توطئـة:
اذا كان لك ان تـعـد مـرافئ الروح فهـي كثيرة، وان تسـنى لك وصفـها فهـي جميلة الاوصـاف. مرفأ واحـد يتجرد عـن كل المحطات وعـن جميع الاوصـاف، ذاك هـو اول محطة،لاول خطوة واول كلمة واول درس في الحياة .
كـم كـتبوا عن بغـداد، عـن شوارعـها وعـن جمـالها، كم تغـنوا بلياليها ونهر دجـلة فما ارتوى عطشــي ولا حلـى لـي المبيـت بعيدا عـن موطـني، وفي الغربة يصبح الحنين ذو مذاق آخـر، مع حلاوة الذكرى تختلط مرارة الواقع والبعد القسـري عن مدينة وازقة واحـبة تركتهم وهجرتهـم خشـية مـن السيف والقمع.

بين مسـاحات الروح وتجلي الذكريات، تنتفض ازقـة مغبرة عـلا عليها تراب الايام والحروب، صدئة مـن جنازيرهم ووطأة اقدامهم المميتة، ازقة يصعب على اثنين ان يلجـوها الا ان يكون الواحد خلف الاخر.. ازقة ملاى بالحنين والذكريات وصراخ الاولاد وحتى الســباب، هذا بيت عصام، وبيت ام ملوك وبيت ابو نشعة وبيت حسن الاوتجي وبيت ابوعادل وبيت الشـرحة، قصور مصغرة جميلة مثل لعب الاطفال واناسـها مرصوصين مثل السمك في علب الساردين، لو مررت ظهرا، عـبق الطعام ورائحة الرز الزكية تملأ اجواء هذه الازقة، واما العصريات، تتجمع النسوة عند الابواب بعد ان اسـتحممّن وبانت خدودهـن كـتـفاحات جميلة، مع الكرزات وحوارات اليوم، كنا نقيـس هذه الطرق علــّنا، وعلـنـّا نـخـطـف نظرة على احدى الفاتنات.

في راس القرية، تاريخ جميل صنعه اناس عاديون، وهذا احلى ما به. سوف لن احدثكم عن شكسبير او بيتهوفن انما عن بائع الشاي وبائع الكبة والاسكافي او الخياط.

كلما ابتعدت عـن العراق شــدني شـيئا مـهـولا الى رأس القـرية، هـي اول من فتحـت عيني عليـها، واول زقـاق لعبت به واول " مســبة " تعلمتها واول مدرسـة وحتى اول انثى قشـرت شــبقي للجنس الاخر.
هي مجموعة ازقة غير منتظمة، تسـير كما الاوردة في الجسـم، بكل الاتجاهات، تلتوي وتستقيم لكنها احب الازقة الى قلبي. هي اول الاصدقاء واول " العركـات" بيننا، ولعب الـدعبل والجعـاب والمصاريع.
هـي ايضا، المكان الذي تعرض به ابن الشعب البار المرحوم عبـد الكـريم قاســم لمحاولة الاغتيال، وبالضبـط عـند رأس شــارعـنا، وعلى ذاك القـير سـاح دمـه الطـاهر، ولم يكتفوا بذلك بل وضعوا تمثالا للجاني لـيذكّـر كل من مـر من هناك او عاش هناك بأن جريمة حدثت في يوم ما في هذه الرقعة. وان كنا اطفالا لا نفهم بالسياسة، الا ان الزعيم لم يؤذينا او يؤذي عوائلنا، كيف لنا ان نحقد عليه ونمجـد القاتل !

وفــاء لتلـك الازقـة والدرابين الجميـلة، ولأولئك الناس الطيبين الذين تعلمـت منهم حـب العـراق وتقديس العمـل ، والكفـاح بـلا ملل حتى يعيش العراقـيون ســعداء واحــرار،
اهـدي هـذه الحروف محملـة بـمـاء ااـزهـر وعـطـر الورود ، لأحبتـي، ابنــاء طرفـي
ابنــاء وبنـات رأس الـقـرية العـزيـزة
ويكفيـني فـخـرا ان اقـول اننـي من موالـيد بغــداد، 9 أ / 186 رأس القــرية.

(1) المحفظة

التحق نوري بالخدمة الالزامية بعد ان اجتاز الثامنة عشــر وكان ذلك في بداية 1959، ولكونه من ســكنة بغداد ومع مسـاعدة احد الخيـّرين فقد نســّب الى وزارة الدفاع الواقعة في الباب المعظـم وليس بعيدا عن مسـكنه، ليكون مراسـلا عند احد الضباط.

