دخلت أزور صديقي فإذا به يصلي فانتحيت جانباً حتى انتهى فدعوت لتقبل صلاته وفاجأته بتحدٍ...
ـ أنتم معشر المؤمنين تتهربون من مواجهة مسائل كثيرة منها مثلاً الإجابة على السؤال.. هل لفظ " الله " هو إسم خاص أم إسم عام وهل هو إسم مادي أم إسم معنوي؟
ـ أنه إسم خاص بالله وحده لا شريك له فيه، أما أن يكون مادياً أو معنوياً فالقياسات اللغوية الموضوعة لا تصلح للقياس في هذه الحالة.
ـ العرب المسلمون يفرضون على المسلمين من غير العرب ألاّ يذكروا إسم الجلالة بغير إسم " الله " فيكون بذلك إسماً خاصاً، إسماً علماً، وليس إسماً عاماً. لكن العرب عرفوا هذا الإسم واستخدموه قبل الإسلام مما يعني بالضرورة أن يكون الإسم إسماً عاماً خاصة وأن الإنجليز يذكرون ألله باسم (God) والفرنسيون باسم (Dieu) والروس باسم (Pog) واليهود باسم " إيل "، فهل يعنون جميعاً ذات الله الذي بشّر به إبراهيم، خليل الله؟
ـ هو كذلك.
ـ لو كان الأمر كذلك لما استخدمت كل أمة لفظها الخاص بها للإشارة لذات واحدة لها إسم خاص بها دون سواها، أي أن اسمها إسم علم محظور على غيرها. المسلمون العرب وحدهم تنبهوا لهذا الخلل الفاضح لذلك طالبوا المسلمين من غير العرب ألاّ يشيروا إلى الذات الإلهية بغير لفظ " الله "؛ وفي هذا إشارة ضمنية إلى أن إله المسلمين غيره عن آلهة الأمم الأخرى.
ـ حسناً ما فعلوا.
ـ أبداً، فإبراهيم السومري، وهو أبو الإسلام كما تعرف، ـ الذي أنطقوه الآرامية لأن كتبة التوراة لم يعرفوا لغة سومر ـ لم يتعرف على الله ولا على أي من هؤلاء الآلهـة الآخرين. فهـو كما تذكر التوراة نادى أولاً إلهه " يهوه " (YHWH) ثم الإلـه " يهوشوا " (Yahu’shua) ومرة ثالثة الإلـه " إيلوهيم " (Elohim) ـ ولاحظ أن هذا الأخير جاء بصيغة الجمع ـ وهؤلاء الآلهة الثلاثة هم من آلهة شعوب بلاد ما بين النهرين حيث عاش كتبة التوراة، من يصفهم اليهود بالأنبياء، في الألف الثالث بعد إبراهيم عبيداً ردحاً طويلاً من الزمن قبل أن يحررهم ملك الفرس كورش، الذي أصدر أول وثيقة في التاريخ تؤكد حقوق الأمم، ويعيد توطينهم في فلسطين عام 537 قبل الميلاد.
ـ هذا ما تدعيه توراة اليهود المحرّفة.
ـ ولماذا تُحرّف؟ وهل هي من عند إلله؟
ـ طبعاً هي من عند إلله؛ حرّفها اليهود لأنها تشير إلى رسالة محمد.
ـ عليك أن تقرأ التوراة قبل أن تقول هذا. التوراة كتاب تاريخ متقطع للقبائل العبرية كتبه " أنبياؤها " المزعومون خلال العقدين السابقين لبداية القرن السادس قبل الميلاد، كتبوها بهدف تأكيد حقهم " الإلهي " في فلسطين وخشية أن يتعرضوا لسبيٍ آخر غير السبي البابلي الذي أذاقهم سوء عذاب العبودية لأكثر من خمسين عاماً. هم كتبوها فلماذا يحرفونها ؟! أما الزعم بإسقاط رسالة محمد من التوراة فهذا مجرد إدعاء لا يستحق الذكر حيث كان الأجدى لإولئك الكتبة أن يسقطوا منها رسالة المسيح وهم الذين ناصبوه العداء وقتلوه، وهو الذي نقض شريعتهم، كما يدعي بولص، لكنهم لم يفعلوا.
لكن لنعد إلى إسم " إلله " في لغات الأمم المختلفة. فأنت لو درست علوم اللغة (Linguistics) وعلم المعاني (Semantics) لتحققت من أمر هام وهو أن مفردات أية لغة في العالم لا تتطابق مطلقاً مع نظيراتها في أية لغة أخرى وذلك بفعل التباين في تطور الحياة الإجتماعية لكل أمة وأخرى. حتى الأسماء المادية المفترض تطابقها الكامل هي ليست كذلك. خذ الخبز الفرنسي مثلاً الذي يعتبر النظير الكامل للخبز السوري لكنهما في الحقيقة مختلفان كل الإختلاف إن من حيث المحتويات طالما أن القمح الفرنسي مختلف السلالة والتركيبة العضوية وإن من حيث الشكل وحتى من حيث الإستعمال طالما أن الفرنسيين لا يعتمدون الخبز غذاء رئيسياً بالقدر الذي يعتمده السوريون، ومثالاً آخر أكثر صلابة وتحديداً هو " الصخرة " وهي النظير العربي الوحيد لكلمة (Rock) في الإنجليزية فالصخرة العربية ضخمة وثابتة في الأرض لكن نظيرتها الإنجليزية لا تحمل هذين المعنيين.
