أن المتتبع لتطورات الأمور في عراق اليوم يكاد يصل في تحليله وتوقعاته للمستقبل الى أن العراق الجديد يتجه نحو حالة هي أشبه ما يكون الى حالة اللبننة.. أي أن يتحول العراق الى لبنان آخر نتيجة لبعض أوجه الشبه بين التركيبة السكانية
للبلدين أضافة الى طبيعة الظروف الدولية التي تحيط بهما.. فما يعيشه عراق اليوم من فوضى عارمة طالت ومنذ اليوم الأول لسقوط النظام أغلب أرجائه التي تسيطر على أجزاء منها ميليشيات وحكومات رسمية أو شبه رسمية فيما تعاني أجزاء أخرى من تنافس لقوى مختلفة للسيطرة عليها يوحي للكثيرين بأن مستقبل الوضع السياسي للعراق لن يكون ديمقراطياً فدرالياً تعددياً موحداً كما تمنينا وكما أدّعى البعض بل أن ما يحدث اليوم في العراق يؤسس لولادة دولة كانتونات مناطقية طائفية وقومية وعشائرية كتلك الموجودة في لبنان.
فبعد صراع مرير دام لثلاثة أسابيع بين الحكومة العراقية المركزية وميليشيات غير نظامية تابعة لأحد التيارات الدينية في محافظات العراق الجنوبية توقف القتال بين الجانبين ليس لأن القانون قد أخذ مجراه أو أن أحد الجانبين قد أنتصر على
الآخر بل نتيجة لتدخل السيد السيستاني وحقنه للدماء لما له من ثقل روحي على شرائح واسعة من الشعب العراقي سواء تلك التي مع الحكومة أو التي مع الميليشيات المسلحة مما أكد على أن الولاء الأول في هذه المناطق هو للدين وللرمز الديني
قبل أن يكون للدولة وللقانون.. وأذا أنتقلنا الى مناطق أخرى من العراق كغَربِه مثلاً للمسنا غلبة نوع آخر من الولاء على الولاء للدولة والقانون وهو الولاء الديني الممزوج بولاء قومي عروبي يسيطر على عقول ونفوس أبناء تلك المناطق ويطغى على الولاء لدولة أسمها العراق بدليل سيطرة بعض رجال الدين على مقدرات الأمور في تلك المناطق وأيوائهم لمتسللين عرب غرباء قدموا من خلف الحدود للتدخل في شؤون العراق حولوا حياة أبناء تلك المناطق وما جاورها الى جحيم.. أما في شمال العراق فالولاء الأول هو للقومية نتيجة لسنوات مريرة من حكم عنصري دفع بأبناء تلك المناطق الى التمسّك بقوميتهم والتعصب لها بالشكل الذي جعلها تسبق الولاء للدولة الأم.
وبمقارنة وضع العراق الحالي مع الوضع اللبناني نرى تشابهاً كبيراً بين ما موجود اليوم على أرض الواقع في لبنان وبين ما يمكن أن يتطور اليه الوضع في العراق أذا أستمرت الأمور على المنوال الذي تسير عليه اليوم.. فالميليشيات لا تزال هي الحاكم الفعلي في بعض مناطق لبنان كما هو الحال في الجنوب اللبناني الذي يخضع ومنذ زمن لسيطرة ميليشيا حزب الله اللبناني بشكل كامل بحيث يُحرّم على الجيش اللبناني الوصول أليه و أنتشار أفراده فيه.. أما مناطق لبنان الأخرى فتسيطر عليها قوى وأحزاب سياسية ذات توجهات طائفية ودينية تتلائم مع طبيعة سكان المنطقة.. فيما هنالك أجزاء أخرى من البلاد كالعاصمة بيروت تخضع للدولة وأن كان ذلك أيضاً بشكل جزئي فبعض أجزاء العاصمة تخضع فعلياً لسيطرة بعض الميليشيات والقوى التي ذكرناها.