لم يكن يفهم في السـياسـة ولا كان حتى يحبها، الا ان وقوع منزله في شـارع الرشـيد وبالذات في منطقة " رأس القريـة" قد جعله في تماس مع بعض الاحداث السـياسـية الهامة في حياة الثورة.لقـد كان شـارع الرشـيد وقت ذاك قلب بغـداد النابض، في تظاهـراته او مسـيراتهاو الاحتفالات والكرنفالات، لا بل حتـى في النشـاطات التي كان يقوم بهـا اعداء الثورة والحاقدين عليهـا. ولـم لا...كل ما عليك عمله هـو ان توزع منشــورا في شــارع الرشـيد وسـيصل صـداه للقاهـرة بعد ســاعات !!
وبوجـود نوري في وزارة الدفـاع والتي كانت مقـر الزعيم عبد الكريم قاسـم خصوصـا قد اضاف نكهـة اخرى لهـذا التعيين. فهـو مثل الكثير من العراقيين، كان يهابه بحكم موقعـه العسـكري الا انه كـان يحبـه اكثر. فالزعيـم عبد الكريم قاسـم كان محبوب الفقـراء، لم لا وهـو الذي انحـدر من عائلـة كادحـة. وتنتشـر بين المواطنيين قصـصا كثيرة عن حوادث كان الزعيم فيهـا ماثلا، فهـو لم ينس بائع الشـاي ( الجايجـي) الذي كان يشتري من عنده قبل الثورة فقد اهداه بعض المال وهكذا مع عامل المطعم او عامل البـار او حتـى محل السـمانة (العطـار) وبعض العوائل الفقيرة التي كانت تجـاور منزلـه. كان مقر الزعيم في وزارة الدفـاع وكذلك موقع عمل نوري، ومثل الكثيرين كان يحلـم يوما ان يســّلم عليه شـخصيا او يزوره في مكتبه او ان يلقي عليه تحية الصـباح عندما يباشـر الزعيم عمله اليومـي.

كانت اكبر هدية نزلت من السـماء على نـوري هـي تلك اللفتة الانسـانية لاحـدهم ( الواسـطة) والتي سـهلت مهمة تعيينـه قريبا من بيته وبدوام رسـمي محدود، ولانـه صنّـف ب ( غير مسـلح ) فقد كان عمله غير شـاق، اذ انـه عمل مراسـلا لدى احد كبار الضبـاط في وزارة الدفاع ( مهـدي صـالح العانـي ) حيث كان يقوم بتنظيف وترتيب المكتب وجلب الشـاي او نقل الاوراق. ومن جملة واجباته ايضا التنقل بين اروقة الوزارة لنقل الاضبارات والملفـات.

فـي احد ايام قيـظ بغـداد اللاهـب وعقب انتهـاء احدى المسـيرات الجماهيرية داخل مبنى وزارة الدفاع تأييدا للزعيم، كان نوري يعود لمكتب الآمـر واذا بـه يلمح محفظـة صـغيرة ملقية على الارض. ســرق النظرات يمينا وشـمالا، فلم يكن هناك من يراقب، باغتهـا والتقطها بيده، وتأكد بأن احـدا لم يلحظه حينهـا.فتحهـا خلسـة واذا بها مليئة بألاوراق التقدية واوراق اخـرى. لقد كان المبلغ كبيرا فتوقـع انها تعود لشـخصية مهمـة.
دخـل نوري مكتب آمـره السـيد مهدي صـالح العانـي، وكان وجهـه محمـرا وبوادر الارتباك والرهبة بادية عليه، فيما كانت يده تقبض على المحفظة بعنـف.
-ســيدي، لقد وجدت هذه المحفظة ملقية على الارض هناك بالقرب من الممرات.


