لا اصلاحات ممكنة في العراق. الكلام عن الاصلاحات كلام حقّ يراد به باطل، لا لشيء سوى لانّ الوضع القائم غير قابل للاصلاح. ما حصل في العراق ان بلدا بكامله في حاجة الى اعادة تركيب وبناء بعد تدمير المجتمع والمؤسسات التي كانت في الماضي تشكّل دولة. ضرب الانقسام الشيعي ـ السنّي المجتمع في العمق وترسّخ فيه، وجرى التخلّص من كلّ مؤسسات الدولة الواحدة تلو الاخرى، بدءا بالجيش.&
هل &في الامكان تفسير القرار الذي اتخذه بول بريمر بحلّ الجيش العراقي خارج سياق الرغبة في عدم بقاء اي مؤسسة عراقية واقفة على رجليها؟
الاخطر من ذلك كلّه انّ عمليات تطهير ذات طابع مذهبي جرت في مناطق عدّة، خصوصا في بغداد. تغيّرت طبيعة العاصمة العراقية نحو الاسوأ في ظلّ الرغبة في الفصل بين السنّة والشيعة بشكل نهائي. لا السنّي عدو الشيعي ولا الشيعي عدوّ السنّي، لا في العراق ولا خارج العراق، لكن المطلوب كان خلق حال صدام بين الجانبين لتبرير التوازن الجديد القائم في البلد انطلاقا من العاصمة.&
صار واردا تولي شخص تربّى في ايران على يد "الحرس الثوري" موقعا وزاريا ذا علاقة بالتربية... وصار واردا ايضا ان يكون "الحشد الشعبي" الذي يضمّ مجموعة ميليشيات مذهبية بديلا من الجيش العراقي، بل فوق الجيش العراقي الذي فشلت عملية اعادة بنائه فشلا ذريعا. يختزل تقبيل الضابط العراقي الذي كان مسؤولا عن امن "المنطقة الخضراء" في بغداد ليد مقتدى الصدر كلّ المأساة العراقية. صحيح انّه جرى تغيير هذا الضابط لاحقا، لكن ما حصل قد حصل وانكشفت حقيقة ما هو الجيش العراقي الجديد ونوع ضباطه والنفسية التي تتحكّم بضبّاطه وعناصره.
يظهر &بعد كلّ هذه السنوات التي مرّت على الغزو الاميركي للعراق ان هدف الولايات المتّحدة عبر ادارتي جورج بوش الابن وباراك اوباما لم يكن الانتهاء من النظام الذي كان قائما في البلد. كان الهدف الانتهاء من العراق نفسه من جهة والاخلال بالتوازن الاقليمي، اخلالا ذا طابع جذري، من جهة اخرى. كان النظام القائم نظاما لا يستأهل الحياة ولا يليق بالعراقيين، لكن العراقيين لا يستأهلون نظاما اسوأ من ذلك الذي سعوا الى التخلّص منه ولو بواسطة دبّابة اميركية!
لا يمكن تفسير تطوّر الاحداث منذ بدأ الاجتياح العسكري الاميركي للعراق بتنسيق كامل مع ايران في آذار ـ مارس 2003، الّا من خلال الرغبة في القضاء على بلد كان في استطاعته لعب دور طليعي في المنطقة، في ضوء ما كان يمتلكه من ثروات طبيعية، اضافة بالطبع الى الثروة الانسانية المتمثّلة بمستوى التعليم في الجامعات العراقية.
في الواقع، لم يكن من رجل صادق بين الذين تحدثوا عن النتائج التي ستترتّب على احتلال العراق سوى وزير الخارجية الاميركي وقتذاك. كان اسمه كولن باول. سبق لباول ان خدم في الجيش الاميركي في موقع رئيس الاركان ابان حرب تحرير الكويت مطلع العام 1991. لعب دورا اساسيا في العداد لعملية الانتهاء من الاحتلال العراقي لهذا البلد المسالم وفي اعادته الى اهله.
