لعل اهم ما تمخضت عنه مبادرة السيد السيستاني الاخيرة لحل ازمة النجف، هي انها الى جانب وقف نزيف الدم والدمار في المدينة، قد حفظت بعض ماء الوجه لكلا الطرفين المتحاربين، رغم ارجحية المكاسب التي تحققت لطرف الحكومة العراقية ولو شكليا، حيث تحققت بعض مطالبهم المتمثلة بنزع اسلحة ميليشيا الصدر المتحصنة في الحضرة الحيدرية، وجلائهم ليس من مدينة النجف فحسب بل من مدينة الكوفة المجاورة والتي تعد بمثابة (عاصمة) للصدر. هذا اضافة الى تسلم الشرطة العراقية لملف الامن في مدينة النجف وحماية الاماكن المقدسة وتسليم مفاتيح المرقد العلوي الى مكتب السيد السيستاني. بمقابل ذلك فان مكاسب السيد الصدر تمثلت في نجاته من التهديد بالقتل او الاسر وهو امر يحمل متاعب كبيرة لتياره وللحكومة في نفس الوقت، وتحقيق مطالبه بجلاء القوات الاجنبية من المدينتين المذكورتين، الامر الذي يعني العودة الى الايام التي سبقت الازمة وهو ما عرف ب(الهدنة)، وضمان عدم ملاحقة الصدر واتباعه من حملة السلاح في هذه الازمة من الملاحقة الامنية.

الحل الذي حملته مبادرة السيد السيستاني حمل اكثر من مؤشر ودلالة على الوضع العراقي الحالي.
وتتمثل هذه الدلالات والمؤشرات بما يلي:
علو منزلة السيد السيستاني في كل من اوساط الحكومة واتباع السيد الصدر كما هو الحال في اوساط اغلبية العراقيين. وهذا ناتج ولكل الاطراف من مواقف السيتاني التي اكسبته الاحترام والمنزلة السياسية والاجتماعية اضافة الى الدينية، وهي ليست وليدة اللحظة بل انها قد تعرضت لاختبارات عديدة، لعل اشدها موقفه من الحرب الاخيرة والتي اعتبرها (الحرب) موجهة ضد نظام صدام، وقد اطمئن على ما يبدو الى تطمينات قياديين عراقيين في صفوف المعارضة العراقية السابقة لنظام صدام من ان الحرب وقتية وستعطي ثمارا للعراق افضل من "قفار" بقاء صدام في سدة الحكم.
وهذا الامر يعني انتصارا للتيار غير "الثوري" اي من يفضل استنفاذ الوسائل السلمية اولا بوجه الاحتلال، معتبرا ان الكرة اصبحت في ملعب الحكومة العراقية ومعطيا اياها الفرصة لتفي بوعودها وتنجز اجندتها، بل داعما لها في احيان كثيرة.

اي انه انتصار لتيار السلم وفشل منطق واستراتيجية استخدام القوة ضد الحكومة او تحديها ومنازلتها من اجل انتزاع مكاسب سياسية او منزلات اخرى. وبصريح العبارة هنا فإن التيار المحارب في هذه المنازلة الاخيرة لم يحقق مكاسب تستحق الذكر مقابل خسارته لما هو اهم. فخسارة ارواح اعداد من اتباع هذا التيار (تيار الصدر)، وتحقيق الدولة لاغلب شروطها وخسارة النفوذ الاداري في الاماكن المقدسة، وتهاوي شعبية "المحارب" وهو تحصيل حاصل لانتصار تيار "السلم" لاتعادلها مكاسب تذكر هنا.

المؤشر الآخر هو ان الشارع العراقي مازالت بوصلته توجه من خلال المرجعية الدينية، بما فيه غير المتدين. الامر الذي يعني خضوع (السياسي للديني). وهذا مؤشر يحمل متاعب كبيرة في مستقبل الديمقراطية في العراق القريب على الاقل. حيث راينا تهافت الكثير من السياسيين ذوي التاريخ المعتبر في النضال ضد الديكتاتورية، وتماهي البعض الاخر منهم في التيار الديني عامة، ولبسهم او تلبسهم للعمامة الدينية، سواء بالتصريحات او تبني الاجندة الدينية لبعض المراجع، او "منافقة" البعض الآخر لبعض التيارات الدينية (المتطرفة منها خاصة)، والتي لا توافق توجهاتهم الايدولوجية وبرامجهم السياسية اصلا، طامعين في عدة اصوات انتخابية مستقبلا او " تقية" لشر حملة السلاح منهم. والامر نفسه يقال عن موقف الكثير من الاعلاميين العراقيين الذين ينافقون مثل هذه التيارات المتطرفة.
المبادرة وحل الازمة الحالية لا يعنيان انتهاءها نهائيا او اختفاء مظاهر التسلح من مقبل الميليشيات، انما هو اخماد مؤقت لنار الازمة مع بسط شئ من النفوذ للحكومة العراقية، ذلك ان الاسباب التي حدثت من اجلها الازمة لم تنتهي تماما بعد، حسب ادعاءات طرفي الازمة.
لكن وفي كل الاحوال الحل الاخير كان ابرز دلالة على انتصار تيار الاعتدال في الشارع العراقي وهو تيار الاغلبية، وقد كشف اقلية النقيض لهذا. كما كان اختبارا حقيقيا لكل الاطراف لتبرز مدى قوتها ومقدار تقبلها وحجم شعبيتها وسماع صوتها بما في ذلك شعبية وصوت وتوجه السيد السيستاني الذي كان اكبر الرابحين مع الشعب العراقي طبعا الذي ربح حقن الدماء وتنفس الصعداء بانتظار القادم.
القراءة المتأنية للمشهد العراقي تظهر ان السيد مقتدى الصدر سوف لن ينخرط في العمل السياسي بهذه السرعة، كما ان تياره والمسلحون منهم خاصة سوف لن يلقوا باسلحتهم بهذه السرعة ويتوجهوا الى ميادين العمل خاصة في ظل غياب فرص العمل الان واستمرار ارتفاع البطالة.

* كاتب عراقي مقيم في هولندا