لا يمكن لمن يريد ان يقولب الناس في بوتقة واحدة وان يخضعهم لعقلية واحدة وفكر واحد ودين واحد واسلوب واحد في السلوك وحتى الاكل، الا ان يلجأ الى اساليب تتميز بالقسوة المفرطة والافعال الوحشية التي يربأ الانسان الذي يتمتع بالحد الادنى من التوازن النفسي والروحي اللجوء اليها. وتتزايد هذه القسوة والوحشية اضعافاً عندما يستلم هؤلاء زمام السلطة أو قدر منها حيث يشمر هؤلاء عن سواعد البطش وينشرون "دولايب" الموت والرعب لترويع كل من يجرأ على التعبير عن اية ملاحظة او همسة ازاء هؤلاء الحكام. والامر سيان عند كل هذا النوع من الحكام وحتى السياسيين من كل الاطياف قومية كانت ام دينية ام يسارية. فقد قدم لنا العالم وخاصة في العقود الاخيرة الكثير من نماذج الرعب هذه، نازية بأفرانها وستالينية بمقابرها الجماعية ام فرانكوية او سالازارية لتمتد هذه الظاهرة الى عالمنا حيث "لمع" اسم الطالبان في افغانستان واسم صدام حسين في العراق بقبوره الجماعية وسجونه المرعبة وليلمع الآن اسم مقتدى افندي ليتحفنا بمحاكمه القراقوشية ومقابره الموجودة في سراديب محكمته الشرعية في النجف تماماُُ على غرار لجنة عدي صدام حسين الاولمبية، وستكشف الايام القادمة ما فعله ويفعله اقران هؤلاء في الفلوجة من المتطرفين العراقيين والارهابيين الاجانب الذين يعبثون بنفس الطريقة بهذه البلدة وابنائها وبالعراقيين عموماً.
ويبدو ان حكام ايران المتطرفين الدينيين هم ايضاً لم يتخلفوا عن اقرانهم في الاستبداد والبطش وبغطاء ديني زائف. ففي 26 آب/اغسطس من عام 1988 وبعد انتهاء الحرب العراقية الايرانية اقدم النظام الديني المتطرف في ايران على جريمة خطيرة تمثلت في اعدام جماعي لكل السجناء السياسيين في ايران وبضمنهم حتى من كان على عتبة انهاء محكومياته والخروج من السجن. ويشير عالم الدين الجليل آية الله حسن علي منتظري في مذكراته الى جوانب خطيرة حول هذا الحدث المرعب حيث يشير الى رسالتين قد ارسلها اية الله الخميني يأمر فيها بقتل ما يزيد على 3 آلاف سجين سياسي في مختلف السجون الايرانية وفي يوم واحد. وساند هذه العملية وبحماس رجال دين متطرفين هم الآن على قمة هرم السلطة من امثال علي خامنئي وهاشمي رفسنجاني وجنتي ومشكيني وغيرهم من عتات التطرف الديني.
ويشير بعض من فلت من الموت من السجناء الايرانيين الى اعدام اكثر من ثلاثة آلاف سجين بعد اجراء محاكمات صورية في السجون ولبضع دقائق وتم دفن هؤلاء في قبور جماعية سرية في أطراف السجون. ان غالبية الذين تم اعدامهم كانوا على وشك انهاء محكومياتهم بموجب المحاكم الشرعية والخروج من السجن. وضم قائمة المعدومين مجموعات من انصار منظمة فدائيي الشعب الايراني، الاكثرية والاقلية، وحزب توده ايران والحزب الديمقراطي الكردستاني الايراني وعشرات المنظمات الدينية واليسارية الايرانية والعديد من كبار ضباط الجيش الايراني من الذين قادوا المعارك ضد غزو جيش صدام حسين لايران. ولم تتوفر الفرصة لاهالي الضحايا تسلم جثث احبائهم وحتى معرفة مكان مثواهم حيث تم دفن الغالبية منهم في قبور جماعية.
وخلال السنوات الست عشر التي مرت على هذه المأساة، حاول آباء وامهات وزوجات وابناء الضحايا التعرف على اسباب هذه الاعدامات والعدد الدقيق للمعدومين ووصيتهم واماكن قبورهم دون جدوى. ولم تحرك الحكومات الايرانية المتعاقبة اي ساكن لاعلام ذووي الضحايا بالتفاصيل. وفي خلال سبع سنوات من حكم الاصلاحيين برئاسة السيد محمد خاتمي ومن ضمنها الدورة السادسة لمجلس الشورى الايراني، التزم الجميع بالسكوت وعدم السماح بالحقيق في هذا الحادث. ولكن بسبب من اصرار اولياء الضحايا على مطاليبهم تم اخيراً الكشف عن التفاصيل المريعة وازاحة الستار عن هذه التراجيديا التي سببها رجال الدين المتطرفون الحاكمون في ايران. فقد تم العثور على مقبرة جماعية في "كلزار خاوران تهران" قرب العاصمة الايرانية وهي تضم رفات سجناء كل من سجن ايفين الرهيب المعروف وسجن كوهر دشت، حيث تم دفن الضحايا بدون الاشارة الى اسماء هؤلاء السجناء. ولم يتم العثور الى ضحايا السجون الاخرى في المدن الايرانية لحد الآن.
