(مقاربة ثقافية)

يشاء المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد أن يبلور دائما الصيغ المسلم بها لتقديمها مرة أخرى بشكل يلامس الواقع والعقل بفاعلية أبرز، يقول سعيد في كتابه: "الآلهة التي تفشل دائما": العالمية تعني تحمل المخاطر كي نتجاوز الحقائق السهلة التي تقدمها لنا خلفيتنا ولغتنا وجنسيتنا، والتي غالبا ما تحجب عنّا حقيقة الآخرين". (ص9، ترجمة حسام الدين خضور، التكوين ودار الكتاب العربي، بيروت 2003).
ويمضي قائلا: إذا شجبنا عدوانا غير مبرر لعدو فيجب أن نكون قادرين على فعل الشيء نفسه عندما تعتدي حكومتنا على فريق أضعف. لا توجد قواعد يستطيع المثقفون بواسطتها معرفة ما يقولون أو يفعلون، وليس هناك أية آلهة للمثقف العلماني الحقيقي يجب أن تُعبد وينظر إليها من أجل هداية ثابتة. (ص 9 و10).
انطلق من هذا لاقف الآن على قضية الجدار وصوم الأسرى الفلسطينيين في سجون الاعتقال الإسرائيلي.
ما علاقة ما قاله ادوارد سعيد بهذه المسائل الآن؟. لا شك إن ما يطرحه سعيد في النقطة الأولى يشير إلى وعي جديد وجدي للعالمية أو العولمة بمعنى المطلوب الآن أن نقارب هذا الانفتاح ليس على خلفية نتخندق بها لننطلق لفعل أي شيء أو لقول أي شيء، إنما المطلوب الآن أن نتجاوز هذه الخلفية/ الخندق ونخاطر للخروج ومواجهة الحقائق والعالمية أو العولمة بوعي دون حجب أو مواقف مسبقة. هذه الحالة الإنسانية المثقفة التي يقاربها سعيد يمكن أن نقرأها الآن في فعل إنساني حقيقي يمثله الأسرى الفلسطينيون وتدعمه الحكومة الفلسطينية ويساندهم حفيد غاندي فيلسوف اللاعنف.
الفلسطينيون الذين يخرجون الآن عن خلفية "العين بالعين" يطأون مرحلة مختلفة كليا عن الكفاح المسلح إلى مرحلة الكفاح اللاعنفي، ويشير احد المراقبين قائلا: إذا ترسخ هذا الوعي الجديد لا شك أن الفلسطينيين هم الكاسبون بعد سلسلة من الهزائم والخسائر.
كذلك يمكن مقاربة النقطة الأخرى لسعيد بهذه العقلية الجديدة التي علينا جميعا التمسح بها علنا نشفى من فكرة: "أنصر أخاك ظالما أو مظلوما" التي لم ترسخ سوى الهمجية والعنف ومواصلة أخطاء الأصدقاء والأشقاء وأدت في تسبب انهيارات كارثية على صعيد الحس الإنساني السليم وضميره وأخلاقه.
في السياق نفسه يلاحظ المرء المتابع لمسار حركة التاريخ أن الحروب كلها وقعت في الأساس بعد خلاف فكري أو ديني أو اجتماعي اقتصادي، وكان يلاحظ دائما أن الحلول السطحية أدت باستمرار إلى بزوغ العنف مجددا، ولم يكن بالإمكان ليستقر الوضع نسبيا إلا بالسيف أو الانتصار في الحرب.
هذه الحلول لم تؤد إلى انتهاء "الخلاف" فقط إنما أيضا إلى القضاء على "الاختلاف".
بالمقابل يلاحظ أن ثمة أسلوبا أو نهجا آخر اتبع في السابق ونجح أيضا بشكل صحي – إذا صح التعبير.، ولعل اقرب من يمثل ذلك: الديانة المسيحية والغاندية. حيث كسر هذا المسار مفهوم السيطرة بالعنف والحرب والقمع، وذلك عبر اتساع مساحة المحبة والصمت والكلمة الطيبة الحقّة. على الرغم من أن المسيحية غيرت بعد ذلك من مفاهيمها وطمست ما انطلقت منه في الأساس.
أمام هذين الخطين: الحرب والمحبة، سارت المجتمعات الإنسانية لتثبت حضورها وترسخ ثقافتها وديانتها وتبسط اقتصادياتها.
لا شك – برأيي. ان ما حدث ويحدث في العالم العربي يمتلك من الإشكاليات والصعوبات التي لا يمكن حلها أو فهمها بسهولة. ولعل يمكن اختصارها على النحو التالي:
. صراع أحزاب مرضي، المسؤول الصامت أو المهادن، خطابات غرائزية، قرارات سلطوية غاضبة وسريعة، توجيه أفكار، تحريض وتضليل للحقائق، اضطهاد وقمع وقتل، وصمت أو لامبالاة الشريحة الكبرى من المجتمعات.
ونحن نتأمل هذه العناوين الصغيرة الكبيرة في مدلولاتها الوجودية والنفسية والاجتماعية والفكرية نلحظ مدى أهمية وضرورة أن يتحلى "الحاكم" بالحكمة والمحبة والدراية والخروج من الأزمة بأقل الخسائر الممكنة، إنما الذي يحدث دائما. أن المسائل تبقى دون حلول ومعالجة ويبقى الأهم هو الحفاظ "العنيف" على كرسي الحكم، وذلك انطلاقا من خلفيات تاريخية نعممها ونضخ بها على أرض الواقع لتبرير "دكتاتوريتنا" القبيحة.
مما يعني ان العلاج ما زال بحاجة لعلاج، وان المسألة يجب ومن الضروري أن يعاد النظر فيها كـ "حالة ثقافية عميقة مرضية" والعمل على مناقشتها بهدوء للوصول إلى قواسم مشتركة يمكن البناء عليها لعالم عربي أكثر صحة وعافية.
ويبقى أن نقول انه بين الجدار الإسرائيلي السخيف والصوم الفلسطيني النبيل، ثمة مساحة كبيرة من الحقائق ستظهر عالميا، والتي بالتأكيد ستكون مساندة ومؤيدة لقضية فلسطينية لم تشهد طوال أكثر من خمسين سنة سوى المزيد من الخسائر والدم والتشرد والموت.
لا شك ان الصيام هو الحل الأنجع الآن ليس لفلسطين وحسب بل للعالم العربي كله، عسى أن نهدم جدار التخلف والقمع والخوف والاستسلام.

•شاعر وصحفي لبناني
•له: في الشعر: كنّاس الكلام. في الرواية: جنون الحكاية. في الدراسة: الشعر والدين: فاعلية الرمز الديني المقدس في الشعر العربي
[email protected]