من حاول تجميل وجه حياتنا القبيح
هناك نوع من البشر قدر لهم أن يدخلوا الحياة ويخرجوا منها سريعا.. يعبروا كضيف خفيف حلو المعشر، ما أن تبدأ في الاستمتاع بصحبته حتى تجده قد تركك ورحل.. ولكنهم لا يفارقوا العالم إلا بعد أن يضيفوا إليه.. يتركونه أفضل حالا مما كان.. يلقوا ببذرة مباركة تنتظر أن تتلقاها أرض جيدة لتنبت وتثمر.
عادل أبو زهرة كان واحدا من هؤلاء.
في مثل هذا اليوم من العام الماضي انسحب من حياتنا بكبرياء وشموخ، تماما كما عاش خلال حياته.. كان المرض القاتل يفترسه ولكنه رفض أن يستجدي العون ولم يسمح لأحد من أصدقائه وتلاميذه ومحبيه أن يلتمسه نيابة عنه.. وبالطبع لم يلتفت من بيدهم الحل والربط إلى معاناته ولم يتطوع أحد بإرساله إلى حيث يجد العلاج لمرضه العضال، مع كل نفقاته ونفقات حاشيته ومرافقيه مدفوعة مقدما !!
لقد فتح العالم المتمدين كله ذراعاته لاستقبال د. عادل أبو زهرة أستاذ العلوم السلوكية والرائد في مجالات حماية البيئة وحقوق الإنسان. ولكنه رفض أن ينعم وحده بالعيش الكريم وأصر على أن يشارك الإنسان المصري المسحوق معاناته ويعمل من أجل رفعها عنه. ناضل بكل قوته من أجل أن يتمتع كل مصري بالحرية الفكرية والعقائدية... بنقاء الجو وخضرة الشجر.. بجمال الأبنية ونظافة الشواطئ... أراد الكرامة للمرأة والحماية للطفل.. من خلال برنامجه الموسيقي حاول إشراك المصري البسيط في متعة تذوق الفن الرفيع.. كان يمثل الجوهر الحقيقي والضمير الحي لمكتبة الإسكندرية.. قاوم بضراوة كل الممارسات الخاطئة التي بدأت تتسلل إلى هذا المشروع العملاق لتفسده.. رأس جمعية أصدقائها الهادفة أساسا إلى الحفاظ على الاستقلالية الفكرية للمكتبة كما ترأس منتدى الحوار لترسيخ مفهوم النقاش الحضاري.
عادل أبو زهرة الذي اختارته الأمم المتحدة واحدا من أفضل عشرة مارسوا العمل الأهلي على مستوى العالم، كان يملك حفنة غير قليلة من البذور المباركة.. لم يبخل بها بل ألقاها على أرض مصر.. من المحزن أنه يبدو وكأنها قد وقعت على تربة صخرية فلم تنبت أو تبعثرت بين الأشواك حتى اختنقت.
ولكن ربما ربما وجدت بذرة أو اثنتان طريقها إلى تربة حنون مازالت تحتضنها وترعاها بصبر وطول أناة، ويوما ما سنجد نبتا صغيرا ينمو ويخضر ويزهر ليذكرنا بالراحل العظيم.
وإحياء لذكراه نهدي القارئ الذي لم يحالفه الحظ بالتعرف على فكر عادل أبو زهرة نبذات من كتاباته لعلها تعطي فكرة ولو بسيطة عن رسالته واهتماماته :
كان من أول وأشجع الأصوات التى تحدت الخوف والترهيب ودقت ناقوس الخطر محذرة من تنامي تيار التعصب الديني في المجتمع المصري :
فتحدث بإسهاب عن مظاهره وأعطى أمثلة خطيرة عن غرس أفكار الكراهية في نفوس الأطفال.
وأكـد على ضـرورة وضع ميثاق اجتماعي لتجـنب التعصـب تتضمن بنــوده :
1- ضرورة الاعتراف بحق كل إنسان في اعتناق الأفكار التي يعتقد بصحتها وممارسة شعائر الدين الذي يؤمن به.
2- التأكيد على أنه ليس من حق أحد التشكيك في عقيدة أو وطنية أي إنسان أو ازدراء عقائد الآخرين.
3 - الوطن للجميع فللجميع نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات مهما اختلفت عقائدهم وأفكارهم.
4- استنكار اللجوء إلى العنف للتعبير عن الاختلاف في الرأي.
5- الاعتراف بأن أي تفسيرات لنا أو للآخرين خاصة بالدين ليست لها صفة القداسة بل هي مجرد تأويلات بشرية قابلة للصواب والخطأ. كما يجب الاعتراف بحق الآخرين في الاجتهاد.
6- التأكيد على أن الدين - أي دين - هو أحد أنشطة الإنسان الهامة ولكنه ليس النشاط الوحيد. فللإنسان الحق في أن يفكر ويعمل ويحب ويرفه عن نفسه ويعبر عنها من خلال الفنون. لأن الحضارات نشأت وازدهرت على هذه الأرض من خلال العمل والعبادة والفكر والفن.