* * * * * * * *
-انـي الجندي المكلف 29140 نوري ميخـا يوسـف
-تفضـل يا بنـيّ
-سـيدي (بأرتباك شــديد)، كنت قاطعا المسأفة بين مكتبين في الدفاع ووجدت هذه المحفظة
-اكمـل يا ولـدي
-سـيدي، فتحت المحفظة ووجدتها تحتوي على اوراقا ونقودا كثيرة، وقصـدت السـيد الآمـر وفاتحتـه بالامـر
-اكمـل يا بنـّي
-ســيدي، طلب منـّي تسليم المحفظة لـه حتى يوصلها لصاحبها، رفضـت ذلك. ثم قال لي انه يسـتطيع جلب المواطن الى المكتب وان اقوم بتسـليمها له بنفسـي، رفضت هذه الفكرة ايضـا. قلت لـه، اذا كان علـّي تسـليمها الى ايّ شـخص، فأن الشـخص الوحيد الذي سـأسلمه هذه المحفظة هـو الزعيم عبد الكريم قاسـم ( فقـد كان الزعيم بنظـر نوري، يمثل قمـة النزاهـة والطيبة والصـدق، فهو الابن البار للعراق والكادحين، لذا فهو يثق به، انـه امين وسـيوصل الامانة لاصحابها)
-بارك الله بـك يا ولدي نـوري
دسّ نـوري يده في جيبه، وكان العرق يتصتبب من وجهـه وآثار الارتباك وهـيبة الموقف قد اخذت مداهـا في هذا اللقاء التأريخـي له مع الـزعيم.
-ســيدي، هـذه امانـة الله وسـلمتها بيد الزعـيم
-بارك الله بك يا ولدي، وسـنبعث لك بكتاب شـكر على امانتك هـذه.

آب 2003


(2) ماركو

حـتى تصـل لبيـت " مـاركو "، امامك طريقين. امـا عبــر الازقـة الفـرعية وهذا اســـوأ من لــعبة الاطـفـال ( الافعـى والسـلم ) او عن طـريق شــارع الرشـيد فـي بغــداد وهـو الاســهل. فـبالقـرب من فـرن " بيكاديللي " او مخــزن " دنـيا الاطفـال " للالعاب ، هنــاك زقـاق ( دربونـة كما يود العراقيون تســميتها ) يوصـلك لصــــائــب " ابو الثلـج " ويمكنك ان تسـمي هذا الزقاق بزقاق صائب ابو الثلج وبالتـالي لايعود هذا الزقاق مبهمـا. حيث ان امانة العاصـمة لم تقـم بوضع الاسـماء لكل هذه الازقة او الفروع الجانبية والتي غالبا ما يطـلق الناس عليهــا اســماء ترتبط كثيرا بمهنة او حادثة او شـخص معين ، وفي مثلنا هذا يمكن القول انـه زقاق " صائب ابو الثلج " او زقاق " كـرزات الموصل " او زقاق " ناجــي ابو التكـة " او زقـاق العـم " ابو يعكــــوب بيّاع الطوابع " وبالنهاية كل المسميات ســتوصلك لبيـتها.

" مــاركـو "، الفتاة النظرة الجميلة، كانت في اواخـر عشرينياتها، كتلة من اللهـب محشـورة في بيت صغـير ذو باحـة يتوسـطها ( الحـب ) الذي كانت تسـتخدمه لتصـفية الماء وتبريده ايضا. وهــــي تتقاسـم البيت مع والدتـــــــهـا " رجــّو " حيث تتعايش انواع القطط الاليفة والهاربـة وحـتى الطيور كانت تتزاحم في بـاحة البيت لوجبة غـذاء مجانيـة.كـان زوارهـم قليلون، وعلى الاغلب من اهـل المحـلة ولم يكن هناك ما يميـّز هذه العلاقات.
كـانت " رجــّو " مســنة، ولم تكن لتعمل خارج البيت الا ما كان عليهـا ربما من واجبات الطبخ، امـا " ماركو " فقد كانت تعمـل في غســل ملابس بعض الاسـر المرفهة واحيانا تقوم بتنظيف بيوتهـم.العمل بما يكـفي الحد الادنـى حتى مجـئ العريس !

