في ظل حالة اليأس والإحباط التي تخيم على الشعوب العربية والإسلامية يصبح البحث عن بارقة أمل تنير الطريق وسط ظلام دامس يلف حياتنا وتصبح الجماهير متلهفة لمن يمد لها حبل الإنقاذ كالغريق الذي يتعلق بقشة ومن ثم يصبح الحديث عن المقاومة نوعا من الحلم الذي يبعث على الأمل في النفوس وينير الطريق في ظلمات الليل البهيم وهذا ما شعرت به حينما هاتفت المفكر الكبير الدكتور حسن حنفي قبل أيام لأتحدث معه عن المؤتمر السنوي للجمعية الفلسفية المصرية وفوجئت به يقول لي باعتباره سكرتير عام الجمعية لقد اخترنا عنوان فلسفة المقاومة كعنوان للمؤتمر القادم في ديسمبر فقلت له خيرا فعلت فما حاجتنا لنحي هذا الشعار في زمن الانبطاح والزحف على البطون والاستسلام ورفع جميع الرايات البيض والحمر والصفر والسود إلى آخره والتخلي عن الثوابت وصم الآذان عن استغاثات الأطفال والنساء في فلسطين والعراق والتعامل معها وكأنها تحدث في بلاد الواق واق حتى بيانات الشجب والإدانة توقفنا عن إصدارها رغبة أو رهبة رغبة لإرضاء السادة في واشنطن وتل أبيب أو رهبة من عقاب لا ندري بمن يحل غدا ولم يتوقف أمر التخاذل والهوان عند هذا الحد فقد ظهر جيل جديد من الشباب على استعداد للتعاون مع أعداء الأمة من أجل طموح شخصي وما حدث ويحدث في فلسطين في الفترة الأخيرة خير دليل على ذلك لقد كثر في عالمنا العربي الراقصون مع الشيطان والذين لديهم الاستعداد للتضحية بكل غال ورخيص لتحقيق مطامع شخصية وشهوات مستعرة كالجحيم لا يشبعها شيء ولا يردعها رادع.
هذا في الوقت التي تنهال فيه التقارير عن فضائح تجسس على أعلى مستوى في الإدارة الأمريكية ووزارة الدفاع البنتاجون لحساب دولة الكيان الصهيوني وتلمح التقارير إلى تورط شخصيات كبيرة في هذا المجال وأن الموضوع لابد وأن يفبرك ويتم تقديم شخصية متوسطة ككبش فداء على عجل يتحمل المسئولية حتى لا تسقط تلك الرؤوس وتهدد الإدارة الأمريكية بكاملها في وقت الانتخابات الأمريكية فيها في ذروتها ولم يتوقف الأمر على إرهابنا ومنعنا حتى من الكلام ولكن المصيبة الأعظم في ظهور جيل جديد من الشباب من أبنائنا على استعداد للتعاون مع أعداء الأمة من أجل طموح شخصي وما حدث ويحدث في فلسطين في الفترة الأخيرة خير دليل على ذلك كما أن ماتغص به الفضائيات من محللين ومتثاقفين يبرمجون أنفسهم حسب الهوى الأمريكي باعتبار أننا نعيش الحقبة الأمريكية بامتياز والباب مفتوح على مصرعيه لكل من أراد أن يساوم على تاريخه وحضارته وثوابته وهو ما تفيض به كل يوم عشرات المقالات من كتاب يسيل لعابهم للدرهم والدينار ممن راهنوا على الفرس الأمريكي باعتباره الفائز الوحيد في السباق في وقت خلت فيه الحلبة من كل الفرسان وتحولت الخيول العربية الأصيلة لمجموعة من الخصيان.
