في منطقة تتسم بقدر هائل من التعقيدات والتشابكات الاستراتيجية، أكمل مجلس التعاون لدول الخليج العربية في الخامس والعشرين من مايو الماضي عامه الخامس والثلاثون، وهي محطة تاريخية يمكن التوقف عندها لتقديم جردة حساب لمسيرة المجلس على المستويين التنظيمي والتنفيذي.
بداية يجب التأكيد على أن هذه الاستمرارية ـ وسط هذه الظروف ـ تعد بحد ذاتها نجاح يحسب لدول مجلس التعاون الست، وهذا ليس تبريراً لاخفاقات أو تراجعات، فكثيرة هي النجاحات التي حققها مجلس التعاون على المستوى التنظيمي، وأيضا على مستوى ضمان الأمن والاستقرار والتصدي للتهديدات والتحديات التي تواجه الدول الأعضاء، فضلا عن الانجازات المحققة على المستويات الاقتصادية والأمنية والثقافية والسياسية والرياضية. وهي انجازات أسهمت بقدر ملموس في ابقاء شعوب دول المجلس على تواصل وتقارب دائم طيلة تلك الفترة.
ربما تعثر المجلس في إنجاز بعض المشروعات الاستراتيجية الكبرى مثل مشروع الاتحاد النقدي، ولكن هذا التعثر وارد في مسيرة المنظمات والاتحاد الكبرى، ولا يعني فشل المنظمة أو الاتحاد بالضرورة؛ وإذا كان المجلس قد استطاع أن يجسد فلسفة الوحدة التي آمن بها المغفور لها بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان ـ طيب الله ثراه ـ وإخوانه مؤسسي المجلس من قادة دول مجلس التعاون، فإن النظر الموضوعية لمسيرته التاريخية تؤكد أنه نجح في تحقيق الكثير من أهدافه، ولاسيما ما يتعلق بالشق الخاص بالحفاظ على أمن واستقرار دول المجلس في مواجهة تحديات وتهديدات اقليمية صعبة.
لقد تأسس مجلس التعاون في ذروة الجموح المذهبي والمد الثوري الايراني لمواجهة التطلعات الايرانية التوسعية، التي لم تتوقف بل طرأت تغيرات تكتيكية عليها، كما مر المجلس بظروف بالغة الصعوبة حين قام نظام صدام حسين بغزو دولة الكويت الشقيقة في الثاني من أغسطس عام 1990، ليضع دول المجلس في مواجهة اختبار وتحد استراتيجي غير مسبوق وتم تجاوز تلك المحنة بتضافر الدول الأعضاء مع الدول الشقيقة والصديقة، وبقي الدرس الأهم وهو أن وحدة المصير والمصالح المشتركة بين دول مجلس التعاون ليست مجرد شعارات بل واقع أثبتته جريمة الغزو العراقي للكويت.
ومن استقراء المسيرة التاريخية لمجلس التعاون، يبدو للقارىء كأن هذا المجلس ولد وتأسس ليواجه التحديات، فلا يكاد يمر عام أو عامان حتى تشهد المنطقة اختباراً استراتيجياً جديداً، فبعد سقوط نظام صدام حسين في عام 2003، شهد العراق اضطرابات أمنية وسياسية اتخذت منها إيران بوابة للنفاذ إلى هذا البلد العربي العريق، وبلغ بها الأمر حد تفاخر علي يونسي، مستشار الرئيس الإيراني، حسن روحاني، بإن "إيران اليوم أصبحت امبراطورية كما كانت عبر التاريخ وعاصمتها بغداد حاليا، وهي مركز حضارتنا وثقافتنا وهويتنا اليوم كما في الماضي"، وهو تحد استراتيجي معقد لمجلس التعاون ليس فقط لأن العراق دولة عربية كبيرة مؤثرة في معادلة الأمن والاستقرار الاقليمي، ولكن أيضاً لأن التوغل الايراني في العراق قد أسال لعاب الايرانيين لاستنساخ اللعبة ذاتها في اليمن، حيث سعت إيران إلى تطويق دول مجلس التعاون عبر وكلائها من جماعة الحوثي، التي استقوت بإيران للسيطرة على مفاصل السلطة الشرعية في اليمن، مادفع المملكة العربية السعودية إلى تشكيل تحالف عربي بقيادتها للتدخل دفاعاً عن الشرعية الدستورية في هذا البلد العربي المؤثر في معادلات الأمن الاقليمي الخليجي.