قوام ممشــوق على غير العادة، وشــعر اســود كانت تلفـه بعنايـة خلف رأسـها ويصـل حتـى اســفل ظهرهـا عندما تطلق العنان لـه.وفي اكثـر من مرة تلصـصـت على غرفـتها بعد انتهائها من اخـذ الحمام. مـا اروع هــذا الجســد ! والنهود النابضـة والغنج امام المرآة او تصـفيف الشــعر، وقلما كســت جسدها الرقيق برائحة جميلة جـدا ربمـا تحســبا لمجـئ ( خضـر الياس ) * لغرفتها تلك الليلة او لمجهـول طـال انتظاره او حتـى لحلم جميـل يمزق الســكون والرتابة في بيتهـا. لـم يكن احـدا فـي منطقتنا يخفـي اعجابـه بها او بقوامهـا، واحيانا تكون التعليقات جميلة واحيانا قبيحـة ( تصجـيمـات ). لكـن لم يجـرؤ احـد على المسـاس بهـا خاصـة بوجود ( ولـد الطـرف )، فالكـل معروفون بطيبتهـم وبالتالـي فقد كانت علـى علاقـة بزوجاتهم او عائلاتهـم. على انهـا لم تكن لتزور الكنيسـة كثيرا، وبالتالي فأن فرصـة الرجال لمشاهدتها كانت محدودة، وحتـى امها " رجـّو " لا اذكـر بأني شـاهدتها في الكنيسـة، رغـم ان كنيســة " ام الاحـزان " وكنائس اخـرى كانت قريبة جـدا منهـا في ( عكـد النصـارى ) ولا ادري ان كـان ذلك بسـبب المرض او الكســل. امـا علاقاتهـم الخارجية فكانت محدودة حتـى اني كنت اسـألها ان كــان لهـا اقرباء ام لا ؟

معظـم المنازل في تلك الازقة ( الدرابين) كانت لعوائـل مسـلمة، خاصـة بعد انتقال العديد من العوائل المسـيحية من هناك الى مناطق " المربعة " و "السـنك " و " البتاويين " او حتى " الكرادة "، بسـبب زحـف ورش صناعة الاحذية ( القندرجية ) والخياطين الى هذه المناطـق وما تجلبـه من مشـاكل واحتكاكات الى سـكان هذه الاحياء، لهذا فـقـد كانت فـرص زواج " مـاركو " تتقـلـص يومـا بعد يـوم.فالناس محدودين والعـلاقات قليلة والعـمــر يتـقادم ..و " رجـّو " فــــي البيت، ولا ادري ان كان لها شـقيق ام شــقيقة.
لــم تيـأس مـما كـان يجري حـولها، وكانت في قـرارة نفســها تقول، ان هنـاك شــيئا مـا قادم.ولا يمكن لهذه الحيـاة ان تمض بهـذه الـرتابة. فـمعظــم صـديقاتها وبنات جيلهـا تزوجـن وانتقلن من هنـاك وانجـبن، والحيــاة تستمــر.

" مــاركـو " كانت واحدة من بنات المنطقة ( الطـرف ) ولم تكن الفـروقـات مـنظورة حتى وان اختلفـت الاديان وبعض العادات.فالكـل يحب الواحد الآخـر، والكل يشــارك الآخـر اتراحـه وافراحـه، وهي لهذا كانت حاضـرة في المناسـبات ايا كانت، ومنهـا ما يتصـل ب ( النذور) و ( الزيارات ). وكان ان صـادف وقتهــا الاحتفال بـيوم (زكـريا) ** حيث قامت سيدات وبنات المحلة ومعهم " ماركو " بالتجمع في احـد المنازل الصـغيرة جـدا، بالقرب من منزل الصباغ " ابو عادل " ومحل المكـوي حسـن " الآوتـجـي " وجامع " بنات الحســن " فـي " العمـّار ". ليلـة جميلة توقـد فـيها الشــموع وتنـثـر الحلوى والفواكـه. فالكـل عنده " نــذور "، والكـل يريد من " زكريـا " ان ينـّولـه مراده . وحتـــى " ماركو " كانت تريد من " زكريا ". ولما لا ؟ فقد كانت حريصـة على تأدية النذور ورفـع الصلوات وتـقـديـم القرابين، وكل ما كانـت تطلبه هــو ان يكـون لهـا مثل البنات الاخريـات !

