيرا ناقدا بالقصة وتساءلت هل كان إبليس يعلم بالغيب؟ لأنه هدد بأشياء مستقبلية لم تكن قد حدثت بعد. وفي السؤال الثالث كانت التلميذة تسأل عن معلومة لم توضحها المعلمة من أجل الفهم الصحيح للمعادلة. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن أطفالنا ليسوا أغبياء ولكن نحن من يجعل منهم أغبياء عندما لا نستوعب أسئلتهم ونحترم عقولهم ونجيب بما يقنعهم، ونكمم عقولهم عندما نشرح لهم مادة علمية ولا نوظف هذه المادة في أي تطبيق عملي لها، فيحفظها الطالب وينجح، وهكذا تخرج أجيال لا تحاكم أية فكرة، ولا توظف أية معلومة، وتعيش خانعة متقبلة لكل شيء، ولا تسهم إلا في رفع مستوى البطالة.&
إذن فالتفكير الناقد هو عماد العملية التربوية، إذ يجب أن يصنع الطلاب بما يتعلمون شيئا ما، بالمقارنة أو التحليل أو التركيب أو صنع شيء. ولا شك أن بعض المعلمين متفانين في أداء واجباتهم، ولكن هناك عوائق كثيرة تحول دون توفير البيئة الملائمة لكي ينتهج المعلم أسلوب التفكير الناقد، إذ يحتاج إلى صفوف لا يزيد عدد طلابها عن العشرين طالبا، كما يحتاج إلى متسع من الوقت وتوفير الأدوات، ووجود الرغبة الفعلية أن يطبق هؤلاء المعلمون أسلوب التفكير الناقد، لأن الإعداد لهذا الأسلوب يتطلب جهدا إضافيا من المعلم وجزءا من وقته الخاص. وإذا ما علمنا أن التدريس هو من أخفض المهن من حيث الرواتب، فمن الطبيعي ألا يقوم المعلم بتطبيق التفكير الناقد في أسلوبه في التدريس إلا لماماً.&
والحل إذن هو تغيير النشاطات المرافقة للدروس واستبدالها بأخرى تحفز التفكير الناقد وتنقل الطلاب من حيز الاستظهار إلى حيز الفهم العميق والتةظيف البناء للمعرفة.&

&