صفحة متاخرة لكلمات ضائعة
عبدالرزاق الجبران

اني اخاف الا تصل الى الكعبة ايها الاعرابي فان الطريق الذي سلكته يفضي بك الى تركستان
جلال الدين الرومي


اودته في الخصر.. زحام
وينزل ربها في كفها.... غطته بالاخرى فنام

هذه اول جلسة اوفرها لقلمي على كرسي في بغداد، دون ان يكون- اعوذ بالله- كرسي حكومة او كرسي سربون او حتى كرسي حلاقة، مع ان الاخير اعلم الثلاثة فلسفة بالناس، طالما انه واقف على رؤسههم..اكثر مما هو واقف على كراريسهم او تصفيقهم.
هو يثرثر بمقصه فوق لسانهم.. يقطع به من كلماتهم وعيا اكثر مما يقطع به بروفسر درسا من اصطلاحات فلسفية ولت اوراقها، ومنطقيات تجريدية تجردت اسمالها..
الاول يعي الحياة كيف تكون زمانا ومكانا. والاخر يُعلّم الكيف والمتى في الحياة بلازمان او مكان.. هذا ما تحرّق له انطونيو غرامشي كثيرا في احتكار الفلسفة ووجوديتها.

تلك اول جلسة لي امام طاولة اترك لها اوراقي، بشباك حمل وراءي صدى المطر لحظة ان اتكأت، استغربت؛ ماذا تعني تلك الصدفة معي، لابل اسميها الموافقة الوجودية في نظام الكل الكوني..(العالم مليء بالاشارات) هذه قناعة فلسفية لي مع الوجود، دائما اتمنى التفرغ لفكرتها الوجودية رغم انها عجائزية التداول.
كيف تتردد الاشارة هنا بين المطر وكرسي اقلامي، فالكل ينتهي الى القلم، هو السيد بين كل ماينتصب بمعية الكاتب. هذا بعض(نون والقلم).
العالم مليء بالاشارات؛ طالما ان الغيوم تتحرر من اثقالها بالمطر.... اذن ساتحرر في كرسي بغداد هذا من قيودي بالكلمات.. تفألت لشؤمي انه سيدوم ؛ المطر وكلماتي.. كلماتي ستقطر باثقالي (نفسي محملة باثقالها/جبران) ومن لغير الكلمات تنفض اثقالنا.. لاباس ستبقى مع اعترافات كنسية، حتى يهدي الله المساجد لاعتراف سجادها بخطا المارين خلسة.

اذن هو كرسي اعتراف، لشباك الوجود و مطر الله.
اجل لا قس ولاكنيسة يستحقان الاعتراف، فاعتراف الناس للقس عبودية اخرى له.. هو اولى بالاعتراف للناس.
الاعتراف الحقيقي كضرورة في الكل الكوني وابرز مصالحة وجودية؛ هو اعتراف الناس للناس؛ اعتراف الحاكم لمحكومه، الحبيبب لحبيبه،الجندي لوطنه،رجل الدين لدينه،العامل لمهنته،الطالب لدرسه، كبير الحزب لحزبه،المثقف لثقافته.
هذه اول ركيزة لفكرة التواصل بين الذوات كاهم شرط وجودي قيمي ديني للانسان..ان تكون واضحا في مايجمعك بالوجود.. ان تكون عاريا.

..لا تخجل من خطيئتك امام الناس..اخجل من ذاتك امام الخطيئة.

يساعدني على الكلمات وعريها اني وجدت حيا يكاد يكون وسط غابة من النخيل، دجلة اشم نداه. فالاعتراف لدى الغابة غيره مع المدينة، الاولى تحب العري كاشجارها، والثانية تحب الليل واروقته حتى خلف المساجد.. قديما يضن الانسان ان الله في مساجده، لكنه لم يجد بعد حين فيها غير شيوخها، بل لطالما وجدهم في التاريخ شيوخا على الله ذاته..لهذا ترك الناس المساجد، طالما انها تاخذ اموالهم دون ان تمولهم ولو بـ(عزيمة الوجود) كما اراد الدين.

