قالت العرب (الحكمة يمانية)، ولكن نجدها هذه المرة نموذجية عراقية، فالحمد لله على حقن دماء العباد، والحمد لله على سلامة الجميع، ولاسيما أهلنا في النجف المشرفة بتربة الحيدر،وأطال الله عمر السيستاني صاحب الحكمة التي أتاه مددها من سدنتها في تراثنا من كاظمي الغيظ والعافين عن الناس. رحمة الله تشمل ضحايا العنف الأرعن، شرطتنا البواسل، ومن سقط في شوارع النجف والثورة أو الكوفة ساعيا إلى حقن دماء أخوته في النجف.وشكرا لله على شفاء السيستاني وعودته ميمونا، فقد كسب بمبادرته قلوب كل العراقيين، وجسد للجموع درسا بالمواصفات الراقية لـ (عالم الدين)، وفضائله، ليعلن أن الدين محبة وتسامح وقبول بالآخر وزهد وسمو فوق المغريات، وعالم الدين يجلب الحلول السلمية ويبعد الإحتراب ونحر الرقاب،وأن الدين فكر حضري يمقت القتل الذي تروج له البداوة البعثية والسلفية، والأهم في ذلك أن العراقيين عشاق للحياة، ونابذين لجلد الذات و الموت الرخيص.
لقد انجلت الغمة ودحض ما روجت له قوى الظلام وتجار الموت، حينما أشاعوا عن نية مبيته أميركية لانتهاك الحضرة الحيدرية،وانطلت على رعاعنا فاستبسلوا في الدفاع عنها، وهي اليوم بفضل الله والشرطة العراقية والسيد السيستاني، مصونة من أي دنس إلا خشيتنا من البعثيين و السلفيين واللادينيين وكذلك "الآخونيين"،تجار البزار المصدرين للموت الرخيص من إيران.
لقد قطعنا حبل الشامتين والراقصين على جراحنا، فها هو أحدهم يوقع باسم (قومي سوري)، قد مجد "المقاومة الشيعية" وهو الذي كان قبل أيام يعير الشيعة بـ(أحفاد العلقمي). وذكر أحد النكرات العرب بأن في العراق رجل واحد إسمه (مقتدى) ورث (رجولة صدام) وسار بها قدما.وسمعنا محمد المسفر القطري الصدامي يحث مقتدى على تحرير العراق ويعتبره بطل قومي، دون أن يحث نفسه في تحرير جزيرته الأمريكية الإسرائيلية. وهكذا حالنا مع عالم سفيه يقطر رياء ورذيلة.
وبالمحصلة فإن حركة مقتدى الرعناء قد زهقت أرواح ما يفوق ألف عراقي عزيز على قلب كل عراقي،وقوضنا (هجمنا) بيوتنا بأيدينا فـ 70 % من النجف قد دمر، وحي الثورة المترنح ينعق البوم على أشلائه اليوم. والسؤال ماذا أفادتنا "عنتريات" فارغة ورثناها من البعث الأغبر..فمن المسؤول وبرقبة من تقع الخطيئة.
لقد وضع مقتدى الصدر نفسه في موقف محرج للغاية،والأكثر حرجا لمريديه ومحبين سيرة أهله الكرام، وهم كثر،ولاسيما لمن يتمتع بالحكمة ورجاحة العقل منهم. لقد سوق نفسه بضاعة رخيصة في الإعلام العربي العاهر، وزمر له الإعلام الغربي الماكر، الذي مازال ينطلي خبثه على السفهاء منا. هل تتذكرون يا كرام كيف نفخوا في صور صدام وروجوا أن الجيش العراقي هو الرابع في العالم،ولم يكن إلا جيش جياع ومظلومين، فروا من الجبهات أو قبلوا أيادي الغزاة، أو رجعوا حفاة، ضحايا جرم صدام الذي لم يكن لهم فيه ناقة ولا جمل..و ربما يتفق معي رهط بأن مقتدى الصدر هو نتاج حقبة البعث وسمة عقلية ومستوى ثقافي وإجتماعي أراده البعث ومن ورائه،وهو صورة جلية لحقبة كلحاء غبراء، لا نريد العودة لها حتى في خيالنا.
