الطبيعة في ورشة، كل فيها منهمك، والأسواق التجارية تفتح أبوابها للعام الدراسي الجديد...آباء وأمهات يدرسن الميزانية المخصصة للعام الدراسي، عيون حائرة وشفاه صامتة، التسجيل والمريول وحقيبة المدرسة، والمطرة المزخرفة والثياب الجديدة والحذاء المتين، وآخرها العبارة الشهيرة "معليش بيستاهلوا الله يعيشن ونصرف علين"...، إنها بيروت بل لبنان بعامة، وكلنا يبغي تسجيل اولاده في مدارس خاصة، أقساطها منهكة وبرامجها التعليمية الصعبة صارت تعرف بمرض اسمه" مرض الأهل"؛ فالاهل يمرضون إن أشرفوا بانفسهم على تدريس اولادهم وسيمرضون حتمًا من دفع أجرة اساتذة الدروس الخاصة التي أمست باهظة. وها هم الأولاد يودّعون ساحات اللعب وبرك السباحة، يغتسلون مساءً من غبائر الصيف و سوف يفرحون بكل جديد...
بداية العام الدراسي
أتذكر دومًا كيف كانت أمي تصطحبني لتسجيلي في المدرسة مع أخواتي، والذي لا يفارقني كلمات معلمتي التي كانت تقول وهي توضّب قرطاسيتي وكتبي، أنت صغيرة على صفك لأنك "شاطرة" وعلى الرغم من ذلك المديح كنت كما جيلي أفزع من المدرسة وأموت رعبًا من الراهبة المسؤولة، ومن الناظرة- رحمها الله- بشعرها الكستنائي الكثيف ونظارتها العريضة التي لم تفارق وجهها إلا لماماً، ومرّت الايام وكرت السنون، وبعد تخرجي من الجامعة أيقنت ان ايام المدرسة ما زالت الأحلى، فهي وان تكدست في ذاكرتنا المواقف والصور، سيبقى من ذكراها أجنحة بيضاء ترف في اخيلتنا، وصداقات لم تعرف الى المصلحة سبيلًا.
رهاب المدرسة
خالي في العقد الخامس من عمره، كان فيما مضى عسكري مكافحة في الجيش اللبناني، وقد شهد أو شارك في الكثير من المعارك الضارية، وبعد إصابته بشظية اخترقت الصدرلكنها توقفت دون أن تخدش عضلة القلب، وعلى الرغم من كل ماعايشه وقاساه، فلو حدثك عن المدرسة سيخبرك حتمًا بان الحرب لم تفزعه بل جرس المدرسة وإلى الساعة، وهو ما طفق يردده على مسمعنا، ويردف قائلا : إني وإن مررت بالقرب من مدرسة الدير صدفة وسمعت رنين الجرس، يرجف قلبي وتتجمد قدماي كأنني ما زلت ذلك التلميذ المرتعب، فاشعر اني لم اعد قادرًا على قيادة سيارتي.... تغيرت المدرسة وتغيرت المناهج في لبنان فالتعليم صار تربية وتعليمًا بالفعل لا بالقول إلا ما ندر، أولادنا لا يخافون المدارس بل ان ابني يشد رداء رئيسة الدير، ويلاطفها ويمازحها فهي تمنع الضرب في المدرسة، الا انها هي ذاتها من ضربني مرة لأني اخذت علامة ستّ عشرة على عشرين على مادة العلوم الطبيعية، يومها قالت تحتاجين اربع ضربات كي تصبح العلامة عشرين على عشرين. وها ابني يحبها ويقلدها، قلت لها يومًا ايتها الاخت الرئيسة نحن لم نتبدل ما تبدل حقًا هو المنهجيات وهذا بحد ذاته رائع!
المرض والتغيّب
كنت أحب المدرسة والرفاق وان ينتهي درس ويشرع المعلم بشرح آخر، فالعناوين الجديدة لطالما استهوتني وكم عانيت عندما تغيبت عن بعض الامتحانات مكرهة، لقد كنت فريسة سهلة للامراض وبنوع خاص كل انواع الانفلونزا إذ كنت هزيلة وعلى عداء تام مع كل انواع الاكل الا صنفًا معينًا من البسكويت إشترت منه أمي كميات هائلة من اجلي اضافة الى عشقي لانواع الفاكهة والشوكولا، اختي حسدتني على تغيبي متمنية لو مرضت بدلا عني، لم تحب المدرسة يوما و بعكسها إبني الصغير الذي ما ان تنتهي المدرسة حتى ترتفع حرارته، ويهذي متمنيًا العودة... ان فرص بقائي بين الاوائل في الصف يعني الا يحيل بيني وبين الامتحانات حائل ففي الصف أبناء وبنات مغتربي جنوب إفريقيا، الذين أتقنوا اللغة الفرنسية بطلاقة مدهشة، غير أنهم كانوا ضعافًا بالمواد العربية كلها. قررت إبقاء ابني بجهوزية تامة الا ما قدّره الله، بإعطائه لقاح الانفلونزا القادر من جهة على تخفيف اعراض المرض ومن جهة ثانية على تقوية جهاز المناعة في الجسم....
حفلات المدرسة
كان لزامًا عليّ المشاركة بحفلات المدرسة أحببت ذلك ام لم احب، والدي لم يكمل تعليمه لكن الله خصه بموهبة الشعر فكان يكتب القصائد في المناسبات والاحتفالات وانا من عليها إلقاءها، الحرب أفقدتني كتبًا ودفاتر عزيزة وما نجا منها عدد يتيم من مجلة المدرسة وفيه صورتي وانا أنشد شعرًا بمناسبة عيد الشهداء، الناظرة من دربني على القاء الشعر وبدوري اورثت ذلك لابني وغدًا لابنتي... ابني شارك بحفلة نهاية العام الدراسي وكان بطل مشهد من مسرحية للرحابنة وقد حاز على اعجاب الجميع، بشكله النحيل وصوته الرقيق وهو الذي لم يبلغ السابعة بعد، كل ذلك تناقض مع الشخصية التي قدمها فأثار ضحكًا وتصفيقًا داخل القاعة جعلني افخر به،، جيلهم إختلف حقًا انه جيل الفضائيات والانترنت، ولغتهم مختلفة، وخجلهم مختلف، لكن خوفنا من المدرسة كان جميلًا وذكرياتنا ظلّت مثقلة بالحنين، وفرحة اللقيا بزملاء الدراسة احلى من غرف الدردشة.... وأصداء الأجراس المدرسية هل حقًّا تلاشت رهبتها؟..
صحافية من لبنان
التعليقات