والعراق الآن ليس بأفضل حالاً من لبنان بل أن أنه ينذر بالأسوء لأحتواء العراق على قوميات وأديان وطوائف أكثر مما هي عليه في لبنان.. وقد أثبت واقع الحال بعد سقوط النظام السابق أن العراقيين ونتيجة لأربعة عقود من الترسيخ لمبدأ الولاء للحزب الواحد سيراً على مقولة ( أن كل عراقي بعثي وأن لم ينتمي ) و( أذا قيل صدام قيل العراق ) وبالتالي ضبابية وتلاشي مفهوم المواطنة الحقّة لعراق الأرض والتأريخ لا ( عراق القائد صدام حسين ) بدأوا يميلون نحو الولائات
الطائفية والعشائرية والقومية.. أضافة الى أن ما يجري اليوم في العراق من تكريس لصيغة المحاصصة الطائفية والقومية يدفع العراقي البسيط المسكين الذي يجري على قوت عياله الى الأندفاع أكثر نحو الولاء الطائفي أو القومي الذي أصبح اليوم بديلاً عن الولاء للوطن الأم فبدون تأييد أو أنتساب المواطن العراقي البسيط لهذا الحزب الذي يمثل هذه القومية ولذلك الحزب الذي يمثل تلك الطائفة لن يجد وظيفة شاغرة يعتاش منها ولا سكن يأويه هو وأهل بيته.. فالكلام الفصل في جنوب
العراق ذي الأغلبية الشيعية لايزال لرجال الدين الشيعة ولبعض الأحزاب الأسلامية الشيعية وميليشياتها التي ما تزال مسيطرة على الكثير من النواحي الأدارية في محافظات الجنوب على الرغم من حضور مظاهر للدولة في الكثير من النواحي كوجود المحافظين ومسؤولي بعض الدوائر الحكومية أضافة الى تواجد أجهزة الشرطة والحرس
الوطني التي تحاول شيئاً فشيئاً أعادة سيطرتها على الأوضاع الأمنية في تلك المحافظات.. أما مناطق غرب العراق ذات الأغلبية السنية فالقول الفصل فيها لرجال الدين السنة ولبعض التنظيمات الأسلامية السنية التي نشأت بعد سقوط النظام ويكاد يكون حضور الدولة في تلك المناطق معدوماً أذ لا وجود يذكر للمسؤولين الحكوميين ولا لأجهزة الشرطة والحرس الوطني والتي أن وجدت فهي أما منكفئة على نفسها في الدور والبنايات الحكومية خوفاً من الأنتقام أو تابعة لتلك التنظيمات وتأتمر بأمر أمرائها وأفرادها الذين يحكمون تلك المناطق وفق الشريعة الأسلامية ( حسب أعتقادهم طبعاً ) بعيداً عن القانون المدني الذي تسير عليه البلاد.. وأذا أنتقلنا الى شمال العراق حيث تعيش غالبية كردية لوجدنا أقليماً شبه متكامل
سياسياً وأدارياً فهناك وزراء وبرلمان ورئيس للأقليم أضافة الى قوات مسلحة هي قوات البيشمركة الكردية التي تحافظ على الأمن والأستقرار في تلك المناطق التي تعيش هذه الأوضاع منذ 13 سنة وأصبح لها وضعها السياسي والأداري الخاص والمميز عن باقي أجزاء العراق رغم محاولة قادة الأحزاب الكردية التي تسيطر على هذه
المنطقة أعادة الأندماج مع باقي أجزاء العراق وبما يحفظ للأكراد خصوصيتهم القومية.