وما يثير الغرابة في الأمر هو أن كل الجرائم التي اقترفت باسم مقتدى، كان قد رفضها، و تبرأ منها واستهجنها هو نفسه في السابق. هكذا يرد على الأقل في أدبيات الحركة الصدرية، ووثقت في خطب ومقالات نشر جزء منها وتداولها مريدوه. وقد أطلعنا الأخ الكريم (محمد الخزاعي) رجل الأعمال المقيم في لندن على الكثير منها، موثقة بالصورة أو الصوت أو النص، والتي ترفض في فحواها كل الأعمال التي حدثت ومنها مثلا تكفير الناس وجبرهم على ممارسات معينة، أو دحضهم إشاعة عبادة الشخصية،أو ممارسات الاستحواذ و الابتزاز وقتل النفوس أو السرقة "الفرهود" أو اختطاف الرهائن، أو تخريب البنى النفطية والتحتية أو إطلاق النار العشوائي وغيرها الكثير. وأسرني الأخ الخزاعي بأن مسعاه الخيّر هذا "كما هو ديدنه"، كان ينصب في صياغة منهجية تنظيمية وبرنامج سياسي وتطبيقي لتيار الصدر،يعتمد بالأساس على كل تلك المبادئ التي ذهب إليها مقتدى في خطبه وتصريحاته وهي في حقيقتها استرسال لخطاب عراقي صميم أسترسل من وحي فكر الشهيد والده. وبالنتيجة فما يبتغوه هو إرساء تيار سياسي عراقي منفتح على الآخر ومهادن مع الجميع،وغاياته تصب في المصلحة العراقية أولا وأخيرا. ثم رام الخزاعي أن يوظف لهذا التيار آليات تعاونية ترمي إلى الارتقاء بالبنية الاجتماعية والحضارية العراقية،وتبادر في حل الكثير من مشاكل المجتمع كأزمة المساكن وشحة البنى التحتية والنقل وإرساء منظومة للإعانة والتكافؤ الإجتماعي.
أدهشنا ما قدمه لنا الأخ الخزاعي جزاه الله خيرا. وتبين أن كل ما اقترف من كبائر بأسم تيار الصدر، كان قد نبه منه في خطب سابقة، التي تخالف في بعض مفرداتها حتى مع ما يذهب إليه مساعدوه والناطقون باسمه. وما يزيد الأمر غرابة وحيرة ويثير تساؤلا عريضا،من فعل ذلك ومن قام بكل تلك الخروقات، ومن اقترف الجرائم، ومن بهذل العراق لثلاثة أسابيع؟.واليوم يرفض أتباعه في البصرة والثورة الإلتزم بميثاق السيستاني. وهنا يجب التوقف والإعتبار والتنبه إلى أن ثمة عناصر مغرضة من بعثية وإيرانية ولادينية وعروبية،قد تسنى لها إختراق خطوط الصدر بالعمق فعاثت بأرض الفراتين فسادا. وإذ ما يحير أن الصدر لم ينبه أو ينتبه إلى مغبة ذلك.
إن ذلك يجعلنا نوجه له النصح "الأخوي العراقي" بان أسوار حركته من طين، وحالها غير رصين والمفروض منه أن ينتبه ويكون مجلسا إستشاريا للحكماء، يضبط الآليات التي تمنع التسربات والإختراقات لأعداء العراق وأعدائه إن كان خطه (عراقيا) كما يدعي. وتعتمد تلك الآليات الحصافة التنظيمية والمركزية المعتمدة على عقلانية التحرك الاستراتيجي والتكتيكي.
وبالرغم من تصريحاته النارية ضد الحكومة فإنها تعاملت معه بأصلها،فقد كانت حكومة علاوي نخلة عراقية رماها مقتدى بالحجر فرمت له الرطب ووهبته الفئ، ولذا نرفع أيدينا تحية لذلك الطاقم. وهاهي مناسبة يامقتدى لنقتلع الفتنة من الجذور، ومازلنا نذهب إلى أن ذلك يتم من خلال مجالس الحوار بين المتآخين على حب العراق، والذين يحملون هواجس الناس وهمومهم، أكثر من أي مآرب ذاتية أو حزبية- طائفية ضيقة، ويحملون حسا وطنيا يعي التاريخ والجغرافية وحركة المجتمع، والأهم يتسمون بحسن النوايا وسوي المقاصد.
