لا يمكن لأحد أن ينسى خطاب القسم للسيد الرئيس الدكتور بشار الأسد الذي دخل سنته الخامسة من ولايته الأولى رئيساً للجمهورية العربية السورية، برغم ما يمر علينا نحن السوريين من أزمات، لماذا؟ لأن الخطاب جاء يزيح شيئاً من الخوف والغمة، أو هكذا اعتقدَ الكثير، عن كاهل شعب ناء تحت وطأة الفقر والقهر، والحرمان من كل شيء، ومبشراً بزوال عهد الجوع. إذ لا يوجد من هو مقهور مثل السوري الذي لا يفوقه في قهره غير ما كان واقعاً على شقيقه العراقي أيام النظام الراحل إلى غير رجعة. ليس هذا الكلام بقصد النيل من الحكومة أو من أحد بعينه وإن كان الأمر لا يخلو أبداً من الإشارة إلى أن أغلب من في الحكومة هم فاسدون وفي وضح النهار، بدليل أن الرئيس ذهب إلى تغييرها أكثر من مرة لتحريك رغبته بالإصلاح ونقلها من خانة التمني إلى واقع معاش من المواطن الذي يسعى إلى الحصول على ما يوفر له ما ضاع من إنسانيته التي قفز عليها البعثي وغيره ممن بيده الأمر.
وإذا ما أردنا أن نعدد ما يفتقده السوري قلنا باختصار إنه يفتقد كل شيء من لقمة خبز نظيفة إلى آخر ما يحقق له إنسانيته التي فُطر عليها. هو الآن فقير في ماله وفي علمه، فقير في ما يشعره بأنه إنسان له حقوقه في الموطنة. إنْ أكل فإنما يأكل ما يقيم له أوده، وإن تحدث فإنه ينبئ عن تخلف في المعلومة بالقياس حتى لأبناء دول مثل اليمن، التي أعتقد أنها أشد بلاد الله تخلفاً، وإذا ما فكر برفع الصوت قليلاً فسوف يساق إلى ما يكره، وهنا تراه ينكمش على ذاته مؤثراً السلامة في البعد عن السلطان حتى لا يصاب بما يسبب له العطب في جسمه ونفسه وروحه. لهذا تجده على غير ما هم عليه بعض أشقائه في العروبة مثل اللبناني مثلاً وإلى حد ما المصري. تجده على شيء من الانفعال إذا ما تطلب الأمر بياناً عن الرأي في مسألة ما. بينما تجد أن المصري يذهب سلساً في التعبير عن رأيه إلى حدّ انتقاد رأس الهرم لا حباً في نقده وإنما في سبيل إرساء ما يؤسس لإنسانيته التي رحلت عندنا إلى موت مظلم.
إنسان بمواصفات إنساننا السوري الحالي لا يمكن له بحال أن يؤسس لنهضة أو إصلاح، لأننا في الحكم على مذهب زياد بن أبيه لما قال في بترائه مهدداً بالويل والثبور وعظائم الأمور لمن لا يركن إلى كلماته ويعمل بها " واني اقسم بالله لآخذن الولي بالمولى والمقيم بالظاعن والمقبل بالمدبر والمطيع بالعاصي والصحيح منكم في نفسه بالسقيم حتى يلقى الرجل منكم أخاه فيقول انج سعد فقد هلك سعيد أو تستقيم لي قناتكم ".
أجل لقد وصل بنا الحال إلى أننا عشنا مقولة ابن أبيه هذه عقوداً من الزمن في زحمة هائلة من الخوف والطوارئ والقوانين الاستثنائية الكثيرة.
ومما يلفت الانتباه هنا أننا دُرِّسنا في المدارس بلاغة هذه الخطبة وسواها من خطب الطغاة في تاريخنا، ومرّر علينا " القوميون " ما فيها من وحشية وطغيان، حتى صرنا نتغنى بما فيها من بيان وبلاغة وننسى ما فيها من ظلم، إذ ما علاقة " المقيم " حتى يؤخذ بجريرة " الظاعن " وما ذنب " المطيع " حتى يؤخذ بذنب " العاصي "؟.
