مدينة "القامشلي"، أقصى الشمال الشرق السوري. أخذت اسمها عن كلمة ( قاميش ) التركية وهي تعني (نبتة القصب)، المنتشرة بكثرة على نهر الجقجق العابر منها. ظهرت على الخريطة السورية بعد رسم الحدود السياسية بين تركيا وسوريا عام 1923. بناها سريان آشوريون، نزحوا من مناطقهم التاريخية في ولايتي (ماردين و دياربكر - تركيا)، هرباً من عمليات التطهير الديني والعرقي لمسيحيي السلطنة العثمانية 1915. خلال سنوات قليلة، لملم السريان (الآشوريون) جراحهم، طوروا بلدتهم الجديدة (القامشلي) الى مدينة نموذجية جميلة، تعج بالحياة الاقتصادية والنشاطات الثقافية والاجتماعية والرياضية. وَفروا لها أسباب ومقومات المدنية والحداثة. فتحوا مكاتب تجارية لشركات أمريكية وأوربية، مثل (كاتربلار وأنتر). جلبوا اليها مصارف(بنوك) أجنبية، (البنك الفرنسي). شيدوا صروح للعلم والثقافة (مدارس، جمعيات ثقافية واجتماعية، أندية رياضية، دور السينما، مطابع). عن السريان ودورهم في ازدهار القامشلي، كتب الكاتب الكردي، ابن القامشلي، (رستم محمود) مقالٍ في جريدة (المستقبل) اللبنانية بعنوان (سريان القامشلي سنديان المدينة) يقول فيه: " كمثل المسرح والسينما والمقاهي، فأن السريان أنتجوا كل جديد لسكان المدينة الملونين. &الخيّاطات السريانيات أبدعن أجمل الفساتين وأرقها. سباكو الذهب السريان كانوا أول من خلصوا سكان المدينة من أنماط الحُلي التقليدية. باعة الورود ومعلمو المدارس، خطاطو المدينة ومغنيها. مسبح النساء الأول كان سريانيا، شهر العسل الأول قضاه عروسان سريانيان. الفرقة الكشفية الأولى والمكتبات الأولى، وتقريبا كل شيء جديد، كان سريانيا".&
بمحاذاة القامشلي، شمالاً من الطرف التركي للحدود، تقع مدينة "نصيبين" الآشورية التاريخية. في القرن الرابع الميلادي كانت نصيبين تضم "أكاديمية" علمية، تُعلم فيها مختلف العلوم باللغة السريانية. جاهد سريان القامشلي، لجعل مدينتهم، كما كانت نصيبين القديمة، (منارة للثقافة السريانية ومركز إشعاع حضاري). ارادوا القامشلي "وطنِ" مصغر. يمارسون فيه شعائرهم وعاداتهم وتقاليدهم الدينية والقومية والاجتماعية بحرية وأمان ودون خوف، تحت العلم الوطني لسوريا التي يتفاخرون بالانتماء لها وعنهم أخذت اسمها. لكن الرياح جرت بما لا تشتهي السفن الآشورية المُبحرة في بحر اسلامي هائج. فالوحدة بين سوريا ومصر 1958، كانت نذير شؤم. أثارت العصبية القومية لدى العروبيين. &جمال عبد الناصر بزيارته الى القامشلي 1959، أجج الأحقاد العرقية باكراً لدى القوميين العرب في الجزيرة السورية، تجاه الآشوريين وبقية الأقوام الغير عربية. امتعض جمال كثيراً من فرقة (الكشافة السريانية) وهي تستقبله بزيها العسكري. لم يخف صدمته واستياءه، وهو يرى القامشلي ذات غالبية سريانية آشورية مسيحية و السريان هم من يديرون مؤسسات ودوائر الدولة في المدينة. غادر عبد الناصر القامشلي وشبح "الوجود الآشوري" يلاحقه الى القاهرة. فهو رأى في هذا الوجود خطراً على مشروعه القومي العربي. سقطت الوحدة السورية -المصرية، لكن من غير أن تسقط الناصرية في سوريا. بقيت بفكرها الشمولي وفلسفتها القومية، تهيمن على الذهنية الثقافية والعقلية السياسية للقوميين العرب السوريين. أنهم (القوميون العرب) لم يترددوا في تطبيق ما أوصى به عبد الناصر من إجراءات تعسفية وقوانين عنصرية، لتقويض عمل ونشاط المؤسسات والجمعيات السريانية الآشورية الكلدانية الأرمنية. بالنظر لما كان لـ"نادي الرافدين السرياني" من حضور ودور بارز ومهم في التأثير على الراي العام المحلي وتوجيه الناخبين في الانتخابات البرلمانية، كان هذا النادي أولى ضحايا الناصرية. فقد تم اغلاقه من قبل القائد العسكري في القامشلي العميد (فرحان الجرمقاني) بعد المهرجان(كرمس) الذي اقامه النادي 15 ايلول 1962.
