ان قضية الظلم بصورة عامة تختلف عن قضية الشعور بالظلم. فالظلم،الذي هو التجاوز على حقوق الغير وسلبها كليا او جزئيا، هو وجود موضوعي مستقل عن الوعي البشري (بمعنى ان شروط تحقق وجوده مستقلة عن قضية وعينا او عدم وعينا بهذا الوجود )، اما الشعور بالظلم فهو وعي الأنسان بالوجود الموضوعي للظلم، وهذا الوعي لايتحقق بصورة الية ولمجرد تولد الظلم، وأنما يرتبط تحققه بشروط معرفية تأريخية.ففي مرحلة العبودية حيث ينقسم المجتمع الى طبقتين رئيسيتين، طبقة الأسياد وطبقة العبيد، كان ظلم الأسياد للعبيد في مراحله الأولى اشد قسوة من مراحله المتاخرة غير ان وعي العبيد بهذا الظلم كان معدوما او ضعيفا في مراحل العبودية الأولى ثم اصبح قويا في مراحل متأخرة مما قاد الى ثورات العبيد المعروفة تاريخيا كثورة سبارتكوس. في مرحلة العبودية لم يشعر السادة انهم يتجاوزون على حقوق العبيد لأن المفاهيم الحقوقية السائدة انذاك لاتعطي للعبيد حقوقا اكثر مما تعطي للحيوانات او ربما اقل، كما ان العبيد انفسهم رغم معاناتهم القاسية لايعون حقيقة ان الأسياد قد تجاوزوا على (حقوقهم الأنسانية) لأنهم انفسهم يؤمنون بنفس المفاهيم الحقوقية التي يؤمن بها الأسياد، فالأشتراك المعرفي (حول المفاهيم الحقوقية للأسياد) بين الأسياد والعبيد هو شرط ضروري لأستمرار مرحلة العبودية، وعندما ظهر فهم معرفي اخريعطي للعبيد حقوق انسانية معينة بدأت بوادر الثورة،او بمعنى اخر، لقد غرست بذرة فناء مرحلة العبودية عندما ظهر اختلاف معرفي(لاسباب معرفية تأريخية ) بين الطرفين ( الأسياد والعبيد) حول مفهوم الحقوق، فعندما وعى العبيد بالظلم المحيط بهم، كان،هذا الوعي، الخطوة الأولى على طريق تحررهم.
عبودية المرأة
منذ ان اخلت المرأة تأريخيا دورها القيادي للرجل وهي تعيش بمنزلة انسانية ادنى من منزلة الرجل، ورغم انها شنت نضالا مريرا وطويلا ومتصاعدا من اجل استعادة حقوقها الأنسانية المساوية للرجل، ورغم حصولها على مكتسبات قانونية كبيرة ساوتها قانونيا بالرجل في الكثير من بلدان العالم الأ انها لاتزال امام رحلة نضالية طويلة للقضاء على الصبغة الذكورية للمجتمعات التي تعاملها في احسن الأحوال( كأنسان) انثى لاكأنسان فقط، بما يترتب على هكذا نظرة من تمييز ذكوري تسلطي. وكانت الخطوة الأولى في طريق استعادة حقوقها الأنسانية كاملة هي رفضها للمفاهيم الذكورية التي تضعها حقوقيا وانسانيا في مرتبة ادنى من مرتبة الرجل، ولم تتحقق هذه الخطوة الا بعد ان خرجت المرأة،مع بزوغ النظام الرأسمالي، لميدان العمل لثبتت فيه قدرة لاتقل عن قدرة الرجل، ولو ظلت حبيسة دارها لما حققت شيئا مما حققته لحد الأن.
