لكل إنسان وطن يأوي اليه ويجنَّس بموجبه! سيّان في ذلك العالم والجاهل والمخلص والنهّاز! حتى المختل عقليا له وطن يحتمله وينفق عليه!! حتى القاتل المحترف له وطن ينتسب اليه ويمارس عليه هوايته المفضلة! والوطن يشبه البيت في كثير من الصفات والوظائف فهما معا قدر المواطن الذي يصبح فيهما ويمسي! ويفخر بهما ويدافع عنهما وقد يَقْتِل أو يُقْتَل او يعمل على تهديمهما! والمواطن يمارس عليهما طيشه إن كان طائشا وحكمته إن كان حكيما! بعض البيوت والأوطان محظوظة بأصحابها! وبعض الناس محظوظ ببيته ووطنه! ويحدث العكس احيانا فيكون البيت او الوطن شؤما على قاطنه أو يكون القاطن نحسا على بيته او وطنه! ولست ادري إن كان هذا قدر العراق أم قدر العراقي ولكن كل الذي ادريه هو شقاء الأثنين العراق بالعراقي والعراقي بالعراق!! ولأن البدوي بلا بيت فهو بلا وطن! وبعبارة ادق بيته خيمة من الوبر تنشر وتطوى فوطنه بدَدٌ بين النشر والطي! والبدوي هو القوة الضاغطة في القارة التي سميت عربية غب الفتح الأسلامي والممتدة بين آسيا وافريقيا ولو سميت القارة الأسلامية لما استأثر العرب بجميع السلطات في البلدان المفتوحة ولما حرموا السكان الأصلين من ممارسة حقوقهم! لم يكن هذا البدوي في وهلته الجاهلية وطبيعته الصحراوية يعرف للوطن معنى ولا طاعة لأنه عصي على التأقلم والوطن أقليم! كيف يتأقلم البدوي وهو يتنقل حيث المطر والعشب الممرع أو حيث الأمكنة التي ينطلق منها الى ضحاياه بسبب أو دون سبب! والفخر كل الفخر ان يقول الأعرابي ان وطني صهوة فرسي! ورزقي رقبة عدوي وضجيعي سيفي! ولم يحصل في الشعر الجاهلي ان تغنى شاعر بوطنه! إنما حياته بين بلاد اقام فيها واخرى مقيم فيها وثالثة سيقيم فيها! ألم تقرأ للمرقش الأكبر ( جاهلي قديم ) يخاطب صاحبته اسماء:

أينما كنتِ او حللتِ بأرضٍ أو بلادٍ احييتِ تلك البلادا

نعم قد يتغنى الشاعر بعشيرته ( قبيلته ) أوبعشيرته ( حبيبته ) يتغنى بالمكان المؤقت الذي ينعم فيه كما يتغنى بالزمن الرخي! وكل ذلك غير دائم! ومعار وودائع:

وما المال والأهلون إلا ودائع فلابد يوم ان ترد الودائع

لكن اصحاب الحواضر ( المدن ) كانوا اكثر تمسكا بالمكان بسبب الإستقرار والاستثمار! ويمكن القول ( بشيء من الاحتراز والاستثناء ) ان العربي المتحضر الكريم يخبيء تحت جلده بدوي جلف لئيم! والعربي الحكيم يصارع في اعماقه البدوي الزنيم! بعبارة صريحة ان البداوة هي مرجعية الحضري العربي! حين تشتجر الأمور! او ان الأعرابي المتخلف هو العقل الباطن للعربي المتنور! وكان الشاعر القديم مغاضبا اولئك المعجبين بالحضارة:

فإن تكنِ الحضارة اعجبتكم فأي رجال بادية ترانا

ولكي نؤكد اعتراضنا على قيم البداوة التي تنظر الى الوطن ضرعا يحلب وظهرا يركب وذرية تنجب! وسوى ذلك فلتحل عليه لعنة داحس والغبراء! سكان المدن يرسلون اولادهم ليتعلموا من البدو الفصاحة والفروسية وربما صدق اللهجة! وبُعيد مجيء الإسلام الحنيف دأب علماء اللغة والشعر على تنظيم رحلات الى الصحراء لمشافهة البدو الرحّل والتدوين عنهم لأنهم ثقاة لا يكذبون واقحاح في اللغة لايخلطون! وبما يخص الشواهد النحوية فقد اعترف رؤبة بن العجاج وهو اشهر الرجاز البدو وحفاظ الشعر وابرز من اشير الى محفوظاته من الشواهد النحوية! اعترف في مرضه الذي قضى فيه انه كان يبيع الشواهد النحوية المنحولة على النحاة لقاء دراهم ينتفع بها
وطلب المغفرة من الله ولا اظنه يستحقها فقد افسد واصحابه لغتنا الجميلة! واما الشعر فقضية نحله معروفة منذ ابن سلام الجمحي وكتابه طبقات فحول الشعراء فقد اشار دون لبس الى مشكلة نحل الشعر الجاهلي.................... بحيث جاء المستشرقون ( مارجليوت ورهطه ) ومعهم او بعدهم طه حسين ليشككوا بالشعر الجاهلي! ومن يتابع القرآن الكريم يعرف كيف كانت السور والآيات تخاطب الأعراب!

فهم الأشد نفاقا! وحين قالت الأعراب آمنا!!! طلب اليهم القرآن الكريم أن يقولوا أسلمنا لأن آمنا كلمة مبهمة!!! أسلمنا فعل يعني دينا محددا هو الإسلام! وآمنا فعل يعني مضمرا مفتوحا على الإحتمالات! إ. هـ نحن الخلف المتحضرين الذين ورثنا تركات اسلافنا من سكان الوبر والمدر معا!! اردنا ان ننسلخ عن المرجعية البدوية ونكرس انتماءنا للمرجعية الحضرية فبدأ ابناء العراق وبناته منذ الأربعينات ثم الخمسينات من القرن الماضي يسكنون في مجمعات على اساس الحرفة او الصفة او المصلحة! ففي النجف مثلا هناك زقاق اليهودي وزقاق الأكراد! وكان الفارسي والهندي والعربي والسني والشيعي يتعايشون دون مشاكل تذكر! ولبثت
فضاءات ومناطق في النجف كالبراق والمشراق والحويش والجديدة وحي السعد وهذه الأسماء لاتحمل أية شحنات عشائرية او طائفية! وفي بغداد صارت أحياء باسم الحرف والمهن نحو حي المعلمين وحي المهندسين وحي العمال وحي الإعلاميين والفنانين! لكن الى جانب محلة التكارته ومحلة الدوريين والشيوخ وسواها! عموما بسبب الفكر القومي تارة والفكر الوطني أخرى وبسبب رياح الفاشية والنازية التي هبت على العراق من المانيا وايطاليا وبأسباب إنتروبولوجية ذهبنا نحن العراقيين بعيدا فصنعنا من الوطن اللات والعزى! صغنا له الأناشيد وهرقنا من اجله العمر والعرق والدم! حتى نسينا المواطن المسكين تماما او تناسيناه
ونحن نسبح للوطن! وحتى هذه الساعة فكل سلطة تتسلط على الوطن تكرس فكرة الوهية الوطن وتدعوا الى تقديم المواطنين قرابين هينة من اجل هنائه وخلوده او قرابين على مذبح حريته وتحرره! ومع السنين وجدنا اننا صنعنا عقداجتماعيا ( غير موقَّع ) دون ان ندري مؤداه ان المواطن الشريف هو الذي يعطي الوطن كل شيء ولا يأخذ من الوطن شيئا مقابل ذلك! وهذا شاعر ثورة العشرين والأكاديمي الكبير الدكتور محمد مهدي البصير والمتزوج من فرنسية يخاطب العراق على النحو الذي الفه العراقيون فهم يموتون ليعيش الوطن:

إن ضاق ياوطني علي فضاكا فلتتسع بي للأمام خطاكا

بك همت او بالموت دونك في الوغى روحي فداك متى اكون فداكا

هب لي بربك ميتة تختارها ياموطني اولست من ابناكا

اما محمد بسيم الذويب فالوطن عنده خيمة وصحراء وبدو وكل ما عدا اولئك ممل ولا يستحق شيئا!!:

وجنان الأرض لا تعجبني وانين الناي لا يطربني

اي وربي مثلما تخلبني خيمة وسط بلاد العرب

واتذكر جيدا نشيدا كنا نردده في الإبتدائية في طقوس الإصطفاف الصباحي وتشتد حماستننا له دون ان ندرك تفاهة مغزاه وعدوانية مرماه:

ياليتني كنت حساما ماضيا او عسكريا مستعدا غازيا

حتى ارى دمي العزيز الغاليا منسفحا على ثرى بلاديا

فأي امنية للطفل في ان يكون سيفا للقتل ولا يكون غصن زيتون او حمامة سلام! وأن يكون عسكريا! ولا يكون مهندسا أوطبيبا أو فنانا أو مفكرا! ويمجد هذا النشيد فكرة الغزو والإستعداد له وليس رد الغزو! واي امنية ان يرى الطفل دمه منسفحا على التراب! واظنه تراب المغزو ّ! اما ثرى بلاديا فهو تشكيل يرضي القافية لأن الغازي يموت في البلاد التي يغزوها! فتأمل ما كان عليه امرنا وما آلَ إليه!!

وقد التفت بوقت مبكر مبدع علم الأجتماع الشيخ عبد الرحمن بن خلدون ( في مقدمة ابن خلدون النفيسة) الى طبائع الأعراب وميولهم التدميرية ّ! فهم يكرهون العمران والخضرة والاستقرار! ولايعترفون بطاعة حاكم ينظم حياتهم! وحقد البدو على ابن خلدون فقالوا انه بربري وابن بربرية! ويكمن القول ان انجب تلامذة ابن خلدون في العصر الحديث هو فقيد العلم والوطن العلامة د. علي الوردي الذي التفت الى الأعرابي القاتل ووجد انه يعيش تحت جلد العربي المسالم فاضطر الى دق اجراس الخطر محذرا من يوم أيوم وليلة ليلاء ينتصر فيهما البدوي على الحضري وعندها سنعود القهقرى الى عهود ما قبل الجاهلية! وكرس حياته رحمه الله وهو يفتح النار على البداوة والغرور الأعرابي الذي يرى:

لنا الدنيا ومن اضحى عليها ونبطش حين نبطش قادرينا

أو:

ونشرب ان وردنا الماء صفوا ويشرب غيرنا كدرا وطينا

أو:

إذا بلغ الفطامَ لنا رضيعٌ تخرُّ له الجبابرُ ساجدينا

لكن هذا العالم الكبير اكتوى بنار البداوة وشاهد بعينيه انتصار البداوة في العراق ومناطق كثيرة من الدويلات العربية على المدنية والحضارة! شاهد خروج البداوة على ظهر بعير وعلى راسها الكوفية وكتفها العباءة ثم شاهد عودتها الينا بسيارة مارسدس!! والزي الغربي ومرددة مصطلحات التمدين! وحصل العديد مهم على الدكتوراه وعمل في الدائرة الدبلوماسية!! اي ان البداوة اعادت تأهيل عتوها وغطرستها او تأهيل فكرة حصان طروادة وكان الذي ينبغي ان لا يكون!! طُرِدت البداوة عن المدينة لتنبثق هذه المرة ثانية من اعماقنا! حاربت الحضارة بسيف البداوة فخسرت ثم حاربت الحضارة بسيف الحضارة فربحت الحرب! وهو النهج ذاته الذي اتبعه الأعراب المنافقون حيال الاسلام حتى قال قائلهم: حاربنا الاسلام بسيف الشرك فتغلب علينا! وحين حاربنا الاسلام بسيف الاسلام تغلبنا عليه! البداوة صنعت هالة للوطن تقترب من هالات الوهم على سبيل تحديث رؤيتها لتناسب الزمان! ففرضت اتاوة الموت على المواطن! ومن لم يمت حين يدعوه ولي نعمته أو امره فهو خائن او مرتد وعليه ان يموت خائنا او مرتدا! ومن هرع للحرب ومات فهو شهيد وبطل ونبراس! الوطن على رأي البداوة الحديثة لن يهنأ ما لم ير جيوش الأرامل والثواكل! جيوش الأيتام والجائعين والمعوقين في سادية غريبة!! اصبح الحاكم هو العراق واضحى العراقي هو الذي يشعل البخور للحاكم! وهذا دأب صدام حسين مع العراق! قال الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد:

