بين الطريف والبجيري نشأ تحالف صلب أسس للدولة السعودية الأولى. كان التحالف بين الإمام محمد بن سعود، والشيخ محمد بن عبد الوهاب، في إطار خلق عصبية وطنية في إمارة الدرعية سعت الى توحيد نجد والحجاز، ومواجهة كل الأطماع الخارجية التي استمرت عقوداً في سبيل السيطرة عليهما، وخصوصاً من قبل السلطنة العثمانية أو أوليائها. فرضت الظروف طبيعة التحالف وعصبيته، وهو ما تأسست عليه الدولة السعودية الثانية، وصولاً الى تأسيس المملكة العربية السعودية. حالياً، تعيش المملكة حقبة جديدة يمكن وصفها بالمرحلة التأسيسية الثانية لما بعد نشأة المملكة، ومن الجيل الثالث بعد الملك عبد العزيز.

بالعودة الى الطريف والبجيري حالياً، ترتسم معالم إرث حضاري متجدد، يحمل في عماراته أصالة ما مضى، وكل أساس صلب لتوفير الديمومة، مع اضافات حداثوية، تشير بوضوح الى مسار التطوير الذي تسلكه المملكة وفق رؤية 2030، ليس فقط على المستويات الإدارية، المؤسساتية، السياسية، الإقتصادية، الإستثمارية، الإجتماعية، والمعيشية، بل أيضاً بالمعاني الثقافية، الفنية، والترفيهية، في اعلاء مسألة ترفيه المجتمع، كدليل على مسار التقدم، لأن تقدم الشعوب يرتبط بمدى قدرتها على الفرح أو الإرتقاء في المستويات المعيشية والثقافية، التي تتكامل سعودياً.

في رواية "اسم الوردة" للروائي الإيطالي امبرتو ايكو، والتي يشرح فيها ظروف الانتقال الى عصر، يروي عن مهمة حارس المكتبة الأعمى والذي من مهامه منع القراء من الوصول الى كتاب "الكوميديا" أو "الضحك" للفيلسوف ارسطو. والمقصود هو منع الناس من الوصول الى الفرح أو الضحك. بذلك يمكن تكوين خلاصة أن الضحك أو الفرح في المجتمع هو صنوان للتنوير. وهذا جزء أساسي مما تقوم به السعودية في سبيل الترفيه من خلال الأنشطة التي تقوم بها هيئة الترفيه. وبهذه البساطة البعيدة عن التعقيد، يمكن الردّ على الكثير من التساؤلات أو الانتقادات التي وجهت الى السعودية على خطوة الانفتاح والترفيه والاستثمار، في مجالات تحرير المرأة والمجتمع، الرياضة، الفن، السينما وغيرها من الأنشطة التي تنظمها هيئة الترفيه وتقوم بها.

هو جانب من التكامل في رؤية الأمير محمد بن سلمان 2030، وبين ما تقوم به هيئة الترفيه، في سبيل ارساء معالم التقدم والتطور في المجتمع. هنا يندرج الترفيه بوصفه باباً من أبواب الإحتكاك بثقافات الخارج، والتعاطي معها، وبوصفه اضفاءً لجمالية الحياة اليومية، والانفتاح الطبيعي على العالم، والتماهي معه ومع العصرنة، والاندماج في الثقافات المختلفة. هو نوع من الإقبال على الحياة بحب واندفاع، والتفتح على آفاق المستقبل.

ومجدداً بالعودة الى الطريف والبجيري، وربطاً بالالتزام السعودي بثوابت ومبادئ تاريخية مستمدة من عراقة التقليد والتأصيل، يبرز مشروع الترفيه كجزء من محاولة لإعادة احياء الحضارة السعودية المستمدة من التاريخ ومن أصالة وعراقة بما فيها من تقليد، ودمجها بكل آليات التجديد والتحديث في سياق إعادة التجسير ما بين الحضارات، ولا سيما بين حضارة الشرق والغرب وهو ما نجحت السعودية في صناعته باستقطاب الغرب بمعالمه ومجسماته الى أراضيها، في موازاة استنهاض ما خبى من معالم حضارية وتاريخية كانت مطمورة على الأراضي وفي اعماق وبواطن تراب المملكة ومياهها.