انقلاب (حزب البعث العربي الاشتراكي) على السلطة (آذار 1963) واحتكاره لها، شكل ضربة قوية أخرى، أكثر موجعة لآشوريي القامشلي. فالبعث، شدد الحصار على مؤسساتهم وجمعياتهم ومدارسهم الخاصة. انتهج سياسة التمييز العرقي والتطهير الثقافي بحقهم، وبحق جميع السوريين من غير العرب. البعثيون حكوا سوريا بعقلية "الغازي المحتل", فرضَوا "قوانين التأميم"، التي شللت نشاط الشركات الاقتصادية (تجارية صناعية زراعية) في القامشلي والجزيرة، بمعظمها كانت سريانية آشورية ارمنية. دكتاتورية النظام البعثي وسياساته الحمقاء اللاوطنية، على مدى عقود، قادت البلاد الى حرب داخلية كارثية مستمرة منذ أكثر من خمس سنوات ولا يبدو من نهاية قريبة لها. هذه الحرب، بمفاعيلها وإفرازاتها الخطيرة، وضعت آشوريي القامشلي امام خيارات صعبة وتحديات بالغة الخطورة، لا تتعلق بمستقبلهم السياسي وحقوقهم الديمقراطية فحسب، وإنما بوجودهم وبقائهم في المدينة، التي وضعوا لبناتها الأولى قبل نحو قرن من الزمان. الحرب جعلتهم ضحية لأجندات سياسية وعرقية وطائفية لقوى وأطراف، محلية واقليمية ودولية، تتصارع على الأرض السورية. ما يسمى بـ" الادارة الذاتية الكردية" المعلنة في منطقة الجزيرة، وهي من مفرزات الحرب الراهنة، لا تبدوا في صالح الآشوريين (سرياناً وكلدناً). كل المؤشرات والمعطيات حتى الآن تؤكد على أن الآشوريين خارجون من تحت "الاستبداد العربي" ليدخلوا تحت "الاستبداد الكردي"، قد يكون أشد قساوة من الأول. &قبل أشهر، تم استهداف مسيحيي القامشلي بسلسلة تفجيرات ارهابية، ضربت أحيائهم الآمنة وسط المدينة. تلا هذه التفجيرات، اشتباكات مسلحة بين الأسايش الكردية وقوات السوتورو (قوات الحماية الآشورية المسيحية)، على خلفية قيام الاسايش بإزالة "الحواجز الأمنية" التي اقامها السوتورو لتحصين الأحياء المسيحية في المدينة. قبل ايام، شهدت القامشلي مواجهات مسلحة، بين قوات كردية وأخرى عربية تساندها قوات النظام. من غير أن يكون المسيحيين طرفاً فيها، كانت أحيائهم ومناطقهم مسرحاً لها، وقع لهم قتلى وجرحى، حصلت عمليات نهب وسلب لمنازلهم في منطقة الاشتباكات. هذه الأحداث الدامية، فتحت الذاكرة التاريخية الأليمة للسريان الآشوريين، هزت وجودهم وكيانهم، ليس بسبب ما أوقعته من قتلى وجرحى بينهم وهم بالعشرات، وإنما لأنها حملت لهم "رسائل من دم"، جاءتهم ممن يعيشون معهم وبينهم.
القامشلي، تعد اليوم من كبرى مدن الجزيرة السورية، يسكنها أكثر من 300 ألف نسمة، تراجع تعداد الآشوريين (سرياناً وكلدناً) والمسيحيين عموما الى صالح الأقوام الأخرى الوافدة اليها (أكراد وعرب). ماضي وحاضر آشوريي القامشلي، يلخصان حكاية شعب عريق (الشعب الآشوري)، أعطى الحضارة الانسانية الكثير (بنى أقدم المدن، سنَ أقدم الشرائع، وضعَ الابجدية الأولى)، انتهى الى شعب مُبعد عن موطنه التاريخي (بلاد ما بين النهرين)، مهاجر، يبحث عن وطن بديل&
&
&باحث سوري مهتم بقضايا الاقليات
&
التعليقات