نشرت صحيفة "الجارديان" البريطانية مؤخراً مقالاً للكاتب والخبير الاستراتيجي المعروف روشير شارما مؤلف كتاب "صعود وانهيار الأمم" قال فيه إن العالم يجب أن يستعد لمرحلة مابعد العولمة، معتبراً أن اقتصاد السوق المفتوح آخذ في التراجع، وأن مقوماته تتآكل تدريجياً.

هذا المقال المهم نشر على خلفية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وما تسبب فيه هذا الحدث التاريخي من موجات ذعر واستنتاجات وتحليلات استراتيجية تمحورت في معظمها حول فكرة انتهاء عصر التكتلات.

الواضح أن هذه التصورات قد انطلقت بالأساس من تأثير نظرية "الدومينوز"، حيث يراهن الجميع على أن عدوى الانسحاب من التكتلات ستنتقل إلى مناطق أخرى من العالم، ولن تقف عند حدود القارة الأوروبية، وهذا وارد، والأهم من ذلك أن "توابع" زلزال بريطانيا كانت قوية وعنيفة بدرجة دفعت الكثيرين للاعتقاد بأن هذا الحدث يمثل نهاية لكثير من أفكار ومسارات ما بعد الحرب العالمية الثانية، ومنها بطبيعة الحال ما يعرف بالنظام الأوروبي الذي ولد بعد تلك الحرب.

الربط بين خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ونهاية عصر العولمة ربما ينطوي على كثير من التسرع والمبالغة في بناء تصورات استراتيجية دقيقة حول تداعيات الحدث. صحيح أن الاتحاد الأوروبي بعد استفتاء بريطانيا لم يعد كما كان قبله، ولكن الأمر قد لا يرقى إلى حد انتهاء عصر الحدود المفتوحة لأسباب واعتبارات عدة؛ إذ ينبغي أن ندرك أن فكرة الاندماجات والتكتلات الاقتصادية لم تزدهر سوى في ظل ثورة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، التي أزالت بشكل حقيقي الحدود الجغرافية التقليدية، وحصرتها في نطاق ضيق، بل إن ثورة الاتصالات والمعلومات وتطبيقاتها في مجال الاعلام الاجتماعي والتبادلات التجارية والاقتصادية وغيرها قد دفعت الخبراء والمتخصصين إلى إعادة تفكيك مفاهيم ظلت لقرون وعقود مستقرة تماماً مثل مفهوم "السيادة الوطنية"، فلم يعد هذا المفهوم كما كان في السابق بعد أن أصبح الحديث عن سيادة وطنية مطلقة على رقعة جغرافية معينة مسألة صعبة التحقق والتنفيذ إلا في ظروف عزلة اتصالية وتجارية واقتصادية.

يرى روشير شارما أن أحد أسباب التحول في الرأي العام العالمي حيال العولمة تكمن في الهجرة، وتدفقاتها الهائلة التي تسببت في تضييق فرص العمل في كثير من الدول المتقدمة، التي لم تكن تعرف هذه النسب العالية من البطالة، وهذا قد يكون صحيحاً بطبيعة الحال ولكنه يمثل جانباً واحداً من مشهد العولمة، فنحن بصدد ظاهرة لا يمكن حصر تأثيراتها في جانب واحد، بل من الصعب رصد ودراسة مجمل تأثيراتها في الوقت الراهن في ظل عمق هذه التأثيراته واستمراريتها وتدافعها بوتيرة متسارعة بدرجة يصعب معها إخضاعها للقياس والدراسة حتى تستقر أو تقترب من الاستقرار.

إحدى إشكاليات العولمة أنها أفرزت ساسة معادين لها في كثير من الدول، وهذا أمر بديهي وطبيعي، ولكن بروز تهديدات استراتيجية مثل الارهاب والهجرة والترابط الحاصل بين هذه التهديدات بدرجة غير متوقعة بات يغذي فكرة الخوف من السياسات المفتوحة، وتحولت مواقف شرائح كبيرة من الشعوب، في أوروبا تحديداً، إلى تأييد القوميين وأنصار اليمين المتشدد، المعادين للهجرة وغير ذلك.

في منطقتنا العربية، تبدو هذه السجالات حول العولمة والحدود المفتوحة وغير ذلك نوع من الرفاه السياسي والثقافي، فكثير من الدول العربية تعاني إشكاليات من نوع استثنائي، فالحدود بالفعل مفتوحة في كثير من الحالات ولكن ليس بسبب العولمة ولكن بسبب تداعي فكرة الدولة الوطنية وفشلها في تثبيت جذورها، فضلاً عن تصاعد خطر الارهاب وتنظيماته اللا محدودة، التي تسببت في حالة غير مسبوقة من الفوضى الاقليمية.

النقاشات تبدو بعيدة عن منطقتنا أيضاَ لأن معظم الدول العربية لم تنخرط في الاقتصاد العالمي كما يفترض بل تعيش نوع من العزلة الاختيارية بسبب ضعف معدلات النمو والاستغراق في البحث عن حلول وبدائل لمعضلات بنائية وتنموية وهيكلية تعود إلى بدايات النصف الثاني من القرن العشرين، أي مرحلة ما بعد انتهاء الحقبة الاستعمارية.

قديماً، كنا نقرأ عن خطورة البقاء في دائرة استقبال التفاعلات العالمية في مجالات الاتصالات وثورة المعلومات وعدم التفاعل معها بما يحد من تأثيراتها ويحفظ للدول والشعوب العربية والاسلامية هوياتها الثقافية والوطنية، ما يعني أن هناك إدراك استباقي للخطر وتأثيراته السلبية الكبيرة، ولكن ما حدث أن التحذيرات ظلت حبيسة الكتب وقاعات الدراسة، واكتفى الكثيرون بدور المشاهدة والملاحظة من دون تفاعل حقيقي مع مايدور حولهم من تغيرات متسارعة، فكانت النتيجة ما تحصده منطقتنا من اضطرابات وفوضى عارمة في كثير من ربوعها منذ عام 2011!

الحديث إذن عن نهاية العولمة أو استمراريتها قد لا يفيدنا كثيراً في العالم العربي، لأن غالبية دولنا ظلت بعيدة عن التفاعل المثمر مع موجات العولمة، ولم تحصد سوى آثارها السلبية، ولكن هذا لا يعني أن فكرة العولمة ذاتها تعاني نوع من العطب، بل يعني أن التفاعل معها لم يكن على قدر التحدي.

الأرجح أن العولمة ستبقى وتتمدد لأنها لم تعد فكرة مطروحة للنقاش تستطيع دولة ما أن توقفها أو تسيطر على تمددها، فقد أصبحت العولمة رمز لشبكات هائلة ومعقدة من المصالح الاستراتيجية للدول والشركات العملاقة عابرة القارات ومتعددة الجنسيات، التي تنافس الدول العظمى في نفوذها ومواردها ومصادر قوتها.

العداء للعولمة أو تأييدها لم يعد خياراً مطروحاً بحسب اعتقادي، فنحن بصدد ظاهرة تتمدد ذاتياً، بل أصبح تفادي تأثيراتها وتأخر الاشتباك الايجابي معها ينذر بكثير من الآثار السلبية على المستويات كافة.