عندما وصف البعض الحرب التي يشنها الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية على (الإرهاب) بالحرب الصليبية، تنطا البعض لنقد تلك المقولة ودحض ذلك الوصف.
فقد اعتبرها بعضهم مزاعم ليس إلا، مدعين أن هذه المقولة فيها مغالاة وهي مستقاة من فكر وعقلية (المؤامرة ) السائدة في الذهنية العربية والإسلامية حسب زعمهم _ وكأن هذا الفكر أو تلك العقلية استولت على عقولنا من كوكب خارجي وهمي أو تخيلناها فاقتنعنا بها ومن ثم لصقت بنا بمحض الصدفة وبإرادتنا _، وتناسوا أنها وليدة ونتيجة لأحداث زؤام عاشها ويعيشها العالم الثالث والذي يشكل العرب والمسلمون الغالبية العظمى من سوداءه، تلك الأحداث التي امتدت لقرون واكتوت بأتون نارها أجيال وحيكت خلالها الكثير من المؤامرات ونفذت عبرها العديد منها بهدف إبقاء شعوبنا ترزخ تحت نير الجهل والتخلف وقهر السلطة، لحساب النهضة والتطور الصناعي الغربي واستمرار عملية سلب ونهب الثروات.
فيما فسر البعض الآخر هذه الحرب على أساس التناقض الموجود بين مجتمعات مختلفة بعضها تشكل كإفراز طبيعي للتطور الاجتماعي والحضاري ونعم بالديمقراطية ( المجتمعات الغربية ) ، فيماالمجتمعات الأخرى بقيت تعيش في تخلفها وجهلها وتعصبها( المجتمعات العربية الإسلامية) ولم تستوعب التطورات الحضارية ولم تنعم بالديمقراطية، وردوا أسباب تخلفها هذا إلى الدين
( كعامل فعال ) أو إلى الفهم الخاطىء لبعض نصوصه وتعاليمه. وبالتالي فأن ما يجري ماهو إلا صراع بين الحضارات الغربية المتقدمة والمجتمعات غير المتحضرة والمتخلفة والتي تنظر إلى المجتمعات الغربية بنظرة الغيرة والحسد.
أن ذلك التحليل المرفوض والساذج للأسباب، يشكل بحد ذاته القاعدة الأولى لأدبيات هذا الصراع وأبجدياته، لأنه يقفز عن الأسباب الحقيقية له، كما وأن أدبيات هكذا تحليل تشكل المادة الأساسية والرئيسية في تذكية الصراع وبالتالي في تعبئة الرأي العام المسبقة ضد " الهدف " { العرب والمسلمون }، وتعمل على نقله وبسرعة من الحالة الموصوفة والمفترضة كصراع بين ألأفكار والمبادىء والمعتقدات، إلى حالة من الصراع المسلح المدمر باستخدام القوة المباشرة .
وسواء أصحت الرؤية التي يمتلكها الفريق الأول أم الرؤية التي يمارسها الفريق الثاني فالثابت هو وجود قواسم مشتركة بين كل تلك التسميات، فبينما يفصح عنها الفريق الأول مباشرة بادعائه أن ما يجري هو حرب " صليبية "، مستندا في ذلك على الكثير من الوقائع وألأحداث التي يغلب عليها الطابع " الجيوديني " والتي تدعم ادعائه، يحاول الفريق الثاني القفز عن الحقائق رغم جعجعة كل أنواع السلاح والتي لم يعد يسمع غير صوته من خلال حربي القرن الحادي والعشرون في أفغانستان والعراق أو من خلال حروب القرن الماضي ( الحروب العربية الإسرائيلية، وحربي الخليج الأولى والثانية )، والتي بتقديري يمكن إسقاطها كمقدمات وجزء من الصورة الشاملة للصراع.
إن قفز الفريق الثاني عن تلك الحقائق ومجريات ما يحدث منذ أحداث سبتمبر في نيويورك وواشنطن، وإنكار حقيقة الباعث الديني كمحرك رئيسي فعال لتصرفاته، هو وبصراحة قفز عن الحقيقة ونكران للتاريخ، أو محاولة لمباغتة الخصم وإنهاكه وتشتيت قواه وبعثرة انتباهه ومحاصرته، وفي أحسن الأحوال وعلى فرض حسن النية هو ( خجله من الإعتراف بتلك الحقائق وما نجم عنها من افعال ).
