&

سينتظر الجميع طويلا لمعرفة أسرار ووقائع ليلة الجمعة التركية، التي &شهدت نموذجاً جديداً من الانقلابات، حمل في قلبه جذور فشله، حيث تميزت تحركات الانقلابيين بعدم الجدية، إذ لم يتم اعتقال أي من قادة الدولة، ولم تتم السيطرة الكاملة على وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، التي استغلها أردوغان ودعا من خلالها أنصاره للخروج إلى الشارع، لمؤازرة جهازي الشرطة والمخابرات، الذين تصديا للإنقلابيين باعتبارهما الذراع العسكري والأمني الفعلي لحزب العدالة والتنميه.
&
هل ينجح القمع؟
ينتظر الجميع اليوم حملة القمع التي يتوعد بها أردوغان، وقد امتلك فرصة ذهبية للقضاء على &كل الخصوم، مُعززاً بالشرعية الديمقراطية والتفاف القوى السياسية حوله، دفاعاً عن شرعية الصندوق، وانسجاماً مع حالة الرفض الحزبي المعروف للعسكر بشكل عام، ويعي الرئيس جيداً أن فشل المحاولة لايعني أنها ليست تعبيراً عن رفض المؤسسة العسكرية لسياساته الداخلية والخارجية، وهي المؤمنة بدورها في حماية علمانية الدولة، ورفض التحولات التي يقودها أروغان، ولعل عدم قدرته على بسط هيمنته على الجيش، يفسّر الإهانة التي تعرض لها العسكريون بعد فشل الانقلاب، على يد المخابرات وأعضاء الحزب.
&
الصفات الشخصية لأردوغان، المتسمة بالاعتزاز "الغرور" والعناد، تجعل من الصعب توقع مستقبل تركيا، رغم أن البعض يتوقع منه استدارة كاملة في سياساته، بدليل تطبيع العلاقات مع إسرائيل وروسيا، والاتجاه نحو تطبيعها مع سوريا والعراق، والتخلي كُلياً عن مواقفه تجاه معظم ملفات السياسة الخارجية، أمّا داخلياً فإن السؤال، هل يستمر في حملة التطهير الكبرى، مُتّخذاً من محاولة الانقلاب فرصة للانقضاض على خصومه السياسيين والعسكريين، تمهيداً لتعديل الدستور ومنحه كرئيس صلاحيات مطلقة، أو يعتبر بما جرى، فيتجه لمزيد من الانفتاح على المعارضة والقوى السياسية والإعلام، بعد أن أدخلت ليلة الانقلاب تركيا في زمن آخر، لن تكون فيه كما كانت قبله.
&
لايقف الغرب مكتوف الأيدي تجاه التطورات المتسارعة، وهو بدأ بالتحذير من التمادي في عملية تطهير الدولة من معارضي أردوغان، وفي المقدمة الطلب من واشنطن تسليم أنقرة الداعية فتح الله غولن، وتسويغ إمكانية اللجوء مجدداً إلى عقوبة الإعدام بحق المتهمين بالانقلاب، بعد الحصول الشكلي على قرار برلماني، فيما تتكثف عمليات الاعتقال لتشمل موظفين مدنيين بعيدين عن أجواء الانقلابات، بينما يتواصل التجاذب الكلامي بين أنقرة وحلفائها الغربيين، حول طبيعة هذه الملاحقات، فالمستشارة الألمانية أبلغت أردوغان أن إعادة تطبيق عقوبة الإعدام، سيقضي على أي فرص لانضمام بلاده إلى الاتحاد الأوروبي، وأعلن البيت الأبيض أن من المهم التحلي بضبط النفس، واحترام ومراعاة الإجراءات القانونية، وحماية الحريات التي يكفلها الدستور، بالتزامن مع تلميحات بأنّ عدم احترام مبادئ الديموقراطية، يهدّد وجود تركيا في "الأطلسي".
