الدولة هي المؤسسة التي يؤسسها الناس لتخدمهم، لكنها وفي احيان كثيرة تقودهم كالقطيع على عكس ما يشتهون.
" جان جاك روسو"
الدولة حلم من لا يملكها وحيرة من يعيش في ظلها، خاصة ان كانت من النوع المترامي الاطراف، ذات الحكم المركزي، حيث البيروقراطية تضرب اطنابها. ترى هل الدولة وسيلة للوصول الى هدف، ام هي غاية تقف عندها الاماني ؟
لقد عشنا عقودا من الزمن في ظل ثقافة تطلب منا ان نصنع سلّما من جماجمنا لعز الدولة، لكن الحقيقة لا تحجب بالغربال كما يقولون، فالانسان هو اسمى ما في الوجود، وكل شيء يعارض سعادته او يقف حجرعثر في طريق رفاهيته، باطل. يجب تجريد الاشياء والمسميات من الهالات المقدسة التي غطيت بها : هذه الكعبة بيت الله كما تسمى، راها النبي وقد تاكل جدرانها، فقال لعائشة "ع" :" لولا ان قومك حديثو عهد بالجاهلية لهدمت الكعبة وبنيتها من جديد "، فالكعبة هي عبارة عن اربعة جدران لا غير كبناء، لكن عبقرية الرسول منعته من هذا العمل في ذلك الوقت للسبب الذي ذكره. كذلك الدولة وعلم الدولة، هناك من يراهما مقدسان، لكن واقع دولة كالصومال يقول لنا : ان الناس يموتون في ظل علم الصومال وفي كنف الدولة، دون ان تستطيع الحكومة الصومالية فعل شيء لمواطنيها.
ونظرة سريعة للاحداث المتعلقة، خصوصاً بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وسقوط جدار برلين، وما تلاها من توحيد العملة الاوربية الى ظهور الدستور الأوروبي المشترك، كل هذه الاحداث تبين لنا افول نجم ما يسمى بالدولة / الامة، ذلك لان الامم لا تستطيع العيش بمفردها، وفي سبيل خلق تعاون فعال لنيل فائدة مشتركة، يستوجب التنازل عن امور كانت تعتبر حتى الامس القريب جزءً من السيادة التي لا يمكن المساس بها.
في عدد 27 /28 مايو عام 1995 نشرت صحيفة الفاينانشيال تايمز مقالاً بقلم " جيمس مورجان" بعنوان " هل هناك حاجة الى وجود الدولة ؟ من السهل تحويل الامم الى شركات ".
ويذكر مورجان في ذلك المقال ان احد رؤساء الوزراء الافارقة قال في احدى المناسبات التي حضرها الكاتب : ان المشكلة الحقيقة التي يواجهها الزعماء والرؤساء في العالم الثالث، هي ارتفاع التكاليف اللازمة لادارة الدولة ارتفاعا رهيبا، كثيرا ما تعجز الدولة عن الوفاء بها " وتساءل احد الحاضرين عما يمكن عمله بالنسبة لاحد الاقاليم المتعثرة في افريقيا جنوبي الصحراء، فاقترح مورجان : "ان افضل ما يمكن عمله هو اسناد ادارة ذلك الاقليم الى احد كبار اصحاب مزارع تربية المواشي الاوروبيين المقيمين هنا، حتى يديره بالطريقة نفسها التي يدير بها اعماله الناجحة " وقد علق رئيس الوزراء الافريقي السابق على ذلك بقوله : انه حين تولى مهام منصبه ادهشته الميزانيات الضخمة المخصصة للسفارات وللقوات المسلحة، ولهذا عمل على تخفيضها مما اغضب الجميع، وان مخصصات ورواتب الوزراء كانت هي ايضا مرتفعة للغاية، وان ضخامة هذه التكاليف هي احدى اسباب انهيار نظم الحكم في كثير من الدول الافريقية، كما حدث في سيراليون ورواندا والصومال وغيرها. وينهي مورجان مقاله بالتساؤل عما اذا كانت هذه الاماكن تستحق في المحال الاول ان تعتبر " دولا" بالمعنى المفهوم من كلمة دولة.