الغابة، اليس هذا ماكنت اخطط له على الخارطة في دمشق بعيدا عن وسط بغداد المدينة، لانزل منزل (رجل اقصى المدينة) قرآنيا، ومحققا في نفس الحين رغبة جان جاك روسو بالعودة الى رحم امي الطبيعة.. كذلك لأؤكد فرضا ثقافيا ضمن فكرة قديمة حمّلتها عنوانا لكتاب البدايات هو (الارض من بعيد) اردته الية للانسان في وعي خسة الاجتماع.. نُشرت جميع مقالاته صحفيا في ايام المهجر الاولى باسم مستعار خوفا ان يطردني حزب ما من دراستي الحوزوية فاصبح مشردا كما كان مع الكثير.. انه اول الدرب؛ انت والله قبال العمامة وكل الهتها؛ سلطة تحمل كل صفات الذات جهرة، بما لاتبقي للاية( وهوالذي في السماء آله وفي الارض آله) شيئا.
ارجوا ان لايعمم كلامي على العمائم تماما، بعد طلب احد مساكينها مني الانصاف متنهدا، بقوله؛ هم علينا، وانت واصحابك.. هدأته بكلمات شريعتي في عين ذلك؛ انه كان يحارب رجال الدين خوفا على علماء الدين من ان يُشوّهوا، طالما انهما يتزيان بنفس الزي..ليس المسالة حربا على العمامة بقدر ماهو دفاعا عن عظمتها مما يلحقوه بها بزازوها. بالتاكيد مازلت احلّق مع باقر الصدر والخميني واخرين، واقف في قداسهم وحده احرق بخوري.. ولكنني اصاب بالغثيان غالبا منها كما اصيبوا هم.. سلام التاريخ والناس عليهما، حينما كانوا لهما..وهي عينها نكتة المصلحين ورجال النبوة؛ انهم كانا للتاريخ والناس، دون أي شيء اخر،لذا بقيا. اذ لابقاء الا مع الناس والتاريخ.. ان تكون لله، يصح سلامه عليك..ان تكون للتاريخ تاخذ سلامه، وهو عينه مع الناس.
الدين ورجاله تخلوا عن الناس لاارستقراطية متعددة، فتخلى عن دينهم الناس.
الاحزاب ورجالها تخلوا عن الناس لعين الحزب، فمالت اعين الناس عنهم.
الامر عينه مع الكتاب والمثقفين وادعياء النضال..يبقى مفهوم الناس وحده الاقرب الى الله والحقيقة، لذا هو مقياس الحق مع كل الذين جاءوا في التاريخ،في قربهم وبعدهم عن هذا المفهوم.. ولاجل ذلك اطمان هرقل الى النبي حينما عرف ان اصحابه من المستضعفين،لاتجارا ولااشرافا..رغم هذا ترى الفقه سيما الشيعي يرزح باحكام في خصوص السادة من نسل النبي بامتيازات طبقية اول من حاربها النبي، بل اول ما حارب في اولوياته.

(الارض من بعيد)
بدل ان يضع الانسان مايكرسكوبا ضخما على الارض ليدرس القمر والفضاء..وماذا بعد ذلك.. كان الاجدى به ان يضع مايكرسكوبه على القمر ليرى الارض وعالمه.. حينها سيضحك ثم يبكي.. يضحك، يبكي.... سيعرف كم هو ارعن متمرد على الله ونفسه، على الكون والوجود، على الحقيقة.
سيرى وسيجد برؤيته كلمات تزرع القمر بانين الارض : الحروب والساسة..رجال الدين والدين.الحكام والاغنياء.النساء والاجساد.. سيرى من الانسان احلامه وايامه..كيف يعيش وكيف يموت.. سيقول حينها: مااتفهها من ارض يقال انها تحمل الحياة.
سيرى الارض في كل تشرذمها سيبكي على وحدة الوجود مع سيد قطب وشريعتي ومالك بن نبي في اسلامنا، دون أي حزن عليها مع ابن عربي وملا صدرا.
الاشياء كاجزا ء لاتفضي للكل الكوني.. بدل ان تكمل بعضها، ينهش بعضها الاخر، لذا ستنفضح هناك الجماعة اوالمجتمع بشري في تسميته الكلية.
(المصالحة..الصداقة..الانسجام )في المحيط الانساني ومعه؛ افكار يستشف منها بغية وحدة الوجود الاجتماعية لدى هولاء.

تأخرت كثيرا على حلقة اخرى من الاعترافات الكنسية، لمشاغل البحث عن غابة، مع ان قريحة الاعترافات مازالت معي.. لذا كنت اتوقف لليل كي اخذ منه بعض ديوني..فهو مدان دائما لي بما جئته من الآم.
ولكن حصلت كارثة مع نهاية حلقة المقال..
تنتهي حدود الكلمات، تقفل الصفحة اطرافها خوفا من حروف اخرى، تركض معها محترقا داخل الحاسوب..اتفاجاء ان ابتلع الحاسوب المقالة تماما..
لااقبل ان اصدق سيما انها كانت مقالة خارج السرد والسرب.
مفجع امر الضياع..الكثير من الكتاب داهمه الجنون حينما ضاعت اوراقه..ولكن لم يحدث مع احدهم ان ضاع اطفاله.
تذكرت الكثير ممن احترقت اوراقه او احرقها.. تبادر الى ذهني علي شريعي وا بو حيان التوحيدي.
الاول احترق كتابه؛ دفاتر رمادية، والثاني احرق دفاتره لرماديتها.
الغريب ان رماد اوراقهما كان ابهى وابقى ذكرا من كل القصور والجسور.