&
الفرصة الهبة لتحجيم حماة العلمانية
على الأرض منحت محاولة الانقلاب للرئيس التركي فرصة تقزيم المؤسسة العسكرية، وطرح النظام الرئاسي بصلاحياته المطلقة، ومطاردة أنصار حليفه السابق غولن، وهنا تتسارع الخطوات لإصدار قانون جديد يسمح بتسليح المدنيين من أنصار أردوغان الحزيين، وبما يحول البلاد إلى دولة "بلطجية"، إضافة إلى منح قوات الأمن والوحدات الخاصة التابعة لوزارة الداخلية سلطات إضافية، بحيث يكون لها اليد العليا، جنباً إلى جنب مع أجهزة المخابرات التابعة مباشرة للرئيس، الذي قضى على قوام المؤسسة العسكرية، وأفرغ دورها وثقلها، وأفقدها السمعة والاحترام في الشارع التركي، بعد أن منحه الانقلاب فرصة تغيير الدستور عبر استفتاء شعبي، قبل نهاية العام الجاري، ليصبح رئيساً بصلاحيات مطلقة، ليقضي على كافة أنواع المعارضة الديموقراطية، وينجح في السيطرة على الشارع من خلال أنصاره المسلحين، والمستعدين للتصدي لأي تحرك معارض، ما ينذر بحرب أهلية قد تحركها بعض القوى الداخلية والخارجية، ضد المعارضة اليسارية أو ضد الأقليات كالعلويين والكرد، خاصة مع اتباع أردوغان سياسات ملائمة لمثل هذا الاحتمال.
&
هل ثمة مؤامرة؟؟
&
يؤكد الكثير من الساسة الأوروبيين نظرية المؤامرة، استناداً إلى عمليات الاعتقال السريعة لآلاف القضاة وضباط الجيش، بعد محاولة الانقلاب الفاشلة، بمعنى أنه توفرت عند حكومة أنقرة قائمة موقوفين جاهزة مُسبقًا، بينما يتزايد الحديث عن اكتشاف أردوغان تكتل بعض الجنرالات والضباط الكبار، الذين كانوا يعرفون أنه سيتم عزلهم في نهاية الصيف، وقرر أن يُعطيهم فرصة للوقوع في الفخ، وكان يعرف أن ذلك التحرك سيبدأ باعتقاله من الفندق، الذي كان ينزل فيه في مرمرة، وقد تمكن من الهرب في الوقت المناسب، وترك الانقلابيين يُفجرون الفندق فوق رؤوس نزلائه، بينما ادعت صحيفة نيويورك تايمز، أن هناك خدعة مُخطط لها مُسبقاً برئاسة أردوغان، وطرحت الكثير من التساؤلات التي بقيت من دون إجابات، ومن غير المتوقع أن تحظى بإجابات في المستقبل، ومنها هل كانت هناك محاولة حقيقية برئاسة الانقلابيين لتغيير القيادة الحالية؟ من الذي كان سيحل مكان أردوغان؟ ولماذا لم تكن هناك أي خطة للسيطرة على الوسائل الإعلامية ولا لتجنيد الجماهير.

هيبة مهزوزة لأردوغان والجيش
&
أمران مُهمان تأكدا بعد المحاولة، أن هيبة اردوغان اهتزت بقوة، تماماً كحال المؤسسة العسكرية التي نُكِّل بأفرادها وضباطها في الشوارع، لا أردوغان سيكون غداً مثلما كان قبل محاولة الانقلاب، ولا الجيش الذي ظل يوصف بأنه حامي العلمانية، سيكون مهاب الجانب بعد اليوم. سيحتاج أردوغان إلى سلسلة من الخطوات القاسية لترميم نفسه وسلطته. وهاهو يلوح بعودة المشانق قريباً، بعد أن منحه الانقلابيون الفرصة، وهو الذي لم يعتد التراجع أمام خصومه، وكل التقديرات تشير إلى أنه سيذهب بعيداً في اقتلاع مَن تبقى منهم، وان السلطان المطعون في هيبته، سيعود اكثر سطوة. حيث أظهرت الكثير من المشاهد أن أنصار أردوغان من الإسلاميين مارسوا الكثير من عمليات التنكيل والقتل، وأن القوة الانقلابية، لم تظهر الحزم الكافي أمام مَن يُفترض بها اقتلاعهم، في دولة تمدد فيها أردوغان وأنصاره في مختلف ميادين البلاد، لكن المؤكد أن ليلة الجمعة، ستترك ندوباً كثيرة في الجسم التركي، ولعل المشانق ستفتح المزيد من الجروح في ذاكرة الأتراك، ولن تكون شافية للاحتقان الذي استوطن جسد هذه البلاد طويلاً.