ويضاف الى ذلك ما يذهب اليه " جاري دين " في مقال له ظهر في اكتوبر عام 1998 عن " العولمة والدولة / الامة " من انه رغم الاعتراف النظري بالسيادة الوطنية لمختلف الدول المستقلة، فكثيرا ما تفرض الدول القوية سيطرتها ونفوذها على الدول المستصعفة، وتتدخل في شؤونها الداخلية، مما يدفع الكثيرين الى اعتبار المفهوم التقليدي لسيادة الدولة / الامة مجرد اسطورة، رغم اهمية الدور الذي يلعبه هذا المفهوم في العلاقات الدولية. بل المتوقع انه في المستقبل، ونظرا للتغيرات التي سوف تطرا على ميزان القوى، قد تبدي الدول الصغيرة استعدادها للتنازل عن جانب من سيادتها الوطنية لبعض الدول القوية، نظير توفير الامن لها وضمان سلامتها وحمايتها من العدوان الخارجي، فضلا عن تحقيق بعض المكاسب الاقتصادية والاجتماعية لشعوبها.
وبناء عليه يقول الدكتور " احمد ابو زيد " : " ان مبدا السيادة المطلقة، الذي لم يتحقق في كثير من الحالات في الماضي، قد لا يتحقق الا في حالات نادرة في الستقبل، خاصة في ظل تزايد نفوذ بعض المؤسسات والمنظمات الدولية، وقسوة الشروط التي تفرضها على الدول الصغرى ودول العالم الثالث، كما هو الشان مع البنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي "
ولقد حرم النظام البائد العراقيين من الطعام ومستلزمات العيش، عندما رفض اللتوقيع على برنامج " النفط مقابل الغذاء " بادئ الامر، و استمر في الرفض لمدة سنتين بحجة المساس بالسيادة الوطنية، حيث ظهر " محمد سعيد الصحاف " على شاشة التلفاز، وهو يسخر من احد اساليب موظفي الامم المتحدة لمعرفة مدى سوء التغذية، حيث يتبع وسيلة " قياس الزند " قائلا : " كيف يمكن ان يقبل شيخ عشيرة، ان يلمس موظف اجنبي زند ابنته لقياسه ؟! "
هكذا اذن كل ما يفيد الشعب يمس السيادة، اما عندما يهتز الكرسي هم مستعدون للتوقيع على ورقة بيضاء، كما فعلوا في نهاية حرب خليج الاولى عام 1991، او عندما تنازلوا عن شط العرب لشاه ايران سنة 1975. ويقول وزير الاعلام الكويتي " ابو الحسن " في افتتاح ندوة عقدت في الكويت بعنوان" الغرب بعيون عربية " : " اننا مهددون بالدوران خارج عجلة التاريخ، خاصة وقد ارتفعت اصوات الكثيرين من الذين يديرون عالم اليوم، لتتهمنا باننا اشد مناطق العالم تخلفا عن العالم، بل اننا المنطقة الوحيدة التي ترفض التغيير، هذه النظرة الظالمة يجب ان لا تدفعنا للتباكي على حالنا بقدر ما يجب ان تكون دافعا ملحا لتغير انفسنا، لان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم "

رحيل دكتاتور آخر
عرفان صديق

" اذا اطعمت الجماهير بالشعارات الثورية فسوف تصغي لك اليوم وغدا وبعد غد اما في اليوم الرابع فسوف تقول لك : فلتذهب الى الجحيم "
" نيكيتا خروشوف"

مثل كل الزعماء العرب الاخرين كان عرفات يكرس كل خطاباته لشرح قداسة الارض واهمية الجهاد حتى النصر وكان يردد دائماً " معاً نحو القدس عبر ملايين الشهداء ". ترى أي مستقبل ينتظر شعباً يقدم ملايين القتلى ؟
يقول " جيمس بيكر " في مذكراته عن مؤتمر مدريد بين اسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية " علينا ان نحبو قبل ان نمشي، وعلينا ان نمشي قبل ان نجري. واليوم اعتقد اننا بدانا الحبو جميعا وانا اخط هذه الكلمات بعد 3 اعوام فقد نضجت عملية السلام الى درجة بدات فيها العداوات القديمة في الرحيل، وربما تكون قد تعلمت الجري وكلي امل ان ارى في حياتي عدوا بارعا تجاه اقرار سلام دائم وامل ان لا اكون متغطرساً لو قلت : انني فخور بالمساهمة في عملية بدات تستبدل الكراهية بالامل والخوف بالصداقة "1".