إن ذلك يحتاج يامقتدى إلى روية وتعقل وحكمة سليمانية وليس نزق وطيش، و يصاحبه جنوح نحو العفو والتسامح ورمي ما مضى وراء الظهر، وليس ضغائن وثارات بدوية. وتشذيب وتهذيب كل ما علق من خبث الماضي،ومعالجة أو بتر أدران الضغائن الباقية من حقبة البعث التي خلطت بين الخاص والعام جهارا. كل ذلك يقتضي عدم العودة إلى سيرتك وجماعتك في السابق، تصحبها رؤيا إنسانية لمستقبل الناس والوطن، وهدفها إرساء دولة القانون، وآلياتها معاضدة الدولة في بناء سلطتها واحترام مراميها ومتابعتها ونقدها أو نصحها سلميا عندما تخطئ. كل ذلك كفيل بأن يخرج الاحتلال مهزوما بالحكمة وليس بالطيش والنزق وسفك الدماء.
نطلب من مقتدى أن يخرج أمام الملء ويعقد مؤتمرا صحافيا موسعا، يشرح خلاله أسباب حركته الحقيقية، لكي نفهم مقاصدها، ويعلن حله لما يدعى "جيش المهدي" الذي أعلن فشله الذريع، ولحقه إلى الأبد الخزي الذي سبق ولحق بـ (الحرس القومي) أو (الجيش الشعبي) البعثية. والأهم في كل ذلك أن يعتذر للناس عما اقترفت يداه ولسانه، بمعية تلك العصابة،ويعدنا أن لا تتكرر تلك التجربة المرة، ويعدنا أن يشكل من نفسه ومريديه جزءا من منظومة بلد، يتبع لقوانينها، ويعمل بأنظمتها، لديه حقوق وعليه واجبات مثله مثلنا جميعا.
ومن أجل مساعدتنا له نرجوا أن يصرح عن أهدافه وبرنامجه الفكري لكي نعيه، وأن يعلن عن برنامج سياسي واضح المعالم، ويصرح عن آلياته في معالجة إشكاليات بناء المواطن والوطن و الاحتلال.. وخلاف ذلك فأنه سيترك فضاءا مفتوحا وفراغا ممقوتا ترتع في كنفه التأويلات و القال والقيل،والتي ستضر حتما بمصلحته وتضعف من حجة تياره السياسي ومستقبله،في حالة إذا أراد له مستقبل.
لو كان مقتدى قد تعقل ولم يرفض الانتخابات وشارك في المؤتمر العراقي، وسارع في تكوين حزب وليس عصابة "المهدي"، لما حدث ما حدث، ولأمسينا نحن وغيرنا ممن يؤيده، وربما ننتخبه، وكان قد أضاف لبنة على ما بناه الشهيد والده، وما كسبه من حظوة. وكان يمكن أن توظف تباعا لتيارا واسعا، يستقطب طبقات كثيرة من الشعب ويمكن للقوى الخيرة أن تهذبه وتسيطر على مساره وتهديه سوي ومستقيم النهج. ونلفت نظر مقتدى أننا نرفض التعامل مع "نسبه" جزافا، ونرجوا من "حسبه" خيرا فالإنسان يبني حسبه بسيرته ويعزز نسبه به، والدنيا العراقية ذاهبة يامقتدى إلى المرجعيات الجماعية التي تقسم بينها المهام والمسؤولية، وتتحاشى التفرد وهفواتها، وحسبي أنك تخطأ مثل الجميع،ولم تطأ المعصومية،وها أنت أخطأت البارحة. وإذا كنت محب لمذهب أهل البيت فإن حركتك وتفردك وإختراق صفوفك ثم هزيمتك، أظهرت خللا في فهم جدلية (رجل الدين) والكهنوتيه التي يرفضها الإسلام، وصفة (عالم الدين) المتسم بالحكمة والكياسة مثلما كان الشهيد والدك.
واليوم وقد تفرقت الجموع من ساحات الوغى والاقتتال الجزافي، فلم يقتل إلا كم جندي أمريكي لم يعلن عنهم لقلتهم، مقابل ألف ونيف من العراقيين،و دمار في النجف والمدن العراقية وتعطيل للحياة وحبس الأنفاس وهجرة جماعية. فلنلعق جراحنا يا مقتدى ولنكابر على همومنا وننسى الذي فات، و ننتظر منك مبادرات وممارسات عملية تتسم بالفطنة والمفهومية،لتجبر بها خواطر أخوتك ومحبيك من العراقيين،وتعلن عن نهاية فصل كئيب من تاريخ العراق الذي مازال جرحه ينزف.

* معمار وباحث عراقي
[email protected]