ـ وماذا تستنج من كل هذا؟ يتم التعبير عن الله بألفاظ مختلفة وتقام عباداته بشعائر متباينة إلاّ أن هذا لا ينفي وجود الله خالق السموات والأرض كما الحياة.
ـ أنا لم أقل أن الله غير موجود، إنه موجود فعلاً ودلالة ذلك على الأقل أني أجادلك الآن فيه، بل ثمة مئات الملايين من البشر يصلون إليه ويقيمون الشعائر الأخاذة في عبادته. إلاّ أن وجوده معنوي فقط وليس مادياً، معنوي بمعنى أنه لم يخلق شيئاً ولم ولن يفعل شيئاً. موجود في أذهان الناس وفي تقاليدهم ليس أكثر. معنى الله كمعنى " الحب " أو " النظافة " أو " الشجاعة " وغيرها من الأسماء المعنوية. فما كنا لنعرف الحب لولا المحبين ولا النظافة لولا الشخص النظيف أو البيت النظيف ولا الشجاعة إلاّ بالرجل الشجاع. وهكذا يعرف الله من خلال المؤمنين به فقط. تصوّر أن جميع بني البشر أنكروا الله وانتهجوا منهج الإلحاد، فهل عندئذٍ سيكون أي وجود لله ؟ ينبت الدين في أرض المجتمع لذلك نراه يتفرع وتتباين فروعه بتباين المجتمعات. الإسلام الذي لا يقبل القسمة، ينبت في إيران شيعياً وفي سورية سنيّاً وفي اليمن أزيدياً وفي عمان أباظياً؛ ومثله تتفرع كل من المسيحية واليهودية. ثم لا تنسَ أن الإسلام والمسيحية هما أصلاً تفريعان لليهودية.
ـ ها أنت أنسيتني القهوة. أنت تحب القهوة بلا سكر !.. كما تحب الحياة بلا الله.
ـ عالمة الثيولوجيا الأمريكية كارن آرمسترونج (Karen Armstrong) تقول قولك.
ـ ماذا تقول ؟
ـ تقول أن الله هو سكر الحياة علماً بأنها لا تؤمن بإله اليهود ولا النصارى ولا المسلمين مع أنها تفضل الإسلام على غيره من الديانات.
ـ إذاً ما عساه يكون سكرها، لعله سكّرين وليس سكراً.
ـ هو فعلاً كذلك. الطفلة الألمعية كارن رغبت أن تكرس كل حياتها في خدمة الله الكاثوليكي في الدير. إلاّ أن الكهنة هناك لم يستطيعوا إطفاء عطشها لمعرفة الله فتركتهم بعد طول مقام لتبحث عن الله في الجامعات وفي المعاهد المتخصصة. وبعد دراسة محيطية وبحث شاق إستمرا زهاء ثلاثين عاماً خرجت بكتابها القيّم عن تاريخ الله (A History Of God) ـ لاحظ دقتها العلمية حيث لم تستخدم أداة التعريف بل أداة النكرة.
ـ وما خلصت إليه ؟
ـ خلصت إلى الإعتقاد بأن الله هو سكر الحياة. فهي تحبذ ألاّ يترك الإنسان عبادة الله إذ في ذلك كما ترى صلاحه وراحته النفسية.
ـ حسناً رأت.
ـ أنا لا أوافقها الرأي بالطبع وذلك لأنها لم تستطع، رغم ذكائها الحاد، أن تشلح جلدها. إنها بورجوازية النشأة. ليس لدي أدنى شك في أن الإنسان لا يمكن أن يحقق التقدم المتسارع في رحلة الأنسنة دون أن يتحرر تماماً من كافة القيود المادية والروحية. لكن كان كافياً من كارن أنها تتبعت تاريخ الله منذ البدء فلم ترى فرقاً بين الأديان السماوية والأديان الأرضية، ومنها عبادة الأصنام، ففي هذه وتلك إيمان بقوة خارقة كلية القدرة (Almighty) تستوطن السماء وبذلك ألغت الإدعاء باختلاف الرسالات السماوية عن تلك الأرضية. كما أنها بالتالي أكدت أن لكل إنسان في هذه الحياة إله خاص به وحده دون سواه، أي أن الله يتحقق فقط عبر الإنسان واستشهدت بالمتصوف العربي الشهير " إبن العربي" الذي قال.. " أنا هو الله “.