شارك باول، في العامين 2002 و 2003، بصفته وزيرا للخارجية الاميركية، في ايجاد الاعذار الكاذبة والواهية في مرحلة الاعداد للعملية العسكرية في العراق. لكنّه قال ايضا كلاما ظهر مع الوقت انّه في غاية الاهمّية وذلك عندما تحدّث عن "اعادة تشكيل المنطقة". نعم، هناك اعادة تشكيل للمنطقة واعادة رسم لخرائط الدول فيها انطلاقا من العراق. يستحيل الآن توحيد الدولة العراقية بأيّ شكل، لا لشيء سوى لانّ الميليشيات المذهبية التي نشأت نتيجة الاحتلال الاميركي لا يمكن ان تبني دولة. فكرة الميليشيا المسلّحة هي اصلا ضدّ الدولة، فكيف اذا كان هذه الميليشيا تتميّز بانّها مذهبية وبأنّ مرجعيتها في ايران.
لا يمكن بالطبع تجاهل الدور الذي لعبه النظام السابق في مجال هلهلة نسيج المجتمع العراقي، خصوصا بعد خوضه حربين الاولى ضد ايران بين 1980 و 1988 والثانية ضدّ المجتمع الدولي عندما احتلّ الكويت في العام 1990، غير مدرك لعواقب مثل هذه المغامرة المجنونة.
بلغ العراق في العام 2016 نقطة اللاعودة، خصوصا بعدما صارت آمال قسم من العراقيين معلّقة على رجل دين مثل مقتدى الصدر لا يمتلك مشروعا سياسيا او اقتصاديا او حضاريا من ايّ نوع.&
تستهوي شعارات مقتدى الصدر العراقيين، خصوصا عندما يطالب بـ"الاصلاح" ويتحدّث عن حربه على "الفساد" ورفضه لـ"المحاصصة". لا شك ان كلامه عن السنوات التي كان فيها نوري المالكي رئيسا للوزراء كلام حقيقي، ولكن ما الذي يستطيع مقتدى الصدر عمله من اجل اصلاح الاضرار التي خلّفها المالكي وحزبه المذهبي المرتبط عضويا بايران؟
ذهب مقتدى الصدر الى ايران ام لم يذهب، لا فارق. كان مهمّا ان يطلق انصاره اخيرا شعارات معادية لايران من نوع "ايران برّا"، وان يهاجموا قائد "فيلق القدس" في "الحرس الثوري" الايراني الجنرال قاسم سليماني. لكنّ السؤال الذي يبقى مطروحا كيف يمكن ترجمة مثل هذه التصرفات في الداخل العراقي.
لا قيمة تذكر لكلّ ما يفعله مقتدى الصدر. تكمن القيمة الحقيقية لتصرّفاته العشوائية في انّها تكشف غياب ايّ امل في ايّ مستقبل افضل للعراق. المكان الوحيد الذي يصلح نقطة انطلاق لتبيان ما يمكن عمله، او على الاصحّ، ما اذا كان في الامكان عمل ايّ شيء، هو الاعتراف بانّ العراق الذي عرفناه منذ عشرينات القرن الماضي لم يعد قائما.&
هناك منطقة كردية تسعى الى الاستقلال، وهذا تصرّف اكثر من مشروع واكثر من مبرّر للقادة الاكراد. وهناك العراق الآخر الذي تتقاسمه الميليشيات الشيعية الموالية لايران التي بات غطاؤها ما يسمّى "الحشد الشعبي". وهناك العراق السنّي الواقع تحت سيطرة "داعش" وما يشبه "داعش" من تنظيمات ارهابية تقتات من حصاد ما زرعته ايران الخبيرة في اثارة الغرائز المذهبية والاستثمار فيها.
في ظلّ هذه المعطيات، يبدو مقتدى الصدر ظاهرة فولكلورية لا اكثر. انّه اقرب الى رجل يبحث عن دور في مكان لم يعد فيه من دور في بغداد سوى لميليشيات تسيّرها طهران وتتحكّم بمؤسسات دولة غير موجودة. تحوّل مقتدى الصدر، مثله مثل اي سياسي عراقي، بما في ذلك رئيس الوزراء الدكتور حيدر العبادي الى جزء من الديكور في مسرحية اقلّ ما يمكن ان توصف به انّها عبثية.
يحدث كلّ ذلك في ظلّ تفاهم اميركي ـ ايراني ازداد عمقا في عهد باراك اوباما بعدما اسّس له جورج بوش الابن. اذا كان من فحوى بدأت تتبلور في ظلّ هذا التفاهم، فهذه الفحوى هي ان العراق صار دولة فاشلة. انّها دولة فاشلة الى درجة صار في استطاعة مقتدى الصدر لعب دور البطولة على مسرح لا مكان فيه لا لبطولات ولا لابطال من ايّ نوع كان. & & & &
&
&