&
الهدية المنتظرة
&ليلة الجمعة تحولت الطعنة إلى هدية، بعد أن اهتزت صورة السلطان، حيث انتهت سياسة تصفير المشاكل بتصفير الصداقات، ولم يعد النموذج التركي مغرياً لأحد، على غرار ما كان في بدايات الربيع العربي. كان خصومه يستعدون لمحاسبته، لعدم إدراكه خطورة اللعب مع الذئاب، بتسهيله مرور الإرهابيين متوهّماً أنهم يعملون في اتجاه واحد، وأنه تنكّر لوعوده للكرد فعادت قنابلهم إلى الانفجار بجنوده، وأن أخطاءه مع واشنطن وموسكو معاً، دفعتهما إلى رعاية كرد سوريا ووضعتهم على طريق إقليم في دولة فيديرالية. وباتت دولته شبه مطوّقة بالوحدات الكردية، وميليشيات سليماني. بينما سادت العواصم الغربية شكوك عميقة، حول موقفه من أزمة اللاجئين، فضلاً عن الديموقراطية والعلمانية، وفجأة ارتكب الكولونيلات غلطة العمر، تدخّل الحظ والشعب وتوحّدت الأحزاب، وبدأت رؤوس الضباط والقضاة في التدحرج، وأغلب الظن أن كمال أتاتورك سيموت ثانية لو رأى عسكريين يرفعون أيديهم مستسلمين لعسكريين آخرين، جاؤوا في صحبة مدنيين.
&
تهميش الجيش
&
لم تعد الكلمة الأولى للجيش الذي أسس الجمهورية، وظل راعياً لعلمانيتها، فالمحاولة الانقلابية حسمت النزال، فقد سعى حزب العدالة، طوال فترة حكمه إلى تغيير هوية الجمهورية، وواجه صعوبات وتهديدات في طريق دفن البيروقراطية العسكرية، وإلغاء هيمنتها على مؤسسات الحكم، قبل الانقلاب كان أردوغان يمر في حال ضعف، فقد جلبت له سياسته ومواقفه الخارجية وتصريحاته الاستفزازية والمتضاربة أعداء كثراً، وخصومات حتى مع أقرب الشركاء، وتعرض لسيل من الانتقادات في الداخل، بسبب تفرده في اتخاذ القرارات، وانتهى به الأمر إلى تضييق الخناق على شركائه في تأسيس الحزب وقيادته في أصعب الظروف، حتى أخرجهم من الصورة نهائياً، وكان يأمل بأن يوفر له فك عزلة بلاده خارجياً، وقوداً يعينه على مواجهة متاعبه الداخلية، خصوصاً في الحرب الدائرة مع حزب العمال الكردستاني وصعود نجم الكرد، أميركياً وروسياً، في كل من سورية والعراق.
&
هل يخرج أردوغان قوياً؟
يظن كثيرون أن أردوغان سيخرج قوياً بعد المحاولة الانقلابية لكن ذلك لن يخفي ما أصابه من جروح، كما أن رد الفضل إليه وإلى حزبه وحدهما في إحباطه فيه شيء من تجاهل الواقع، فالأحزاب والقوى السياسية، وحتى تلك التي كانت تسلم بدور الجيش، وقفت ضد الاعتداء على الحكم الديموقراطي، وقاومت عودة العسكر، متجاوزة خلافاتها مع الحزب الحاكم، كما أن قيادات في الجيش والشرطة رفضت الانجرار وراء الانقلابيين، وهو ما رسخ روح الانضباط في هاتين المؤسستين، والرضوخ نهائياً لإرادة &السلطات السياسية، التي يفترض أنها وليدة انتخابات شعبية، ولا شك في أن الإجماع الدولي والإقليمي على إدانة المحاولة الفاشلة، يؤكد أهتمام هذا المجتمع باستقرار تركيا، في منطقة تأكلها النار، فلا أحد يرغب في رؤية هذا البلد يغرق في حرب أهلية ستفاقم الفوضى في الإقليم وتهدد السلم العالمي.