فـي تلك الليلة الخريفية الماطـرة، وبينما الفتيات والنسـوة والاطفال يتبادلون التهانـي، وتتوســطهم صـينية كبيرة مزينة بالشــموع وانواع الحلوى والفواكـه، ارتطمت احدى الفتيات بالصينية واشــعلت الشــموع فســتانها، فأنتاب الحضور حـالة رهيبة من الفزع والخوف، وســادت الفوضـى. تدافعت النسـاء الواحدة مع الاخرى، والواحدة فوق الاخرى، وســرعان مـا امتـلأ البيـت الصـغير (جدا) بالـدخان والصراخ والعويل ، اذ انهـم كانوا في الطابـق العلوي للبـيت.
فـي تلك الليلة التشــرينية الماطـرة، انتهـى الاحتفال ب " زكـريا " حوالي السـاعة العاشــرة مسـاء وبـحضـور وزير الداخلية وفـرق الاطفـاء والشــرطة والعديد من المسـؤولين. فقد كانت الحصيلة (15) ضـحية ســقـطـن وهـّن يحتفلن ب " زكــريا " اختناقـا وحـرقـا. وبين ســاعـات المسـاء والـصباح التالي افرغـوا هـذا البيت مـن المحتفلات، وكانت بينهـّن " مــاركـو "، الفتاة الحلوة والرشــيقة.وقـد تعرفـوا عليها من خـلال الكمادات التـي صـارت تـلفـهـا حول ســيقانها لتخفيف الم " الروماتزم " ومن الصليب ايضـا، اذا انها كانــت الوحيدة بين المحتفلات. و كـان رجال الاطفـاء قد عثـروا عليهـا في غرفـة " المرافق الصحية " التي كانت بالكـاد تتســع لشـخـص واحد، غرفة صـغيرة جدا، مخـنوقـة ثم متـفـحمـة. " مـاركو " لـم تكن تبحـث عن الموت، بـل على العكـس من ذلـك، كانت تحـب الحياة وتريد المزيد منهــا، فهـي التي فاتهـا ان تتعلـم مهنة معينة او حـرفة مــا، لقد اســتبدلتهم برعايـة امهـا المســنة " رجــّو " والقطط والطيور. " مــاركو " كـانت تحلــم بزوج تحـبه ويحبهـا، و ب ( دســتة ) من الاطفـال يملأون بيتهـا هـرجا ومـرجـا، وكانت تحلــم ان تتبّرج وتتعطــر لزوجهــا، بعــد يوم طويل في عـمـله.

اعــاد رجال الاطفــاء " مــاركو " لامهــا،
"كــومة " من العظـام المحترقة والملفوفة بالكمادات، وصليبهـا التي كانت تعلقه في صـدرهـا كل يوم.
عـادت لبيتهـا هذه المرة ولكـن لتفارقــه ابــدا.

مـاركـو : اســم التحبيب لــمـاركـريت، امـا رجـّو : فـهـو اســم التحبيب لــريجينـــة .

•خضـر الياس : (العبـد الصـالح ) وفي العـرف عند المسيحيين العراقيين هـو شـخصية ذو قـدسية وموسـمه هـو في اواسـط كانون الثاني حـيـث يأتي هـذا الشاب الوسـيم والجبـار على فرسـه الجميل مسـاء والناس نيام، بعـد ان يكونوا قد تركوا له "حلاوة خضر الياس " اذ يقـوم بتناول قـطعـة منهـا ثم تمشيط شــعـر فـرســه واسـقائـه المـاء واطعامه من البقدونس الـمـوضوعـة كلها امام المرآة. وليلتها تنذر الناس نذورها وتتأمل بـأن يحقـقـها لـــهـم.
•زكريــا : احتفال شــعبي بهذا النبي، حيث توقد الشــموع في صواني مليئة بالحلوى والفواكه ، وتطلب منه الامــاني بعد ان يكون المحتفـلون قد ادوا النذور، وفـي الموروث الدينـي كان الله قـد مـنّ علـى زكريـا بمولـود وزوجتـه قـد جاوزت التســعين مـما كـان مســتحيلا ان يحدث مع البشر العاديون .