وحقيقة الأمر أن المقاومة جزء أصيل من ثقافة هذه الأمة وتراثها السياسي والاجتماعي والفكري وذلك لأن الإسلام كدين كان حركة مقاومة للفساد والانحراف الذي ظهر في الجزيرة العربية وغيرها ومن هنا فليس من قبيل المبالغة في شيء القول بان فكر المقاومة يعد جزءا أصيلا في جميع مجالات الفكر الإسلامي والمقاومة يجب أن تبدأ من الفكر ثم تتحول إلى واقع عن طريق الممارسة وإذا سأل سائل ولماذا غاب هذا الفكر عن واقع أمتنا في الفترة الأخيرة كسلوك جماهيري عام فإن الإجابة عن ذلك تعود لحالة الفصام النكد التي تحياها شعوبنا في التناقض بين القول والعمل فشعوبنا تعرف الفكر الإسلامي نظريا ويتجادلون حوله في كل شيء حتى في التفاصيل الصغيرة مثل إطالة الجلباب أو تقصيره وهل يعد ذلك من أصول الدين أو فروعه لكن الممارسة العملية للدين كتضحية وبذل وعطاء شيء آخر ينقرض من سلوك معظم الناس إلا من رحم ربي ولهذا انحسرت قيم العدل والحرية نتيجة لهذا الفصل بين القول والفعل بين الأفكار النظرية والتطبيق العملي وربما يتحمل المثقفون في بلادنا وزر ذلك لأنهم آثروا السلامة وعقدوا حلفا مع السلطة تنازلوا بمقتضاها عن دورهم في قيادة الجماهير كنخب وقيادات في مقابل الحفاظ على لقمة العيش وضمان أمنهم وسلامتهم فهو حلف غير معلن وغير مكتوب لكنه واضح للعيان على المثقف أن يبرر سلوك السلطة ويقيل عثراتها في مقابل ضمان أمنه وعيشه وبمعنى آخر تنازل كل طرف للآخر عن جزء من مهمته لكي تنسجم المعادلة وتضيع الجماهير في ظل هذا التواطؤ المتعمد بين الطرفين.
وإذا استعرضنا تاريخ أمتنا سنجد فئة قليلة من المفكرين والعلماء هي التي تصدت لتجاوزات السلطة ولم تدخل معها في أحلاف من أجل منفعة شخصية بل ضحى بعضهم بحياته من أجل الدفاع عن الحق والعدل فعمرو بن عبيد أحد رواد المعتزلة الأوائل رفض ما عرضه عليه الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور حتى لا يكون للحاكم منة عليه وكان يطلب من الخليفة عدم الإرسال إليه لأنه لا يحب لقاءه والإمام أحمد بن حنبل تعرض للتعذيب والسجن ولم يستجب لتهديد الخليفة فيما عرف بمحنة خلق القرآن والعز بن عبد السلام الذي أفتى بضرورة بيع المماليك وبعضهم كانوا أمراء باعتبارهم عبيد مملوكين لبيت المال.
وفي العصر الحديث عاش جمال الدين الأفغاني متنقلا من منفى إلى منفى لأنه كان يؤمن بحق الشعوب في النهضة والحرية فلم يستقر ببلد ولا عرف طعم الراحة لأنه كان من أرباب الهمم العالية كان يسعى لحق الشعوب في الأمن ولاستقرار في ظل حياة كريمة فهانت عليه راحته وبذل في سبيل مقاومة الطغاة حياته هينة غير نادم على شيء وأخذ على عاتقه مقاومة الظلم والاستبداد والتخلف كان مقاوما ثائرا بث من روحه قوة في جميع بلاد المشرق فكان بحق باعث نهضة الشرق كما كان تلميذه وصديقه الإمام محمد عبده رائد الإصلاح في المجتمع المصري الحديث حربا على التخلف والأمية والركود وقاد بنفسه حركة النهضة في جميع مجالات الحياة السياسة والفكرية والاجتماعية في المجتمع المصري كرمز من رموز الفكر يناط بهم قيادة الجماهير نحو مقاومة الواقع الآسن نحو التغيير المنشود الذي يحقق حلم الجماهير وأشواقهم في الخلاص من الذل والظلم والاستبداد.