وفي ما يخص المرأة العراقية فقد عانت معاناة قاسية على يد الرجل الذي كان يضربها ويبيعها ويحل مشاكله على حسابها وقد قدم المؤرخ حنا بطاطو وصفا دقيقا لأوضاع المرأة الريفية بعد تاسيس الدولة العراقية حيث قال:
(( اما نصيب المرأة الفلاحة فكان اصعب بكثير من نصيب الرجل الفلاح، فهي لم تكن تقاسمه وتشاطره بؤسه وقلقه فحسب، بل كان عليها ان تتحمّل ايضا تحكمه واستبداده، وفي بعض المناطق لم تكن هذه المراة بافضل من العبد او قطعة الأثاث.ولم يكن من النادر ان تحل النزاعات العشائرية على حسابها، اذ تدفع هي (كفصل)، اي ثمنا لتسوية نزاع اراق دما او كان سيريقه. وفي العام 1929 تم تقديم المرأة في لواء العمارة واستنادا للمفتش الأداري لهذا اللواء كمكافأة (فصل ) في 62 قضية عشائرية وكان مجموع الثمن 125 امرأة، وفي بعض الحالات كان يتم تقديم المرأة على اقساط، بعضهن فورا والباقي مقسط الى أجيال، وفي بعض الحالات كانت المرأة الأخيرة لن تدفع الا بعد مرور تسع سنوات من حينه وكانت اللواتي خصصن للدفعة الأخيرة الى الجهة المتضررة من الفتيات الصغيرات اللواتي لم يبلغن سن الرشد بعد وكن، والنساء الأخريات المعطيات كفصل او ( الفصليات) حسب الاسم الذي كان معروفا لهن، يعشن حياة صعبة بصورة خاصة وكان ازواجهن في العادة يقمعوهن ويعاملوهن بازدراء. والتخلص من المرأة عن طريق الفصل لم يكن النظام الوحيد الذي تتعرض له المرأة الفلاحة. واحيانا ومع احتمال الحصول على حظوة ما كان والد الفتاة يقدمها هدية لواحد او اخر من اعيان البلدة وكان هذا يسمى ( زواج الهبة). اضافة الى هذا كانت المرأة (تنذر) وهي مازالت طفلة لشخصية ما او لقريب ما ( وقفا) عليه فيتم فيما بعد( زواج الوقف) وليس هذا كله الا بعضا من حالات اكثر سطوعا من القهر الأجتماعي للمرأة الفلاحة)) العراق - حنا بطاطو - الكتاب الأول - ص175
وكان احتقار الرجل للمرأة يصل الى حد اضافة عبارة ( تكرم عن طاريها ) عند ذكرالمرأة اثناء الحديث، ولاشك ان وضع المرأة في العوائل الغنية وفي المدينة كان افضل من وضع المرأة الفقيرة الا ان وضع المرأة العراقية كان مزريا بصورة عامة، ومع هذالم تشعر النساء بأي انتهاك (لحقوقهن) لعدم وعيهن بهذه (الحقوق) فكن راضيات بوضعهن(نصيبهن) رغم الألم والعذاب وكأن هذا العذاب هو قدر لافرار منه،وفي حالات كثيرة تقوم المراة، رغم عدم قبولها الداخلي، بدور ( الخطابة ) لزوجها حيث كان تعدد الزوجات امرا لايمنعه سوى قلة مافي يد الرجل.ولا ادل على استسلام المرأة العراقية لظروف قهرها من عبارة ( ضرب الحبيب كالزبيب) التي ترددها بعض النسوة سابقا والتي تجعل من ضرب المرأة امرا مستحبا!!
ان ظلم المرأة كان في ذروته القصوى غير ان شعور المرأة بهذا الظلم كان في حدوده الدنيا،وكان قبولها بهذا الظلم تكيفه لها ذرائع العادات والدين.
ان قبول المرأة بوضعها اللاانساني واعتباره امرا طبيعيا يعود اساسا الى التقاليد الأجتماعية المتخلفة( التي هي مزيج من قيم عشائرية ودينية) والتي تكرس في ذهنية المرأة قبول الأنتقاص من انسانيتها وبالتالي القبول بالظلم الواقع عليها باعتباره امرا طبيعيا مع الحرص على عدم تسميته ظلما. فحتى عندما تعلن المرأة رفضها لاهانات زوجها لها التي تصل دائما الى حد الضرب المبرح فأن ذويها يلومونها ويوبخونها على ترك بيت الزوجية وغالبا ماتعود الى بيت الزوجية بدون حصولها على اي اعتذار من زوجها يلاحقها قول ذويها ( ماعدنه بنت تتزعّل). ان اقصى ما كانت تحلم به المراة هو معاملة سلمية من زوجها ولم يكن ممكنا من الناحية الأجتماعية،وقت ذاك، الحديث عن مقارنة الرجل بالمرأة فضلا عن المطالبة بالمساواة بينهما لأن ( الرجّال رجّال والمره مره).وهذا المفهوم تشترك بترويجه النساء مع الرجال، اي ان المرأة تشارك الرجل بتتويج ذكوريته ديكتاتورا عليها.