تشــرين اول 2003


(3) ابو عـادل
مثل الاوردة فـي الجســم كانت الطرق تتداخـل فـي محلة " العـمـّار " برأس القريـة ، مكتظـة بالبيـوت البغدادية الجميلة وعـامرة بالعوائل، هنـاك كان يسـكن " ابو عـادل " اشــهر صباغ دور في المحـلة. نـاهـز الخمســين وملامحه البغدادية لـم تتغير ولا لهجتـه المتـميزة. امـا ما اشـتـهر بـه فهـو لبســه للزي البغدادي الجميل ( الصـاية والعرقـجين ) فقـد كان الوحيد في المنطقة. يعـرفه الكبار مثلما يعـرفه الصــغار ، امـا النســاء فقد كـنّ يتشــاورن فيما بينهـن ّ اذا مـر من امامهـم ، " لقــد كانت زوجتــه على غايـة من الجمـال، توفت وهـي في عـز الشــباب وهو مازال متأثرا بهـا " هـذا ما كانت النســوة تتناقله عن ابو عادل .
لــم يتزوج بعد وفاة ام عادل، وانصـرف لتربية أولاده والصباغــة . اشــهر من نـار على علـم كان هذا الصباغ الذي شــهدت محلة العمـار عمله . فأن شــاهدت درجــا وادوات الصباغة قرب احد المحـال التجارية او البيوت فأعلم انه ابو عادل.
قـل الطلب على خدماتــه الا ما ندر بعد ان دخل بـه العمـر والتعب، لكن المهنـة لـم تضـع فقـد ورثهـا عنـه ابنه عادل ، علـى ان هذه الحـالة تركت لهـا بصمات في ســلوكيته، فالنهـار طـويل، والجيب بحـاجة الـى مصـروف والاكثر من هـذا هـو مركزه الاجتماعي في العائلة كونه المعيل الرئيســي لهـا، هـو رأس البيت كما يقـولون ! والـذي حصـل انه صـار يداري هذه الخيبـة بالكحـول حتـى اتى منـه وصــار مدمنـا عليه. ومـع ان المشــروب يجلب النشــعة والفرح، الا انـه احيانا يفـرج عـما هو مخبأ في الاعمـاق . هـكذا عـرفنا نحـن الصبيــة ان " ابو عـادل " كان يعشـق زوجته وانـه يفـتـقـدها يوميا، فقـد كانت الموضوع الوحيد الذي يتحدث به حين تصـل الجمجمــة مصـاف الغيوم.
هكـذا يكون العشــق او بـلا !
وفـي طريقـه الى شــارع الرشــيد، لا يســتثني احدا من القاء تحيته المعهودة والمرفقـة بالاســماء عليه، اشــخاصا كانوا ام اصـحاب محلات.
- الله يســاعدك ابو ســعفان (الجايجي)، شــلونك عبد الرســول، ومرحبا محمد علي (خياطين )، هـلا بأبو ذنون (عطار) شــلونك خوية ابو كريم (بائع الفواكـه)، واشـلونه عبد الرحمن ابو ثريا اليوم (دلال)، واشــلون الشــغل عبود (بائع التلفزيونات) وهلا ابو عزيز (مصلح العدد الكهربائية). بين عكـد الراهبات الاول والثاني، جولته المعهودة في السلام والتحية.

بعدهـا يجد طريقه لبائـع الخمـر، وهكـذا ينقضـي نصـف النهـار. تبدأ اعراض الخمـر والعمـر واضحـة الان، ثـقـل في الكلام وقليل من الترنـح . صـار الوقت عصـرا ، وهـو موعد خـروج العاملات من معامل الخياطة في منطقة "العمـّار " وهـو يعرف هذا التوقيت جيدا. نتوجـه لشـارع الرشــيد، صبية كثيرة تسـير خلف ابو عادل فـي مراســيم شــبه يومية.
هـو يقـف هنــا / ونحـن نقف قبالـه، ونترك بـاقي الرصــيف للمارة، وهـذه المرة، لعاملات المعامـل، حيث كـنّ يمشــين افواجــا عائدات الى بيوتهـنّ .
-هســـّـة ايجــي بابا ....
-ويبوســـها لمـامـا....
كـانت هذه هـي التعليمات والاوامـــر من ابي عادل حين تمر العاملات بيننا، ونحن كنا مطيعين اشــد الطاعـة (( كنـّا ملاعيــن اكثر من اي شــئ آخــر ))، هــو يبدأ بالكــلام ، ونحن نجيبه.
-هــذه قلـة ادب منكــم ...
-بــلا اخــلاق...
-عـابـــت هذي الشــكول وبلت ....
هكذا كانت النســاء تجيبنا و ابو عادل، وتأخذنا الضحكات والقهـقــة، الم اقل لكم كنّا شــياطين.
يعــود ابو عادل للبيت، متعبا ومنهكــا وقد بدا اثر المشــروب عليه واضحــا، وهذا الفصـل الغريزي المبهـم كان قد انتهـى لتوّه
-مـاذا جــرى يا والــدي ؟
-هـذا ليس بوضــع جيد.
-هـل انـك ســترضي امـي بهذا العمــل ؟
يـعجـز ابو عادل عن الجواب، لكن ليس قبل ان تســقط عبرة ســاخنة على وجهه المتعب، فقـد اخـذ العمـر منه ســنينا، وخســر زوجتـه، وها هو اليوم عـاجز حتـى عن العمــل . لــم نــره بعدهــا، حيث منعــه عادل من مغـادرة البيت بهذه الطريقــة .

كـانون ثان 2004
(يتبــع)

[email protected]