كان الأفغاني كرائد من رواد فكر المقاومة ورموزها وكباعث لنهضة الشرق يتنقل من بلد إلى بلد وكان حربا على الظلم والاستبداد وقد نفث من روحه في الأمة فخرج جيل جديد يحمل روحه وفكره وقاد بلاده في مجالات كثيرة اقتصادية وسياسية واجتماعية كما قاد تلميذه الإمام محمد عبده حركة اجتماعية نهضت بالمجتمع المصري في القرن العشرين رغم أنه اختلف مع شيخه وأستاذه الأفغاني في طريق المقاومة فالأفغاني كان يرى أن الحل السياسي هو الأسرع والأسهل لحل مشكلة العالم العربي والإسلامي ويرى أن الانقلابات والاغتيالات تحقق ذلك لكن محمد عبده كان يرى لابد من القضاء على ثالوث الفقر والجهل والمرض ولابد من مقاومة ذلك حتى تعرف الشعوب حقوقها وتبدأ حركة الإصلاح الحقيقية بعد ذلك لأن من لا يعرف حقه كيف يقاوم من أجله.
فقه المقاومة هو الحق الشرعي للشعوب في الدفاع عن نفسها ضد هجمات مغول العصر وتتارها الذين لا يردعهم رادع من وخز ضمير ولا خلق شريف ولا سند شرعي ولا قانوني ولا يعبأون للدماء المهدرة ولا صرخات الأطفال ولا لهدم المنازل فوق رؤوس أصحابها ولا ملاحقة الشرفاء بالطائرات والدبابات والصورايخ وجميع أسلحة الدمار الشامل المحرمة دوليا والتي يجربونها فينا وكأننا حيوانات تجارب.
فقه المقاومة هو وسيلتنا الوحيدة للبقاء في عالم أصبحت القوة الغاشمة صاحبة الكلمة العليا فيه بعيدا عن القانون والمؤسسات الدولية التي أصبحت من مخلفات الماضي لأن الكلمة العليا في عالم السياسة الآن أصبحت لجماعات السلاح والشركات العابرة للقارات وليس للمؤسسات الدولية كمجلس الأمن والأمم المتحدة وهو وسيلتنا الوحيدة لاقتناص حقوقنا من فم الحيات الرقطاء التي تبثنا سمومها بكميات كفيلة بتدميرنا وإفنائنا عن أخرنا وتحويلنا كجزء في متحف الحيوانات المنقرضة كالديناصورات أو بالإجهاز علينا وتحويلنا لتاريخ ماض كالهنود الحمر في أمريكا أو في أحسن الأحوال كعبيد في مزارع السادة الكبار أو مصانعهم في الشمال الأمريكي أو الغرب الأوربي.
فقه المقاومة يحاول بعض الخبثاء والأغبياء تدنيسه إما بالمغالطة عن طريق المساواة بينه وبين قتل الأبرياء تحت مسمى الإرهاب وهو ما تقوم به عصابات القتل المحترفة بالأجر بلطجة وفسادا أو غباء من قبل بعض الحمقى من شبابنا الذين يعانون القهر ففهموا الإسلام خطأ ويقومون بعمليات تدمير ضد بلادهم أو بعمليات خطف لأجانب أبرياء دون تفرقة بين العميل وبين صاحب الرسالة الذي جاء ليفضح غش ومكر قوات الاحتلال كما حدث مع خطف الصحفيين الفرنسيين في العراق من قبل مجموعة من الحمقى يطلقون على أنفسهم جيش أنصار الإسلام لكن لهذا ولا ذاك يمكن أن يطمس الوجه الحقيقي للمقاومة التي يجب أن نعلمها لأجيالنا على أنها وسيلتنا الوحيدة للبقاء في عالم شرس نواجه فيه شبح الانقراض:
كاتب مصري/جامعة الإمارات
[email protected]
التعليقات