إن الدراسة المتأنية للتاريخ ومنذ نشأة البشرية وظهور الاتصال الأول بين السماء والأرض عن طريق الرسل و الأنبياء تدل على وجود وتوافر دوافع وعوامل بشرية نفسية طبيعية، حتمت ظهور ونشوء مثل هذه الصراعات والتي كانت في جزئها الأكبر والأعنف والأشمل (صراع ديانات)، والتي كانت ومازالت وستبقى حقيقة لا يمكننا إنكارها أو القفز عنها إذا أردنا مواجهتها ومعالجتها.
لا بل إن تلك الصراعات الدينية كانت وما زالت قائمة حتى بين أتباع الديانات الواحدة من خلال التناحر الدامي بين طوائفها لا بل وحتى داخل الطائفة الواحدة أحيانا .
ومع الأسف فعلى مر التاريخ كانت الصراعات الدينية لها الأولوية على غيرها من الصراعات. كنتيجة طبيعية لما يثيره الدين من حالة تحفز وصراع حتى بين النفس البشرية مع ذاتها ( الخير والشر ) أو مع محيطها، وقد كانت تلك الصراعات الدينية أيضا الدافع الرئيس وراء نشوء النزعة العصبية القومية و الدينية وتمازجهما أحيانا والتي كانتا بدورهما سببا رئيسيا لكثير من الحروب والصراعات العالمية، بالرغم من تناقض تلك الحالتين القومية والدينية مع بعضهما في الكثير من المجتمعات وضمن ظروف خاصة.
ومع اختلاف الأزمنة والعصور وتغير وتنوع المعايير، والتطور الهائل التي شهدته التجمعات البشرية وإن بتفاوت ، فقد تطورت أشكال الصراعات الإنسانية وعناوينها بما يتناسب مع تطور ورقي المحيط البيئي والبنية التحتية المحيطة حيث أصبحت تأخذ مسميات ( حضارية ) كالحرص على إحلال الديمقراطية ومحاربة الدكتاتورية والعناية بالفرد ( الإنسان) وحقوقه، هذا الفرد الذي دفعته وربما أجبرته حالة التحضر النسبي الظاهري لبعض المجتمعات على لبس هالة تكسو بنيانه الخارجي بقشور ذلك التطور في الوقت الذي احتفظ فيه بأعماقه بجذوة متقدة من تلك العصبية الدينية و أو القومية قابلة للانفجار في أي لحظة وخاصة إذا ما توافرت له امكانية العثور على المثيلين له ومن هم على نفس الشاكلة من الأحاسيس والفهم سواء من خلال جماعة أو حزب أو غير ذلك ، بحيث يتسنى له الإفصاح بقدر أكبر عن مكنونه الداخلي لتظهر الصورة بشكل يتناقض مع صورته الظاهرية المصطنعة والمفترضة حضاريا وبما يمكنه في هذه الحالة من بلورة مواقف واتخاذ إجراءات محافظة ومتعصبة ضد الآخر. وخاصة إذا رافق ذلك كله غياب للضمير والأخلاق.
أن مثل هذا الإنسان ومع الكثير من السلطة والأحلام والرؤى ( السماوية ) لا بد وأن يشكل خطرا كبيرا على الإنسانية جمعاء لأن اندفاعه لتحقيق رؤاه وتجسيد أيمانه لن يحكمه أي ضابط وسيغالي حتما في استخدام العنف لأتفه الأسباب، وقد يكون على استعداد لأن يعيد البشرية جمعاء إلى طبيعتها الأولى طبيعة الغاب ويلغي الشرعية الدولية، ويغلق أبواب الحوار ويحول كل اختلاف إلى صراع أو حرب على الإرهاب " الهدف " لا سيما إذا ايقن أن فترة تسلطه وإمساكه بزمام السلطة هي فرصته الأخيرة ولن يكون بوسعه ترشيح نفسه لدورة ثالثة.