لكن الايام اثبتت ان بيكر كان حالما اكثر من اللازم فـ" ياسر عرفات" انما كان يناور من وراء توقيع الاتفاقيات. يقول الدكتور يوفال ارنون من كلية يهودا : ان عرفات ترك الفلسطينيين كما بدا العمل معهم، من فوضى الى فوضى، و السبب سياساته الخاطئة ومطالبه الخيالية حيث ظهر ان عرفات لا يريد دولة فلسطينية بقدر ما يريد تدمير دولة اسرائيل حيث كان يعد الجماهير بدولة من البحر الى النهر عاصمتها القدس. كما انه قال بعد 3 اشهر من توقيع اتفاقية اوسلو في زيارة لاحد المساجد في جوها نسبرغ في جنوب افريقيا : ان اتفاقيته مع اليهود تشبه اتفاقية الرسول "ص" في صلح الحديبية أي بمعنى انه كان يناور لكسب الوقت بغية الحصول على المكاسب التي يريدها. وعربياً نستطيع القول ان القضية الفلسطينية كان دوما بمثابة الافيون الذي يخدرون به الشعوب العربية و يبررون عدم اجراء الاصلاحات في الداخل بحجة ان العرب في حالة حرب مع اسرائيل وفي المقابل استغل عرفات الوضع لحلب الانظمة العربية الغنية بحجة تقديم المساعدات للاجئي فلسطين ولدعم الثورة. واصبحت صورة الزعيم العربي في عيون شعبه تعتمد على مدى اخلاصه للقضية الفلسطينية وهذا ما حدى بصدام حسين الى ان يوجه صواريخه نحو اسرائيل بينما هو يحارب امريكا في حرب تحرير الكويت كي يكسب الدعم المعنوي
لكن السؤال الذي يفرض نفسه بعد انتهاء كل تجربة او انتهاء حياة أي زعيم سياسي، هو ماذا قدم عرفات لشعبه ؟ الحقيقة ان عرفات استطاع ان ينقل القضية الفلسطينية الى الساحة العالمية لكن ذلك كان هدفا بالنسبة اليه وليس غاية وهذا هو السبب الذي سيجعل خلود عرفات في التاريخ كخلود قصور من الرمال.