إذاً لن ننسى أبداً خطاب السيد الرئيس لأن فيه المنفذ إلى بناء إنسان سوري سوي معافى من الخوف والقمع، بعيداً عن شعارات البعثي وتمسكه بقوة السلاح بالحكم حباً بما يوفره هذا الأخير من امتيازات، لا رغبة في بناء بلد قوي يملك أن يتصدى لمكر العدو الذي تعددت مشاربه ونحن على الذلة باقون. أجل يجب أن يكون السيد الرئيس سورياً أكثر منه بعثياً ينتهي إليه حملة الأفكار كلها من السوريين فهو رئيس لهؤلاء جميعاً لا لفئة منهم، وبالتالي هو مسؤول عن أصحاب الاتجاهات الدينية والعلمانية بفروعها جميعاً إن صح التعبير. هو رئيس على هؤلاء ولهم. لا يفرق بين أحد منهم كما هو مفترض، ومن هنا تأتي أهمية سن قانون للأحزاب. بل سأذهب إلى أبعد من هذا وأتجرأ فأقول لمَ لا يستريح البعثي الذي أثبت فشله عبر ما يزيد على أربعة عقود عن تحقيق أي مقدار بسيط من التنمية، ويكل السيد الرئيس أمر حكومته لآخر يُشترط فيه النزاهة على ما تعلمناها بمعناها الأخلاقي الصرف، طالما أن رئيس الحكومة عندنا لا يتحدث في الشأن السياسي فلم لا نأتي به وهو يفقه في أوليات النزاهة والأخلاق ويتولى أمر العباد في هذا الوقت العكر من زماننا السوري؟.
جرّبنا على مدى العقود الفائتة رؤساء وزارة لم يصيبوا الثراء فقط ولكنهم أصابوه بعد أن أصابوا البلد في مقتل. الزعبي مثالاً.. فعلى مدى ثلاث عشرة سنة وهو ينهب البلد نهباً منظماً ولو بحثنا في أصله لوجدناه كان معدماً فقيراً، والفقر ليس عيباً، ونقله " الحزب " من حالة العدم إلى ثراء لا يُصدق. وعليه فأن يتناسل كرسي الحكومة " زعبياً وراء الآخر " فهذه هي المأساة بعينها. هذا الوضع يطعن حزب البعث في شعاراته، فأية اشتراكية هذه التي غوّلت الكثير من أمثال المنتحر الزعبي؟ أليست الاشتراكية تعني فيما تعني توزيع الأرزاق على العباد بالتساوي، أم هي خلق إقطاع آخر غير الإقطاع الذي تغنى "المناضلون" بالقضاء عليه؟
أيضاً هنا لن ننسى ولا يملك أحد أن ينسى أن السوريين حققوا في عهدهم الجديد قليلاً مما يتمنون، أعني تماماً ما أقول: قليلاً مما يتمنون، وهم يسعون، يقودهم في سعيهم هذا إصرار متين، باتجاه ما يحقق لهم فوزهم بحريتهم، التي تصونها القوانين، ونيلِهم حقوقهم الإنسانية أسوة بغيرهم من البشر، حرية القول والتعبير في ما يمس وضع البلد فيشارك السوري عبر رأيه في إعادة صياغة بلده وتنميته، ونقله من حالة الركود التي نشهدها إلى حال أفضل يكون فيها الوطن للجميع. ولا تنحصر بالطبع الحقوق في أن أقول رأياً على صفحات الجرائد، بل تتعداه إلى ما هو أبعد.. إلى صناعة اقتصاد البلد وفق مفاهيم جديدة يشترك في إنتاجها وصياغتها ذوو العلم والمعرفة. يأتي هذا في ظل بناء قضاء نزيه ولا يكون هذا القضاء نزيهاً بغير استقلاله، وجعله في منأى عن الجوع والحاجة. ويتبلور هذا كله في ظل إصلاح سياسي شامل يقود البلد إلى مكانه الحقيقي، عبر إعلام حر ناضج يرى مصلحة البلد لا مصلحة بعض الأفراد، فهو صاحب حضارة عبر تاريخه كله فما معنى أن يتخلف اليوم عن الركب، ويصير من البلاد المتأخرة في كل شيء.
والمضحك المبكي أن الأحكام العرفية التي كان زياد ابن أبيه أول من فرضها في تاريخنا الإسلامي، أن هذه الأحكام تمتد إلى يومنا هذا!! فهل يعقل أننا أمة مشاكسة كما ذهب إلى مثل هذا ابن أبيه فأخذ العراق القديم بجملة من القوانين الصارمة، أم هو الحكم وملذاته والخوف من فقدان الامتيازات؟ إلى جانب أن هذه الأحكام قد فُرضت على العراق آنذاك ليس بفعل تهديد خارجي وإنما لأجل بسط السيطرة على الناس لإخضاعهم للحكم الأموي في الشام. كما هو الحال اليوم فقوانين الطوارئ والأحكام العرفية إنما تعمل للإخضاع ذاته، وليس بقصد صيانة الداخل من " التخريب " في ظل تعرض البلد للهجمات من قبل العدو.
مأساة السوري هي في أنه لا يمارس دوره كإنسان منتج، وهذه الملايين العشرون تبدو ضعيفة خاوية أمام عدد محدود ممن بيدهم الأمر، ولهذا تجد أن الاقتصاد مخرب وأن القضاء مخرب وأن الحياة الاجتماعية من سوء إلى آخر أعمق في سوئه. وأما كيف تسير الحياة في سوريا فعلى " البركة ".

الكاتب أديب سوري