&
المخاطر مستمرة
سيكون من الصعوبة على تركيا، التي نجت من الانقلاب، أنْ تبتعد عن عين العاصفة، وعن عوامل الاضطراب في تركيبة النظام، الذي يديره أردوغان بأسلوب شخصي، يقوم على النَزَق وتصفية الحسابات، وليس على العقلانية السياسية، وتوسيع مروحة التوافقات الوطنية، وسيكون أردوغان أقوى بالفعل، لو أنه يتعلّم من حادثة الانقلاب، ضرورة تقوية مؤسسة الجيش وتعزيز استقلاليتها وحياديتها، بوصفها مؤسسة وطنية تظلل جميع الأتراك، أما إن اتجه إلى "تصفية الخصوم وتنظيف الجيش"، فإن هذا سيكون طريقاً لكسر احترافية الجيش واستقلاليته، وسيكون أقوى في حال نجح في امتحان توسيع دائرة التوافقات الوطنية، وقدَّر أنّ من حماه من الانقلاب هو الشعب الذي خرج إلى الشوارع، والنخبة السياسية، ومنها المعارضة الكردية، الذين تناسوا خلافاتهم معه، ولم يصدر عنهم أي تأييد للانقلاب، والأهم المؤسسة العسكرية نفسها، وقوى الأمن والشرطة التي أعادت السيطرة على المؤسسات بسرعة، وحررت رئيس هيئة الأركان.
&
على مفترق طرق
تركيا انتصرت للحكومة الشرعية، لكنها على مفترق طرق، فإما صعود نفوذ السلطان والحزبية الضيقة، وإما صعود الاحترافية المؤسسية وترميم النموذج الديموقراطي، وتسلط محاولة الانقلاب الضوء على الأزمة الداخلية، وتذكر بأن هناك قوى لها مطالب، بلغ تمسكها بمطالبها وإلحاحها عليها مرحلة الانفجار، لذلك فإن على الرد أن يأخذ بالحسبان مراجعة السياسات، وربما يكون ضرورياً التوقف أمام محاولة أخونة تركيا، والتخلي عن فكرة بناء نظام رئاسي يحمل من سمات الديكتاتورية، ما يشبه الكثير من سمات الديكتاتورية العسكرية التركية، لأن هناك من يقف ضد ذلك، سواء من خلال القنوات الشرعية التي يضبطها النظام ويحميها القانون، أومن يعاديها قتالياً، بخاصة من قبل الكرد، فالخصومة التي تحملها قوى مختلطة لا تتفق مع أردوغان، ولكل طرف منها مصالحه وسياساته، تشترك جميعاً مع حزب العدالة والتنمية في جعل المشهد السياسي التركي مشهداً مضطرباً وصاخباً.
&
رفض الانقلاب لايعني تأييد أردوغان
مهم الوعي بأن رفض الأحزاب السياسية للانقلاب، ليس تأييداً للطاقم الحاكم، ولا هو إقرار بسياساته أو دفاع عنها، بل هو دفاع عن قيم محددة بات قائمة في الجمهورية التركية، وعلى الأردوغانية ألا تعود لتنتقم من خصومها السياسيين، ومن واجبها أن تستخلص الدرس الأهم مما جرى، أي توسيع المشاركة السياسية، والامتناع عن الارتداد على الإنجازات المجتمعية، التي دفع ثمنها الشعب التركي غالياً، ذلك أن كل سياسة مستقبلية، تنسج على منوال فشل الانقلاب هي انقلاب من نوع آخر، وما رفضه الشعب التركي في صيغة مغامرة عسكرية، سيرفضه أيضاً عندما يتخذ صيغة المغامرة السياسية.
&