وبمناسبة مرور ستة عشر سنة على ذكرى اعدام السجناء، قامت اعداد كبيرة من ذوي الضحايا والمئات من المدافعين عن الحرية وحقوق الانسان في ايران بالاجتماع في مكان القبور الجماعية في "كلزار خاوران تهراه" في ضواحي طهران للتنديد بهذه الجريمة واحياء ذكرى ضحاياها، متوجهين الى الهيئات الدولية بطلب لاجبار الحكومة الايرانية على التحقيق في هذه الجريمة الكبرى. ومن بين هؤلاء السجناء سجناء سياسيين قضوا 30 سنة في سجن الشاه وسجن المتطرفين الدينيين، ويقف على رأسهم عباس حجري بجستاني وتقي كيمنش واسماعيل ذو القدر وابوتراب باقرزاده ورضا شلتوكي. وتم اعدام عسكريين رفيعي المستوى ممن لعبوا دوراً اساسياً في تحرير الاراضي الايرانية من زمرة صدام حسين وهم الاميرال بهرام افضلي قائد القوة البحرية الايرانية والعقيد بيزن كبيري قائد عمليات تحرير خرمشهر(المحمرة) وعشرات آخرين.
إن اسلوب تصفيات هذه الزمر الاستبدادية،كما تدل التجربة، لا تقتصر على من يخالفهم بالرأي بل تمتد الى انصارهم ومريديهم. فقد كشف م. مهاجر قبل أيام وعلى شبكات الانترنت تفاصيل مثيرة عن اغتيال السيد احمد الخميني نجل اية الله الخميني على يد نفس هذه الفئة قبل سنوات. فقد كشف السيد مهاجر، وهو الذي شغل منصب رئيس الدائرة السياسي والايديولوجية للحرس الثوري الاسلامي ورئيس دائرة التربية الايديولوجية لضباط الحرس الثوري واستاذ المعارف الاسلامية في جامعة العلوم الطبية التابعة للحرس الثوري كيف ان مجموعة من رجال المخابرات الايرانية التي تأتمر بأمر السيد علي خامنئي اوحت بإغتيال السيد احمد الخميني بسبب اختلافه في الرأي مع حكام ايران واعتراضه على الحالة والحكم في ايران. وقامت نفس مجموعة الاغتيالات بقتل العيديد من المثقفين والادباء والسياسيين الايرانيين بما عرف قبل سنوات "بمسلسل الاغتيالات" والتي اعترف بها سعيد امامي وكيل وزير المخابرات الايرانية امام قاضي تحقيق مستقل.
لقد تراجع العديد ممن ساند هذا النظام المتشدد في السنوات الاولى بعد ان تبين لهم ان الاستبداد قد عاد وبصورة اشد وبعباءة دينية على يد المتطرفين الدينيين ومجموعة خامنئي- رفسنجاني. فقد تم اخيراً وبعد تصاعد حملة الادانة ضد احكام المحاكم الشرعية الايرانية بالافراج عن الدكتور هاشم آقا جاري الاستاذ في جامعة طهران بعد ان كان تحت طائلة الاعدام لمدة ثلاث سنوات. ان كل الاتهام الذي تم توجيهه الى الدكتور آقا جاري هو اشارته في احدى محاضراته في الجامعة ودعوته الى عدم اطاعة رجال الدين اطاعة عمياء. وهذا ما فسر على انه تمرد على النظام والدعوة الى الاطاحة به في الوقت الذي كان الكتور آقا جاري من اشد المناصرين للنظام وساهم في قمع الحركات السياسية وقاد مجاميع من الشباب لصد الغزو الصدامي مما ادى الى فقدان ساقيه في المعارك ثم انتقل الى الدراسة وحصل على الدكتوراه في التاريخ ليتحول بعد ذلك الى استاذ محاضر في جامعة طهران في مادة التاريخ.
ان التجربة التاريخية تشير الى ان الاستبداد الديني هو اكثر انواع الاستبداد تدميراً لانه يستثير المشاعر النبيلة لدى عامة الناس وتطيع المستبدين بشكل يشل عملية الابداع والبناء وتضر بالدين نفسه. ولنا في تجربة الكنيسة في القرون الوسطى وتجربة محاكم التفتيش الدينية في القارة الاوروبية خير مثال على ما آلت اليه هذه النزعة وما آل اليه الدين نفسه في المجتمعات الاوروبية. ينبغي العمل على فصل السلطة عن الدين احتراماً للدين نفسه لكي يبقى مثلاً لهداية البشر نحو التسامح والتكافل والسلام وليس الدسائس والحروب والعبوات الناسفة والمتفجرات.
[email protected]
- آخر تحديث :
التعليقات