في كليهما بكاء ؛احترقت اوراقه او احرقها.. كما هو تماما مع حبيبب قُتِل حبيبه او قتله؛ قتل ديك الجن الحمصي زوجته وحبيبته، لكن ذاك عينه ماجعله يترك على مذبحها ارقى كلمات العربية في وجودية الحب والخيانة والموت.
مفجع امر الضياع..
ليس المسالة في النص اللغوي فحسب، بقدر ماهو امر ياخذ فجيعته مع الانسان في عموم المنتج الابداعي للانسان، وعموم مايكون منه في خلاقيته حاملا شيئا من صفات الالوهية في الارض.
قد يكون لوحة او اطارا فنيا اخر او فيلما لاتكرر لقطاته او لحنا.
بكل الاحوال هي نصوص وان لم تملك حروفا - هذا ما تتكفل به المناهج السيمائية عادة- لكنها بالتاكيد تملك لغة قد تتجاوز وشاية الحروف..بحيث يصح معها كلمة النفري (كل الحروف مريضة) بحثا عن بديل سيمائي..
اذ طالما تشي العيون والمواقف والخطا ما لاتشيه الكلمات.
يتعدى الامر وجوديا..انك تفقد ثورة ابدعتها..او حقيقة تحملتها او بالاحرى حملتها.. بكل الاحوال الحقيقة وحدها (ان حملتها تحملتها) والا فانت خارجها.

وفي هذا مشكلة اكثر اصحاب القضايا تاريخيا وانتكاس الدرب بهم وقضاياهم؛ الوطن، الارض، الانسان، الحق، التاريخ، الدين، الثقافة، الكلمة. حينما حملوها في أسماءها دون اثقالها..لم يعوا الجدلية التي تحملها اللغة في كلمة حمل؛ فأن تحمل شيئا هو ان تنوء باثقاله.. وفي هذا يقع مفهوم الالتزام مع المثقفين وحمل الكلمات الذي لايضاهى معهم/ خذ الكتاب بقوة.

... لذا سقط كثير من رجال الاحزاب والاديان والثورات والمعارضة والمثقفين والشعراء والكتاب..حينما فارقوا تلك القاعدة. والى هذا تنتهي فكرة الاجيال الثلاثة لابن خلدون.
ان تحمل شيئا هو ان تسقط ليبقى..لا ان يسقط لتبقى.
قبل ايام قرأت صدفة المادة الداخلية لاحد الاحزاب الاسلامية. كانت قد كتبت قبل اكثر من نصف قرن..ضحكت بشدة، كيف آل الدرب مع تلك الكلمات العضيمة بان تغفوا بعيدا عن خطا الحزب في رجالاته..مع ذلك لم اقل سقطت الكلمات وبقوا..قلت سقط الرجال وبقيت الكلمات.
عودا على فجيعة الضياع للمنتج الابداعي مع الانسان.ففي فقد الثورة، مثلا، لم تكن هناك مشكلة كبيرة لكرامة الحقيقة في ثورة الحسين وماشابهها،وقت الثورة في باقي الامصار بتزوير الواقعة عموما. ولكن المشكلة ان يزور تاريخها بعد ذلك.
المهم الالم هنا لدى اصحاب الخط مضاهي لمن فقد كتابتاه، لوحته، لحنه، فيلمه، تلامذته، في رواق ما او حريق ما، نهر ما، مدرسة ما، ماخور ما.

الغريب ان الفكرة ممكن ان يعاد بيانها بالف شكل في الكتابة، ولكن الكلمات لايمكن ان تتراصف كما كانت..اذ وجودها بل لون وجود الفكرة يعتمد على شكل رصف كلماتها..
انا اذكر عماذا كنت اتكلم. ولاكني لااذكر الكلام.

لاباس اذكر منها ما ساعود له لاحقا من كلمات ازرية(عبدالله الازري) بغزليات ابن الفارض ولغو لغة النفري. لكنها لشاعر مغمورقالها وهو مخمور فلسفيا فشردَت به الى اين، لايعلم..خطفتها منه مخمورة فبقيت ترضع خمرتي..لاذهب بها حيثما اريد.

أودته في الخصر.. زحام
وينزل ربُّها في كفها.. غطّته بالاخرى فنام.
[email protected]