إذا قال صدام قال العراق وزُلْزِلَتِ الأرضُ زلزالها

وتمت تربية الأجيال الجديدة منذ 14 فبروري 1963 والى 9 ابريل 2003 على ان الوطن شعلة مقدسة تحتاج الى زيت بشري ( الدماء العراقية!! ) وان كل عراقي مستعد ليكون هو الوقود!! وقد تم استنزاف العراقيين بعد 18 جولاي 1968 في اعمال السخرة المجانية في انشطة العمل الشعبي سييء السمعة! وكان الإعدام مصير كل من لايتطوع للسخرة ومرجعية الذين اعدموا هو الشعار الذي اطلقه حزب البعث ونصه الحرفي هو ( من لا ينضح عرقا للعمل الشعبي لن ينضح دما للوطن ) ثم جاء الشعار العصابي الرديف غب حرب البسوس الثانية بين الجارتين العراق وايران! وهذا الشعار هو ( كل عراقي هو مشروع للاستشهاد ) ولم يكن احد ليجرؤ على السؤال لماذا لايكون السويسري لا سمح الله مشروع استشهاد؟ لماذا لا يكون الإيطالي لا سمح الله ايضا لماذا لا يكون ابن جزر الكناري السياحية وهي اجمل الجزر في العالم لماذا لا يكون الكناري ايضا وايضا لا سمح الله مشروعَ استشهاد؟؟ وحين تقبل الطبع العراقي هذه الشعارات التي كانت مثل بالونات الأختبار لمعرفة قدرات العراقي على التضحية بالشيء من اجل اللاشيء والصبر المهين على الأذى! حين تقبل السابق واللاحق جاء تصريح صدام حسين مخاطبا الدول الطامعة في العراق وهي في ظنه ايران وامريكا!! ( من ظن ان العراقي يستسلم فهو واهم ومن اراد العراق فليعلم انه سيستلم عراقا دون عراقيين )!! فأي وطن هذا الذي يأكل ابناءه كما تأكل الهرة ابناءها! اي وطن لايظهر فيه سوى الحاكم الأحمق الذي ينظر الى رأس العراقي وكأنه زرع يانع وقد حان قطافه!! قال الحجاج الثقفي مخاطبا العراقيين ( والله إني لأرى رؤوسا قد اينعت وحان قطافها وإني لآخذها ) وكان اقوياء البدو يحمون الأرض ويهددون الناس بالقتل اذا تجاوزوا الحمى! فقد حمى النعمان اللخمي اليماني زعيم مشيخة بيت المنذر! حمى زهور الشقائق وكان يقتطف راس كل من يقتطفها! وحمى الأشهر الفردية وكان يقطع راس كل من يشاهد فيها كما حمى المقلح الكندي الطير فكان يقتل كل من يفزع الطير اثناء شربها من الغدران! الإنسان دائما ضحية الأرض فأية ارض تمج دم ابنائها منذ بواكير التاريخ ولا تشبع!! والمقالة هذه تطمح الى الإلتفات الى المواطن ونقل الثداسة من العراق الى العراقي فالمكان بالمكين والوطن بالمواطنين! وان يحسب لدم العراقي الحساب الكريم! وتتم العناية بغذائه وكسائه وشغله وتعليمه لكي ينصرف الى تربية ابنائه بدم بارد فلا نبتلي بالغوغاء والسفلة والجهلة المزايدين على حب العراق وكأن العراق وثن! او صخرتا الغري اللتان كان الملك القاطن في الحيرة او الصحراء يغريهما بدماء الأبرياء! آن الأوان اليوم وليس غدا الى ترك المواطن العراقي ينعم بخير العراق! دون ان تتدخل سلطة الدولة او الشارع او التقاليد في حجر حريته! العراقي لا يمكن كبح مشاعره بمزاعم التضحية للدين او المذهب او القومية فمن يرغب بالتضحية فليضح بنفسه هو وحده ولا يحق له البتة إرغام غيره على التضحية! والعراقي ابن الحرية الفضاء المنفتح على كل الحضارات ولن يسمح لأي متشدد ان يحجر عليه حريته في اختيار النمط الذي يناسبه سواء كان ذلك النمط سكنا او طعاما او ملبسا او معتقدا! لنتعاقد نحن العراقيين على ترك القرار للعراقي ولا يجوز مصادرة قراره تحت اي مسوغ فقد مللنا المسوغات والمسوغات ملتنا وللحديث صلة.

عبد الإلـه الصائـغ