لايمكن النظر إلى مشروع الترفيه إلا بوصفه فرصة لاستنهاض ما يكتنزه المجتمع السعودي من ثقافة وفنون كانت مدفونة أو مكبوتة، وإعادة طرح هذه الحضارة على مسرح العالم انطلاقاً من مقدرات هائلة يتم توظيفها بطريقة صحيحة تستثمر برفاهية المجتمع، مع التأكيد أن عنصر الترفيه هو عنصر للإنتاج الفكري والثقافي المبني على الهدوء والتفتح على الآفاق بدلاً من الانغماس في هموم يومية ما بين الأزمات الآنية والموروثات الثقيلة الماضوية، فيبنى على التقليد كل تجديد وكل طموح في إعادة الابتعاث نحو طموحات وأحلام تبلغ عنان السماء، ولا يحدها حدّ بل قابلة لأن تصل الى حدود التنافس على الفضاء، سواء أكان هذا الفضاء فلكياً، أم اعلامياً، أم فنياً، أم رياضياً.

يهدف المشروع الى استعادة الحياة في المجتمعات، التي غرقت لسنوات إما في حالات الانغلاق الديني أو التعصب الذي كان يهدف الى التصادم مع مشاريع أخرى، علماً ان الفن والترفيه ينقل المجتمع من حالة الصدام الى حالة الالتقاء، مع إيجاد قدرة واسعة على تحصين المجتمع ثقافياً وبمفاعيل الترفيه في مواجهة أي آليات شمولية أو ايديولوجية أو دينية هدفها تأبيد الإنغلاق. وهذا بحدّ ذاته يعدّ مشروعاً يتصدى لأي محاولة من محاولات البقاء في حالات التخلّف أو التطرف الذي لا يقود إلا إلى الإنتحار.

ليس بالأمر السهل أو البسيط أو التفصيلي، أن تكون السعودية الجديدة، المبتعثة كدولة حديثة، هي قبلة العالم فنياً، إلى جانب موقعها التاريخي الأزلي كقبلة دينية لدين سمح ومعتدل ليست بعيدة عنه الفنون على اختلاف أشكالها، في مجالات القتال والفروسية والإبتكار والإستراتيجية، وفي مجالات المديح والمواليد، وفي المدار المتطور للفن وإعادة إنتاج ما تأصل منه في عوالم العرب والغرب. كل ذلك يحتاج الى تكامل في جوانب متعددة، حضارياً، عمرانياً، هندسياً، اقتصادياً، ولا يمكن اكماله بدون تعزيز مستوى الثقافة والفنون والسينما والموسيقى والرياضة وكل برامج الترفيه، في إطار إعلاء الحق الإنساني ودفع المجتمع الى الإرتقاء والإبتكار. كل ذلك يتصل بطموحات تحسين "جودة الحياة"، وهذا ما يعلي ويكرّس مبدأ قدسية الإنسان، فأي نهضة تبدأ به ولأجله، ولا بد للنظم أو الدول أن تكون في خدمة الإنسان، وليس على طريقة الإيديولوجيات القديمة في جعل الإنسان بخدمة المشاريع او الدول، وليس على طريقة إن الدماء التي تجري في العروق هي ملك للمشروع او الدولة أو الأمة او لأي طرف آخر، بل إن الدولة وكل مشاريعها هي ملك للإنسان بما يقتضيه تحسين ظروفه وتعزيز كل مقومات حياته. اي ارتقاء في الفنون هو دعوة صريحة وجدية وفعلية للتصالح والتعايش والتسامح مع كل الفئات الأخرى وإن كان معها صراع أو صدام، ما يؤسس الى مجتمع متقدم، عصري ومستنير.

مشروع الترفيه القائم على ثورة في عوالم التطوير، يمكنه أن يؤسس الى حقبة جديدة في مسار تفعيل الدور السعودي على ساحة التأثير العالمي، بقوة الثقافة الناعمة، وبالتركيز على مشاريع الدراما أيضاً، في إعادة صياغة وصناعة تاريخ مليء بالتجارب والتعاليم والأحداث لا يزال غائباً عن شرائح واسعة عربياً وعالمياً، يمكن إنتاجها مجدداً بقوالب درامية محدثة تحاكي مسارات تأسيس الدولة السعودية الأولى، والثانية والتكامل ما بين الجوانب السياسية والدينية والثقافية، وامتداداً الى الدولة السعودية الحديثة مروراً بعهود الملوك في ظلال تحولات كثيرة حافظ فيها السعودية على مرتبة مرموقة بين الأمم، وتؤسس لما يزيد من أحلام قابلة لأن تصبح وقائع.