قالت العرب: من تألم تكلم..
وأقول،مؤمنا، بقول الشاعر: ربَّ أمر تتقيه جرَّ أمرا ترتجيه..
و ربما أصبحنا، كعراقيين، نقول بهذا على وجل، فالحرب جلبت بعض المرتجى ولكنها لم تأتِ بكل أمنيات الشارع العراقي،فما تسرّب في تيه العقود الديكتاتورية لن يحضر قطعا في ظرف سنة او سنتين..اكرّر هذا مع نفسي أيضا،او اقرأه في كثيرٍ ما أتابع، وأقوله بالأمل الأكبر..ولكثرما أضفت عليه من أملي، واعلم أني أضع حدا شفيفا بين الأمنية والمبالغة في الحديث عنها، وهو ما اسماه أبي قبل قليل؛ بالكذب، وهو يحدثني عبر الهاتف من العراق. قال متهما اياي بالمبالغة: كنت تدعي ان لديك من المعارف والأصدقاء من توزروا في الدولة الجديدة، وان لك في وزاراتنا من المتوظفين من تهاتفهم و يهاتفوك.. فكيف يجتمع لك هذا الأمر مع واقع أخوة أربعة عاطلين عن العمل،وأخت تتصل بك كل أسبوع للشكوى او المساعدة،وهي منذ سنة كاملة تراجع مستشفيات مدينة الديوانية الجنوبية البائسة لعلها تجد من يحوّلها الى بغداد. وأضاف أبي: المضحك يا بني انهم يقولون انها بحاجة فعلا للعلاج خارج العراق، ان كنت تجد حقا من أصدقاء في الحكومة الجديدة، فلم نعد نريد واسطة ولكن أرشدنا الى من نستدين منهم مبلغ ألف دولار لتعيين احد أخوتك في الشرطة الجديدة على الأقل!!.
قلت إلا فلتهنأ أعين أهلنا في العراق لحظة يسعى ذلك الشاب الصيدلي الطموح بالغالي من الرشوة كي يكون شرطيا..
...وانقطع الاتصال مع العراق..
وسرعان ما ألجأني حزني الى دفتر التليفونات،ربما بقصد التوسط أول الأمر. وسيعرف ما ازدحم في نفسي من مشاعر كل من يقول: أالان بعد كل هذا الصبر أسعى للتوسط ومن اجل ماذا ولم؟؟؟!!!.
نعم انا اعرف حقيقة الأخوة العاطلين عن العمل وحكاية الأخت العليلة أعيشها وجعا وجعا كل يوم.اعرف هذا واقر بحقيقته كأنها حقيقة موت سقراط.. ولكن عن باقي الحكاية لا اعرف الكثير الان، كنت في العراق قبل سنة وكانت الرشوة تشرق وتغيب مع كل شمس عراقية، وتصل قمما عليا..
قلت..ولكن ان كان أبي صادقا فهو من استبداد طبائع الديكتاتورية ومكوثها العراقي، وان لم يكن أبي دقيقا، فالأمر سوف لن يختلف كثيراً، بقدر ما يتعلق هذا الأمر بالإنسان العراقي مقموعاً في استبداد الطبائع.
تأملت الأسماء والأرقام،بعض الأرقام تذكرك بأرصدة أصحابها البنكية،وأرقام أخرى تذكرك بعدد ما قدموه من ضحايا،وأرقام كنت المح فيها عدد القصائد او منجز كل شخص على حدة،وأرقام أخرى تعجز هي عن إحصاء ما يحمله أصحابها من نبل ومودة. وكانت مفاتيح البلدان كلها قرب يدي،ولم يكن عبثا أبدا ان يكون مفتاح أمريكا هو الرقم واحد،يقف بلا منازع أول الأرقام وأعلاها،فهل كان هذا من الجبروت والوحدانية، ام من الحدة في الأصل السامي للجذر(حد) في هذا الرقم؟..
قلت بوجع غريب ااااه لكم كان اخوان الصفا على حق يوم كانت الأرقام لديهم كلها بين الصفر والتسعة،ولحظة وضعوا صورة كاملة للعالم مبنية على الأرقام من الواحد الى العشرة،وكانت العشرة لديهم عودة للصفر أيضا. وفي سلسلة تأمل طويلة أمام الأرقام ووجدتني أنسى ما جئت لأجله الى دفتر الهاتف،وأنا أواجه جحودي الهائل أمام أصدقاء لم اكلمهم منذ وقت طويل. اتصلت بصديق موسيقي لعلّي أجد ما اتشافى به مستعينا بنصائح قديمة لأبن سينا في كتابه الشهير(الشفاء) ففي ثناياه كان يضع وصايا جعلت المؤرخ الكبير جورجس سارتون يثني بالمديح الفائض عليه وهو يذكر ان الأجزاء التي وضعها بن سينا في هذا الكتاب عن الموسيقى كان لها بالغ التأثير على الفارابي وهو يدون مؤلفه الهام ( الكتاب الكبير في الموسيقى)،محققا قصب السبق على خطا الشيخ الرئيس،فما ذكره بن سينا من التراكيب والمصطلحات هي ما صار يعرف فيما بعد عند العرب بعلم الإيقاع الموسيقى.