والمؤكد أن تقويض الإطار المؤسسي لمجلس التعاون ظل هدفاً استراتيجياً إيرانياً منذ تأسيسه، فلم تترك طهران فرصة إلا واستغلتها لمحاولة تفكيك وحدة دول المجلس، حيث عملت على توظيف اوراقها كافة من أجل تحقيق هذا الغرض، وكادت أن تحقق اختراقات جزئية يصعب انكارها على هذا الدرب، ولكن حكمة قادة دول مجلس التعاون وقفت دائما حائلا دون تحقق هذا الهدف الايراني.
تعرض مجلس التعاون أيضاً لاختبار صعب عقب اندلاع فوضى واضطرابات اقليمية عارمة في عام 2011، حيث سقطت أنظمة حكم في دول عربية عدة، في مقدمتها الشقيقة الكبرى مصر، التي يعد أمنها واستقرارها جزء لا يتجزأ من أمن واستقرار دول مجلس التعاون، لذا فقد اخدت بعض دول المجلس، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية ودولة الامارات العربية المتحدة، على عاتقها الامساك بزمام المبادرة وتقديم الدعم الكامل لمصر في هذا الظرف التاريخي، وهي النظرة التي أثبتت صحتها وأكدت بعد نظر قادة دول مجلس التعاون ورؤيتهم الاستشرافية العميقة التي اعتبرت أن ما يوصف بثورات الحرية والتغيير ليست سوى مؤامرات تدار بأيد خارجية وتنفذ عبر أدوات داخلية من تنظيمات وجماعات مثل جماعة الاخوان المسلمين الارهابية وغيرها، بحيث استغل منفذو المؤامرة ظروفاً تنموية قاسية تعانيها هذه الدول وتلوح بها من أجل إحداث الفوضى التي باتت واضحة في دول مثل سوريا والعراق وغيرها.
اليوم، لم تتراجع مستويات التهديد الاستراتيجي التي تواجه دول مجلس التعاون، بل أضيف إليها الارهاب، الذي يسيطر على مناطق شاسعة في العراق وسوريا، كما يكثف نشاطه في اليمن، في حين تتواصل التدخلات والأطماع الايرانية التي لم تعد تتوارى خلف شعارات كما كان في السابق، بل باتت علنية بشكل سافر تحت لافتات مذهبية مثل "حماية المستضعفين" وغير ذلك من شعارات طائفية تستخدمها إيران التي تنصب نفسها راعية للشيعة من دون أدنى اعتبار لمبادىء القانون الدولي وما استقرت عليه القواعد والأعراف الدولية بشان مبادىء حسن الجوار وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى وغير ذلك.
يعتقد البعض أن اخفاق مجلس التعاون في الانتقال من مرحلة التعاون إلى مرحلة الاتحاد الخليجي بحسب الفكرة التي طرحها العاهل السعودي الراحل الملك عبد الله بن عبد العزيز في عام 2011، يمثل هذا دليل على صعوبات التطور التي تواجه الكيان المؤسسي وإطاره التنظيمي، ولكن هذا التحليل ليس دقيقاً لأسباب واعتبارات عدة، أولها أن مسيرة المجلس تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك وجود إرادة فائقة على التماسك والاتحاد في مواجهة الأخطار والتهديدات الوجودية والمصيرية، وبالتالي فإن فكرة الاتحاد قائمة بل هي روح المجلس بغض النظر عن الأطر المؤسسية الناظمة للعلاقات بين دوله الست، فالاحساس بالتماسك ووحدة المصير بين شعوب دول المجلس يفوق أي أطر تنظيمية قائمة، بل يتجاوز هذه الأطر ويتفوق عليها ويثبت ذاته ويؤكد مقومات وركائز قوته في لحظات الشدة والمحن.
&ولكن ماسبق لا يعني أن مسيرة مجلس التعاون "مثالية" في تطورها التاريخي والتنظيمي، بل تعاني العديد من الأخطاء والارتباكات، فهناك خروج عن الخط الخليجي من بعض الدول الأعضاء في فترات كثيرة، وهناك صعوبات تواجه بناء سياسة خليجية مشتركة حيال ملفات حيوية مثل العلاقة مع إيران، فضلاً عن الصعوبات والعراقيل على الصعيد الوحدة الاقتصادية وغيرها، ولكن هذه في مجملها أمور متعارف عليها في الاتحادات الاقليمية، لاسيما في ظل تعقد المصالح الدولية وتشابكهاـ بحيث يبقى مجلس التعاون إحدى قصص النجاح التي تحققت في منطقة الخليج العربي.
&