قرون وهذه البلاد واهلها يسحقون كأنهم يدفعون ضريبة مجد قديم ، مجد يوم كانت بغدادها عاصمة العالم ودرة الشرق. السياب العراقي كتب يوما في رائعته " غريب على الخليج " مامر عام الا والعراق فيه جوع . نعم جوع وقتل يتكرر اليوم في ساحات مدن البلاد وشوارعها و ازقتها بل في بيوتها التي لم تكن يوما ما حصينة منذ قيام الجمهورية العراقيه في العام 1958. اعدامات وسحل وتجويع على النيات .حروب طائشة ، اهلية وعالمية. حصارات دفع الفقراء ثمنها، ارهاب يومي ، سحق انتفاضات بلا رحمة ولا حرمة للبشر وهياكل الله والاولياء. من بطش شيوعية الرعاع في الموصل وانتقام الاكراد من التركمان في كركوك ، ربيع 1959، بيانات الدعوة للأبادةفي الساعات الاولى من انقلاب شباط 1963 ، حصادات سجن قصر النهاية ، اعوام طويلة ، مشانق ساحة التحرير وام البروم 1969، الى حرب الثمان سنوات مع ايران ، اكثر الحروب طيشا في التاريخ ، حرب الكويت وطريق الموت وكل ماتلاها من حروب معلنة وصامتة حتى فجر الديمقراطية الدامي بعد الأحتلال الامريكي واقتتال الطوائف والقوميات في حرب يومية ضروس ،الارهاب اليومي للطوائف وملوكها.

أي بلاد هذه؟

هل كتب القتال على العراقيين الى أخر دقة من دقات الزمن ، وبلا جدوى .الفقر مازال جامعا للطوائف، ليالي العراقيين هي ليال هرير في ليل طويل. اما آن للله ان يعلن سطوته بدل سطوة الهة الحرب والخوف والجوع والدمار والتيه؟

هل ماحدث ويحدث مجرى في سياق التاريخ ام هو انتقام من التاريخ ؟ تقول الاساطير القديمة لبلاد النهرين ان الآلهة تنتقم من البشر بالطوفان والأوبئة . لكن انتقامها من العراقيين كأنه يدوم منذ الف عام . ارض السواد " اسم العراق القديم " كانت كناية عن خيرها وارضها الخصبة لكنه صار شارة حزنها الابدي . بلاد النهرين " ميزو بوتاميا " ، كما سمتها ادبيات الأغريق ،صارت بلاد الجفاف التي يعز فيها ماء الشرب . بلاد عطش و جوع ومذلة وبلا عدل، كل ما يجعل العيش ضربا من العبث.

الذين وعدوا بطي صفحات الماضي بمخازيه، هم انفسهم يقلبون اليوم صفحات نفس الماضي بأضافات بلاغية مبتذلة تتحدث عن الديمقراطية وحقوق الانسان والدولة كمظلة للجميع .الدولة اجترحت لتخلق السعادة لمواطنيها وليس لذل مواطنيها واغراقهم بالدم .الدولة اجترحت لتعبد طريق مستقبل شعبها وليس ترميم طرق الماضي المظلمة . الدولة اجترحت لحقن دم مواطنيها وليس لهدره ولو تعلقوا بأستار الدولة؟

العراق اليوم مثل فرس جامحة مضرجة بدمها ، كأنها فرس الحسين وهو تصرخ في يوم عاشوراء كما ورد في المقاتل : الضليمة، الضليمة، ولن يستطيع " ساسة " هواة من ترويضها بتقليد " سائس " مجرم حاكمه التاريخ .مانراه اليوم يذكر بكل مشاهد ديكتاتورية صدام . الفرق ان الأنتفاضة في عهد الطاغية القديم كانت مسلحة بينما انتفاضة اليوم سلمية، تدافع عن نفسها بالهتافات والشعارات . الدولة المزعومة التي شرعت في دستورها حق التظاهر والتعبير تخون نفسها في اول امتحان ديمقراطي لحق التعبير . الرصاصة بمواجهة الكلمة. ذلك هو شعار الدولة العراقية هذه اللحظة، في زمن النفج عادل عبد المهدي المنتفجي.

مهما قيل عن هذه الوثبة العراقية الدامية التي جاوزت بضحاياها وثبات اخرى خلدها التاريخ فأنها وثبة شعب برمته علمته تجارب تاريخه الحديث ان الذل اكبر الكبائر وان لا وطن بلا كرامة شعبه، وان لا مضي للأمام بالعودة الى شريعة تاريخ مظلم ولا مهادنة الا بعد انتزاع الحقوق .شباب العراق اليوم لايريدون السير الى اللامستقبل بوعود رجال السياسة والدين. الاثنان ينهلان سحتا من خزينة واحدة هي" بيت مال" اهل العراق وليس بيت مال عوائل استحوذت على المال والتاريخ والجغرافية والشرع ولم تترك لأطفال البلد النفطي غير خردة القمامة . لا مناص ان الأيام القادمة ستكون حاسمة في التاريخ العراقي : اما الحرية واما الذلة . لكنه شعب يصرخ منذ سنوات " هيهات منا الذلة " وحان وقت السلة.

التاريخ يسقط الحكام لكنه لم يسقط يوما شعبا.