كنت بحاجة للتشافي،او لضبط إيقاع ما.اتصلت بعازف الإيقاع والناي ستار الساعدي فأخبرني عن مصادفة قدومه للتو من لندن..وبحزن كبير اخبرني بواقعة جرت معه هناك، زادت من إحباطي بشكل مرير،قال الساعدي: ايام كنت في لندن دعيت للمشاركة في حفل يقدمه المغني العراقي قاسم السلطان مدعوا صحبة بعض التجار من احد الإمارات العربية وبضيافة تجار آخرين في عاصمة الضباب،وما ان اشتد وطيس الحفل حتى قام احد المتنفذين ماديا بطلب أغنية من المطرب العراقي.. يقول الساعدي صعقت ونزلت من مكاني خلف المغني على المسرح بعد ان صدح السلطان بأنشودته بحق المجرم صدام( كًوم بيها وعلزلم خليها!)..وصار الصدى يردد أمجاد (الكلبين) عدي وقصي حيث تصفهم الأهزوجة بالشبلين.. ولم يكن الأمر ضمن تسلية او نكتة بل صار أرباب العشق الصدامي يتمايلون تمايل المجاذيب في حفل الدروشة، بين دامع العين وبين حامل الكأس والملوح به نخبا للزمن الديكتاتوري..
يقول الساعدي..فقلت في نفسي الا بئس القرين،ويالسوء ما بشرني به حضوري بينهم..
أغلقت سماعة الهاتف وضاعف حزن الصديق الموسيقي أوجاعي العراقية.. وانا اردد المثل الشعبي العراقي: من اين ما مالت،غرفت..وتذكرت حكاية المللك الهندي القديم عن الطبيعة والتطبع.. وقلت الا انه الحق ما قال به ذلك الحكيم من ان الطبيعة تغلب التطبع.. وان المغني ومن معه مركوز فيهم طبيعة الهوان الديكتاتوري، وهيهات تخرج من أعماقهم وإلا ما لذي يجبرهم الان على القول بالمديح.. رغم انه ليس مديحا للديكتاتورية بقدر ما هو استخاف بدماء الضحايا من أبناء شعبنا العراقي وكل من نالهم الحيف من النظام وأتباعه..
تقول حكاية السلطان الهندي القديم انه كان يقرّب منه وزيرا مجربا بالخبرة في تقلبات الزمان والحدثان، وكان هذا السلطان لا يصير الى قرار حتى يكون رأي هذا الوزير مأنوسا للتدبر بين يديه.
مات السلطان وورث الحكم لإبن ما كان يرى في الوزير ما يراه الأب،حتى صار ذات يوم الى اختباره وسؤاله، فأمر به ليحضر مجلس السؤال: قال السلطان الابن: ايها الوزير الحكيم اخبرنا ايهما يغلب في المراس الطبع ام الأدب؟.
قال الوزير واثقا: انما الطبع فهو الأصل والأدب فرع من شجرته.
غير ان السلطان الابن هزأ من رأيه وسخر منه،داعيا إياه الى مأدبة طعام كبرى كانت فيها مجموعة من القطط تحمل الشموع على المائدة،قال السلطان: ما أدراك ايها الوزير عن جوع تلك القطط، ولكن أبصر خطأ قولك ان الطبع يغلب التطبع.
قال الوزير: ايها السلطان ليكن موعدنا في الغد على هذه المائدة أيضا.
في اليوم الثاني حضر الوزير وهو يضع في جيبه فأرا،سرعان ما أطلقه على المائدة لتنطلق القطط بهوس وصراخ خلفه حتى أوشك المكان ان يحترق في زحمة الفوضى.
بين حكاية السلطان الهندي والسلطان المغني العراقي شاهد لمن استعصى عليهم فكِّ شفرات الفوضى والعنف التي تحصل في العراق الان،فالديكتاتور حضر في نفوس البعض كطبيعة لن يكون ميسورا للتطبع الجديد محوها.وإنما لكل قط لحظته و فأره الذي يخرجه من وقاره الطارئ.انه استبداد الطبائع اذن،وجلّ ما أخشاه ان يكون رهان مواجهتها شاقا ومكلفا فالديكتاورية التي تهاوى استبدادها سريعا لن تذهب ريح طبائعها بسهولة.