كما يقول الكاتب الامريكي " توماس فريدمان " في صحيفة Newyourk Times ويضيف فريدمان ان العالم العربي تحت قيادة رجلين مثل صدام حسين وياسر عرفات تعبأ بشعارات القومية العراقية والفلسطينية كمقولتين خاويتين مفتقرتين لأية اجندة لتنمية وتطوير الرجال والنساء في ذلك البلدين، اذ ركز الرجلان على اجندة مقاومة القوى الخارجية وعلى شراء كميات اكبر من الاسلحة وكميات اقل من اجهزة الكومبيوتر، لان ذلك هو ما يخدم نظم الرجل الواحد، هذه القومية الخاوية هي التي عبات شعبيهما فاصبحا غير قادرين على اثارة قضايا تمويل التعليم. دع عنك تطبيق الديمقراطية وكما يقول المثل العربي " لا صوت يعلو على صوت المعركة " ولم تكن هناك اصوات اعلى في هذا لشأن من صوتي صدام و عرفات. هذه النماذج من الشخصيات لا تعرف لحد الان انه لايوجد طرف رابح في الحرب، فكلا الطرفين خاسران لان الحرب يعني الغاء العقل واستخدام اسلوب الحيوانات كما يقول " ميكافيلي" في كتابه " الامير" : ولو تطرقنا الى الفساد الاداري في السلطة لوجدنا رائحة الرشاوي والاختلاسات والتجاوزات تزكم الانوف، كانت السلطة تدعى انها بحاجة الى 56 مليون دولار لتوزيع رواتب موظفيها البالغين 125 الف موظف، في وقت يبلغ اجمالي ما يصل الى خزينة السلطة كضرائب 90 مليون دولار شهرياً فالى اين كان يذهب الفارق ؟
في عام 1997 فقط حصلت السلطة الفلسطينية على 550 مليون دولار من الدول المانحة، كما دخل خزينة السلطة 800 مليون دولار من الضرائب، واعترف التقرير المالي للسلطة وعلى استحياء باختفاء ما يقارب 220 مليون دولار، فاين ذهبت هذه المبالغ ؟ ربما يكون الجواب عند الدكتور يوسف عبد الله المشرف على الحرس الخاص بعرفات، والذي اعترف بضخامة ما يصرف في المكتب الخاص بالرئيس الفلسطيني في رام الله. لقد استبشر الفلسطينيون خيراً عند قدوم عرفات الى الاراضي المحتلة واستقبلوه استقبال الابطال وكانوا يتوقعون منه الكثير، لكنه خيب ظنهم ولم يفعل سوى ترديد الشعارات، وصبر الفلسطينيون وسكتوا لكن صبرهم نفذ عندما عين ابو عمار "موسى عرفات " كمدير الامن في السلطة ليحل محل " غازي الجبالي " المسؤول السابق، والذي اختطفه المتطرفون واجبروه على الادلاء بكل ما فعله خلال فترة توليه المنصب من اختلاسات وتجاوزات، بل وحتى انتهاك الاعراض. فخرج الناس ولاول مرة في مظاهرات غاضبة ينددون بقرار عرفات.
واضطر عرفات تحت ضغط الواقع الاقتصادي المتردي الى تعيين الاقتصادي المعروف " سلام فياض" لكنه كبل يديه عملياً وجعله دمية لتهدئة الامور، مما دفع " سلام فياض" الى ان يقدم استقالته. ويعلم القاصي والداني ان ازلام عرفات قد وزعوا الامتيازات في السوق بينهم، وكان كل واحد منهم يختص باحتكار نوع من التجارة، و" نبيل شعث" قد استحوذ على تجارة اجهزة الكومبيوتر وابو علاء " احمد قريع " كان وما يزال يحتكر تجارة استيراد السجائر والمعلبات، والقائمة تطول. وحال المدن الفلسطينية لا يحتاج الى شرح : اكواخ وصرائف واطفال حفاة وحمير و أوساخ ومياه اسنة، في شارع تتنافر فيه الازياء الأوروبية والالوان المبهرجة والابنية الحديثة والسيارات الفارهة، ويزداد التنافر حدة وجنونية عندما يستخدم متخلف جاهل لا يعرف القراءة والكتابة اخر مبتكرات التكنولوجيا اليابانية "3". ان العرب يبداون من حيث انتهى الاخرون، ولا يولون التعليم اية اهمية، ولا الاصلاح الاقتصادي ولا احترام الراي الاخر ولا الشفافية، والمصير كما يقول الكاتب الالماني " جبهارد" : " ان من يعجز عن التاقلم مع العولمة سينقرض كالديناصورات لان الثقافة العالمية ستفرض نفسها "

"1" مذكرات جيمس بيكر
"2"صحيفة الاتحاد العدد 875
"3"التحولات العربية د. سيار الجميل ص103