فاجأتني صديقتي المساخرستانية التي حدثتكم عنها سابقا بسؤالا سياسيا و هي التي لا تهتم بمثل تلك الأوهام –علي حد قولها.
سألتني، "بصفتك مهتمة بالسياسة، و تدرسين سياسة، و تصبحي و تمسي علي السياسة.. ما هو الدور الذي يقوم به الإعلام و التعليم في أي دولة؟"
لوهلة شعرت أن سؤالها ساذجا، و هذا شيء متوقع من إنسانة رقيقة مثلها تترفع عن الانغماس فيما لا يفيد.
أجبتها بمهنية لا تخلو من التعالي.. "يا صديقتي الحبيبة.. دور الإعلام و التعليم يرتبط بنوع الدولة.. فلو كانت الدولة ديمقراطية سيعكسوا هم بالتالي قدر كبير –إن لم يكن مطلق- من الاستقلالية و الحرية و التنوع و غياب التوجه و الأدلجة. أما إن كانت دولة غير ديمقراطية فسيكون لهم دور موجه.. تستخدم لإضفاء شرعية تدريجية في وعي الشعوب للنخب الحاكمة، و يتم تمرير ثقافات و مبادئ من خلالهما لتستقر في وجدان الشعوب و هذا ما نسميه بلغة أهل السياسة "Indoctrination".
قفزت نظرة ماكرة لعينيها و سألتني متعجبة ساخرة "فقط؟!"..
شعرت أنها أهانت حِسي السياسي... فأجبتها بحدة "ماذا تعنين بفقط؟ هذه إجابة بسيطة لكن صحيحة.. أنا أبتعد بك عن التعقيدات!!"
ظلت تضحك بهستيرية.. لدرجة أن ظننت أني أجبتها عن سؤال آخر لم تسأله هي!!
"طيب.. قوليلي يا فصيحة بتضحكي علي إيه؟؟! أنا مش شايفة حاجة تضحك في اللي قلته!! اشجيني يا فيلسوفة!!"
توقفت فجأة عن الضحك.. و أجابت بعمق لا يخلو من تهكم أو مرارة –لا أدري- "ما رأيك أن تتخذ الدولة موقف رسمي معلن لا تتبناه ولا تسعي عمليا لتحقيقه، و موقف غير رسمي تؤمن به تمرره عبر وسائل إعلامها و صحفها و مناهج تعليمها.. و بذلك تضرب عصفورين بحجر واحد؛ من جهة تجني مغانم الموقف المعلن من الحكومات علي المستوي الدولي و من مواطنيها السذج المعضدين لهذا الاتجاه –أو قل السراب- الرسمي.. و من جهة أخرى تحافظ علي استقرارها الداخلي بتقديم ما يرضي الغوغاء و يهدئ لواعجهم و يسلطن مزاجهم؟!!!
يعني بالبلدي كدة ’أسمع كلامك أصدقك.. أشوف أمورك أستعجب’.. ما رأيك؟؟!!"
شعرت بنوع من "الضرب علي القفا".. و لكني "قاوحت" و سألتها أن توضح أو تبرهن ما ذكرته، فلا أكره عليّ من الكلام الطنان الذي لا أساس له من الواقع.
ردت سريعا.. "مثال واحد؟؟ لأ أنا كريمة و هديكي اثنين"..
(+) عندك "وضع الأقليات"... بقالنا سنين بننبح في صوتنا علي "النسيج الواحد" و "الغزل الوطني" و "البنت بنتنا و الواد ابننا"....
سألتها "و بعدين؟"
انفطرت ضحكا.. "أنت هبله؟ ولا قبلين.. أبوك عند أخوك.. واقفين مستنيين الترماي.. و تثبت الأرقام أن الأقليات في نزوح مستمر و نزيف عقول لا يتوقف.. و بعد أن كانوا رؤساء وزارات و وزراء خارجية و مالية و مواصلات و غيرها و محافظين و قضاة و أساتذة جامعة و رؤساء أقسام.. اقتصر دورهم علي "ك.ص"!! هل تعرفي ما معني "ك.ص"؟؟
و لم تنتظر ردي و استأنفت بحدة.. أي كومبارس صامت لإضفاء بعض الديكور و التحابيش الديمقراطية.. تقدري تقوليلي ده معناه إيه يا بتاعة السياسة؟"
و قبل أن أجيب سارعت لاستئناف كلامها..
(+) معاهدة سلام مبرمة مع دولة مجاورة لمساخرستان، هي دولة "Powerstan"، تلك المعاهدة جنّبت مساخرستان مخاطر غير عادية و جنّبتها مزيد من دماء أبنائها، أمنت لها سنين من الهدوء و السلام، استرجعت خلالهم كل ما فقدته من أراضي –كل هذا عن طريق المفاوضات السلمية- و كسبت أيضا معونات تقدر بالبلايين نتيجة لتلك النزعة الحضارية الواعية لمتطلبات السلام..
تنفستُ الصعداء.. أخيرا وجدت شيئا يهدئ من حدتها.. و قلتُ بتلقائية "طَب كويس"..
ردت بصوت كهدير الطاحون.. فما قولك إذن أن الإعلام يصور هذا الآخر كأنه شيطانا رجيم و وحش كاسر و ينكأ بخبث –لا بموضوعية- جرح مضي عليه عشرات السنين؟؟ لمصلحة من؟ هو إعلام مين بالظبط؟ و إن كان هذا دليل علي حرية الرأي و التعبير، فما من رأي واحد.. وااااااحد يتكلم عن أوجه التعاون و فوائد السلام؟؟ ما من عاقل واحد يكلمنا عن تلك الشعوب بموضوعية -ما لهم و ما عليهم؟؟ ما من رأي واحد يحدثنا بعقلانية عن مصائب و ويلات الحروب التي كان من الممكن أن نسجن فيها دون خلاص؟؟ ما من رأي واحد في هذه "الحرية" يكلمنا عمّا جنته بلادنا ماديا من السياحة و المعونات؟؟ حتى الحكومة نفسها لا تفصح عن حجم تلك التعاملات التجارية أو غيرها.. ما معني هذا يا بتاعة السياسة؟؟؟
كانت هذه هي المرة الأولي التي أراها بتلك الحالة المزرية الضائعة... حاولت تهدئتها، لكن دون جدوى..
تركتني و مشت تدندن... "إيدي فيها واوا دح بابا أوبّح.. باب حِب أنا صح بابا أوبّح.. واللي معاه أبونيه هنعلم عليه"
هذا هو إعلام "البابا أوبّح" الذي لا تفهم أوله من آخره و ما مغزاه أو فحواه..
(و لمن لا يعلم بابا أوبّح هي أغنية مصرية)
يا عيني عليكي يا بنتي كنت بعقلك.. و كسبت مستشفي العباسية نزيلا آخر..
ماريان جورج




التعليقات