غير انه بعد ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958 حدث تحول كبير بوضع المرأة العراقية من الناحية القانونية حيث صدر القانون رقم 188 لسنة 1959 الذي سجل للمرأة لأول مرة في تأريخ العراق حقوقا ماكانت تحلم او تفكر بها قبل هذا التاريخ، كما ان المرأة زجت نفسها بنشاط اجتماعي وسياسي ونقابي كبير ادى الى اشتراك الفتيات العراقيات في (المقاومة الشعبية) وانطلقت دعوات النساء الى تحدي بعض القيم والأعراف الأجتماعية المتخلفة فهتفت بعض النساء بشعار (ماكو مهر بس هلشهر) الذي اصبح مجالا لتشهير القوى المحافظة التي لاتستسيغ القبول باعطاء المرأة حقوقا ولو قليلة فكيف بالحديث عن مساواتها. غير ان وضع المرأة الأجتماعي لم يتغير رغم صدور قانون الأحوال المدنية رقم 188 الا قليلا وظلت تخضع الى نفس القوانين الأجتماعية التي خضعت لها جدتها، وفي احيان كثيرة التف الرجال على القانون 188 وبموافقة المرأة ( موافقة شكلية مضطرة لها او موافقة حقيقية) وتزوجوا بأمرأة اخرى خلافا لنصوص القانون.ويمكن القول ان مشاركة المرأة للرجل في نظرته الدونية للمرأة حدّت الى حد كبير من الأثار الأجتماعية الأيجابية لهذا القانون.ان اعداد كبيرة من نساء العراق والى الأن لايعين درجة الظلم الواقع عليهن ويعتبرنه امرا طبيعيا يتماشى مع ( الشريعة الأسلامية) ولا ادل على ذلك من خروج مظاهرة نسوية مؤيدة للقانون 137 الذي اصدره مجلس الحكم المنحل بدفع من الأحزاب الأسلاموية والذي الغى القانون 188 لسنة 1959 وهذا يشير الى درجة (تطور) وعي بعض النساء المؤسف الذي يذكرنا ببعض العبيد الذين اصروا على البقاء عبيدا في خدمة اسيادهم بعد صدور قرار الغاء العبيد في احد الدول الأسلامية. فاعداد كبيرة من نساء العراق لايشعرن بان عدم مساواتهن بالرجل هو ظلم بحقهن بل ان بعضهن يعترضن على من يطرح هذه المساواة، وهذا يستوجب ليس فقط اصدار قوانين لصالح المرأة ليلكز (خمول) وعيها ويحفز مشاعر الحرية لديها،بل يستوجب ايضا شن حملة توعية واسعة بين صفوف النساء والرجال لأثارة الوعي الحضاري في المجتمع. غير اننا من الناحية العلمية علينا ان لانراهن على دور التوعية ( الوعظ) في تحفيز النساء العراقيات على المطالبة بالمساواة مع الرجل لأن وعي المرأة لذاتها لابد ان يتحقق بذاتها عن طريق عنصر الممارسة الحضارية. فتخلف المجتمع العراقي الذي احد اسبابه الفقر والحرمان والجهل لابد ان ينعكس على تخلف وعي المرأة والرجل على حد سواء، وان تطور نظرة المرأة لحقوقها يرتبط بدرجة تطور المجتمع، ولايمكن البحث عن امرأة تختلف عن نظرة جدتها لنفسها اذا كانت ظروف المرأة الحالية لاتختلف اختلافا جذريا عن ظروف جدتها. لقد قالوا ان المرأة هي بارومتر المجتمع، فمتى وجدت امرأة متطورة في وعيها لذاتها ولحقوقها فاعرف ان مجتمعها قد قطع شوطا كبيرا من التطور والعكس بالعكس، ويمكن القول ان الأنتخابات القادمة سترشدنا الى درجة وعي المرأة العراقية لحقوقها، فاذا انتخبت من يدعون الى مساواتها مسواة كاملة بالرجل فهذا يعني ان المرأة العراقية قد شبّت عن طوق التخلف وان المجتمع العراقي بخير رغم مظاهر التقهقر، اما اذا انتخبت من يمسكون قيودها بيدهم منتظرين اللحظة المناسبة لتكبيلها وارجاعها (لبيت الطاعة ) فهذا يعني انها لم يزل امامها شوط كبير عليها ان تقطعه كي تعي ذاتها وحقوقها وانسانيتها،ويعني ايضا ان المجتمع العراقي قد تقهقر فعلا الى الوراء بشكل محزن الى ماقبل الرابع عشر من تموز عام 1958
التعليقات