لقد بدأت تصريحات بعض السياسيين العراقيين تمهد الطريق لمثل هذا الوضع ولاأدري أن كان ذلك بدافع اليأس أو بدافع العلم بالشيء وبالتالي التمهيد له شيئاً فشيئاً في الشارع العراقي.. لذلك وفي أعتقادي فأن مسألة تحول العراق الى لبنان
ثانية هي مسألة أيام أذ سيعلن قريباً عن فيدرالية الجنوب التي ستضم البصرة والعمارة والناصرية كما ذكرت تصريحات بعض مسؤولي المحافظات الجنوبية قبل أيام.. أما فيدرالية الشمال فهي موجودة أصلاً منذ 13 عاماً ولم يبقى سوى أعلان
فيدرالية غرب العراق لتكتمل الصورة ويصبح العراق الجديد لبنان آخر في المنطقة.
هنالك ماهو أسوأ من اللبننة وهو الصوملة أي أن يتحول عراقنا الحبيب الى صومال ثانية.. هذا طبعاً في حال أنفلات الأمور نهائياً من أيدي من يمسكون بها اليوم بصعوبة بالغة ويمنعونها من الأنفلات الى الشكل الذي يدمر البلاد ويجعلها نهباً للصوص والأرهابيين وقطاع الطرق وأمراء الحرب كما يحدث في الصومال ولكن موقع العراق الجغرافي الحساس وأحتياطي النفط الذي يمتلكه يحولان دون حدوث ذلك ولو كلف أمريكا وباقي دول العالم الى أن تأتي بكل جيوشها الجرارة لمحاربة الأرهاب في العراق ومنع ذلك من الحدوث لذلك فأن الأقرب للحصول وكما ذكرت سابقاً هو ما
يشبه اللبننة.
دعونا لانعول على أجيال اليوم لأنها أجيال مريضة ومشوّهة أختارت أن تكون حطباً لنار آيديولوجيات الموت العنصرية والطائفية التي أوجدها البعض والتي سَرَت وسط هذه الأجيال خلال أربعة عقود كسريان النار في الهشيم لأنها ستوصلنا الى اللبننة لامحالة.. وليكن مُعوّلنا على الله أولاً وعلى أجيال جديدة معافاة ستولد من رحم مستقبلٍ أكثر أشراقاً من الماضي وستنمو في بيئة صالحة وستنشأ بأذن الله وسطَ أجواء أجتماعية أفضل من الأجواء التي نشأت فيها وعاشتها سابقاتها ثانياً.. فبعض العراقيين من أجيال اليوم لازالوا وحتى هذه الساعة يتحدثون عن أن العراق بحدوده الحالية هو دولة مصطنعة أوجدها الأستعمار البريطاني خدمة لمخططاته التوسعية ويَرَون أن العربي الموريتاني واليماني والسوداني... ألخ هو
أقرب أليهم من العراقي الآشوري والكلداني والكردي والتركماني كما أن هناك عراقيين آخرين من أجيال اليوم يَرَون أن المسلم الماليزي والأيراني والأفغاني والأفريقي... ألخ هو أقرب أليه من العراقي المسيحي واليزيدي والصابئي وهنا
طامتنا الكبرى فبمثل هذا النوع من الطرح والتفكير الذي لايزال معشعشاً في عقول البعض يبقى من الصعب بل من المستحيل الوصول الى مفهوم واضح وراسخ للمواطنة يجتمع عليه جميع أبناء الشعب العراقي بكافة أطيافهم الدينية والقومية ويؤسس لولادة أمة عراقية واضحة المعالم.
يأبناء أرض الرافدين عودوا الى رشدكم.. فلا العالم الليبرالي المتمدن يرضى بقيام دولة أسلامية كما يتمنى ويسعى البعض ولا المعطيات والواقع العربي المرير يوحي بولادة أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة.. في حين أن العالم يرضى والواقع
يوحي ويقول بوجود دولة جميلة بأسمها الساحر عظيمة بتأريخها المشرق هي العراق موطنكم وموطن آبائكم وأجدادكم.. أعملوا للعراق وأخلصوا للعراق وليكن ولاء الجميع للعراق قبل الولاء لأي شيء آخر فالعراق عراق جميع العراقيين وسيبقى كذلك أبد الدهر بأذن الله تعالى.
- آخر تحديث :
التعليقات