أرقته مظاهر العنف ضد المرأة فكتب :
العنف ضد النساء ظاهرة عالمية وتاريخية.. وفي مصر تتنوع أشكاله وتصاحب المرأة منذ طفولتها وتزداد حدة في شبابها وقد تستمر حتى في شيخوختها. والعنف ضد النساء في مصر يمارس غالبا من الرجال : الأزواج والآباء والأبناء، من الرجال في الشوارع وفي أماكن العمل. يمارس بدوافع ومبررات تستند إلى الثقافة التقليدية مثل الختان والتأكد من العذرية ليلة العرس. يمارس ضد الفتاة إذا تأخرت في الرجوع إلى المنزل أو إذا تحدثت مع شخص من غير أفراد الأسرة.. كل ذلك ينطلق من تصور متخلف للمرأة على أنها مجرد كائن بيولوجي مثير، مصدر للفتنة والغواية.. بحاجة دائمة لمن يعقلها أو يشكمها لأنه إذا لم يقم أحد بذلك فسوف تكون مصدرا للفضائح وممرغة لشرف الأسرة المقدس.. تظل المرأة في الثقافة التقليدية مجرد ربة فراش وشغالة منزلية، يجب أن تركز جهدها على إجادة الطهي والتفنن في تحريك رغبات زوجها.. أما أن تكون ذات قدرات عقلية مثل القدرة على التفكير والتحليل والمشاركة في إدارة شئون المجتمع، فهذا تدخل في شئون الرجال وسلبا لأدوارهم الطبيعية.
إن الدراسات التى أجريت عن العنف ضد النساء في مصر نادرة لأن مصر مثل الكثير من المجتمعات الشرقية لا تزال ترى أنه من المخجل أن تتحدث المرأة عما يقع عليها من عنف أيا كان نوع هذا العنف : قد يكون جسديا أو نفسيا. ويقع الأمر في منطقة المحرمات المظلمة إذا كان هذا العنف جنسيا.
وأحزنته مظاهر الفوضي المعمارية في مدننا فقال :
ليس هناك ما يدل على قدرة أمة من الأمم على الإبداع والابتكار ورفعة الذوق أفضل من معمارها، ففي العمارة بعض ما في فن التصوير وبعض ما في فن النحت وبعض ما في فن الشعر وبعض ما في فن الموسيقى.. وكل ابتذال أو تدهور يصيب المنتجات المعمارية في مجتمع ما إنما يدل على تدهوره وفساد ذوقه.. وقد أثبتت بعض الدراسات أن الذين يعيشون في بيئات معمارية سيئة وقبيحة يكونون أكثر عرضة للإصابة بحالات من القلق والاكتئاب.
لذلك تحرص بلديات المدن المحترمة في العالم على الحفاظ على جمال هذه المدن وعلى شخصيتها المتميزة.. أما عندنا فليس أسهل من الحصول على قرارات الهدم والإزالة بعد تعمد إهمال صيانة الأبنية حتى تتدهور.. وتبني في أماكن الفيلات الجميلة عشرات الأبراج الخرسانية القبيحة، لتضيف إلى الأحياء المكدسة المزيد من الأسر والسيارات وأكياس القمامة لتشكل في النهاية ضغطا رهيبا على شبكات الصرف الصحي المجهدة، أي تؤدي إلى المزيد من التدهور البيئي.... هل لا يعرف من يقومون بذلك أن أعظم ثروة تركها لنا الفراعنة لم تكن إلا بعض الأبنية الجميلة والجليلة؟!
وسعى إلى تحسين نوعية الحياة في مصر فنادي قائلا :
لو توفرت للإنسان حاجاته الأساسية من الطعام والشراب والملبس والمأوي فهذا هو مستوى الضرورة أو الكفاف. لكن لكي يرتفع الإنسان في سلم الإنسانية، لابد وأن تشبع لديه مستويات أخرى من الاحتياجات.. لابد وأن يتحرر من العوز ومن الجهل ومن الخرافة ومن القبح، وأن تكون لديه القدرة على التمتع بفعل الخير وقول الحق وتذوق الجمال.. وأن تضمن له الحياة الحضرية فرصة القيام بعمل منتج يحقق من خلاله ذاته، وأن يقيم علاقات إنسانية حميمة، وأن يكون قادرا على الحب وعلى التفكير المستقل.. وأن تتوفر له الفرصة ليشارك في صياغة أحداث الحياة التي يعيش فيها.
أما المقال الذي كان آخر ما كتبه ونشر في جريدة الأهرام بعد وفاته بأيام، فقد شرح فيه أصول الكتابة العلمية:
وأسهب في شرحها بعد أن تساءل عن دافع العدد الكبير الذي يتقدم كل عام لنيل درجات الماجستير والدكتوراة في دولة نامية مثل مصر ! هل كان دافع هؤلاء إلى البحث هو محاولة الوصول إلى إجابات عن أسئلة تؤرقهم ؟! وهل بحوثهم من الجدية بحيث أنها ستسد ثغرة في بناء المعرفة أو ستسهم في حل مشكلات يواجهها وطنهم ؟! وهل لديهم دراية بما أورده من أولويات أصول البحث ومناهجه وأسلوب كتابة تقريره ؟!
والجواب على هذه الأسئلة يمكن استنتاجه بسهولة!!




التعليقات