إنّ موضوع إجتثاث البعث أصبح اكثر من مهم ولا اعتقدُ أنّ التأخير في ذلك سيكون في مصلحة العراق الجديد، الّذي خرج تواً من أتون جحيم هذه المنظمة الأجرامية، حيث تمكنت من ترك بصماتها عميقاً في جسد المجتمع العراقي، ممزقة أياه عِبر المرحلة التاريخية الّتي إغتصبتْ فيها السلطة. كيف لا وهي الّتي تحكّمت في رقاب العباد قرابة عقود اربع من مجموع عقود ثمان هي عمر الدولة العراقية الحديثة. لذلك لا يمكنْ تصوّر عراقٍ معافٍ دون أنْ يتمّ إستئصال هذا الداء الخبيث لكي يتمكّنْ الجسد مِنْ إستعادة عافيته بصورة تدريجية.
هناك العديد من المستوجبات الّتي تذهب إلى توكيد هذا الأجتثاث. وتتوزع هذه المستوجبات على المستويات الفكرية، السياسية، الثقافية، الأجتماعية والأخلاقية، لأنّ هذه المنظمة الأجرامية بفكرها وسياستها وممارساتها اللاإنسانية قدْ أساءتْ إلى الفكر والسياسة وكل بنية المجتمع العراقي الأخلاقية منها والثقافية والأبداعية وغيرها.
فإذا أخذنا الجانب الفكري لهذه المنظمة فإننا نراه خليطاً من أفكار مشوشة لا تستند إلى ايّ عمقٍ تاريخي او إجتماعي، فهي من جهة نزعة عروبية شوفينية تغازل طرفاً من الأطراف، ومن الجهة الأخرى فانّ (عروبتها) هذه كانتْ ولا زالتْ تنحصر في مفهوم "القوم" اكثر من السعي إلى الدولة القومية الواحدة لتغازل بذلك الطرف الأخر هذه المرّة. هذا الشكل من الفكر الشوفيني الأقرب إلى القبلية والعشائرية والكاره لبقية الملل والنحل هو الّذي كان وراء كلّ الفواجع والنكبات في المجتمع العراقي والّذي كانتْ باكورته مذبحة الأشوريين في اواسط الثلاثينات من القرن الماضي قبل التأسيس الرسمي لهذه المنظمة الأجرامية وأستمرّتْ بعد قيامها لتعمّق هذا النهج الشوفيني والّذي تجلّى في العداء المستميت للأكراد والشيعة وبقية الأقليات والطوائف الأخرى، حيث سعى هذا الفكر خلال عملية تعداد السكان عام 1977 إلى حد إلغاء الهوية الأثنية- القومية للأشوريين والكلدان والسريان وإجبارهم على أنْ يستعربوا، ولم يكتف بذلك فقد عمد إلى إلغاء أسماء الأندية الّتي تمثّل الأقليات القومية كما حصل للأندية الأشورية والأرمنية، فقد تمّ تغيير إسم واحد من الأندية الأشورية العريقة وهو "النادى الأثوري الرياضى" الّذي تأسس عام 1955 وأصبح إسمه الجديد نادي "17 تموز" كما تمّ تغيير إسم نادي هومنتمن الأرمني إلى اسم أخر لا يحضرني الان. وإمعاناً في العداء للأقليات القومية ومحاولة محو وجودها ومسخ نشاطها الثقافي والأجتماعي فقد طلب البعث من نادٍ اشوري اخر وهو"النادي التقافي الأثوري" عدم الأقتصار في قبول الأعضاء على الأشوريين وإنّما جعلها مفتوحة للكل! وكان يقصد بهذا "الكل" فتح المجال امام رجال امنه وجواسيسه للأنخراط في صفوف النادي بعد أنْ عجز اؤلئك الأشوريون الّذين إرتضوا للعمل معه نتيجة العزلة الّتي فرضها المجتمع الأشوري عليهم جراء مواقفهم المخزية تجاه ابناء جلدتهم. يقيناً إنّ ابناء القوميات الأخرى الشرفاء عرباً كانوا ام كرداً ام صابئة ام غيرهم لكانوا ابوا على انفسهم ذلك، تقديراً منهم وتفهماً لخصوصية مثل هكذا أندية. ثمّ إنّ "النادي التقافي الأثوري" كانتْ ابوابه مشرّعة امام كل الخيرين من ابناء العراق ويشهد في ذلك مهرجان الشعري الأشوري السنوي الّذي كان يقيمه النادي، حيث امسى بمثابة تظاهرة ثقافية للطيف الثقافي العراقي بفسيفسائه الجميل، إذْ كان يدعى إلى هذا المهرجان عمالقة الشعر العراقي مثل الجواهري والبياتي وبلند الحيدري محمد صالح بحر العلوم إضافة إلى الأسماء اللامعة في الشعر الشعبي العراقي مثل عريان السيد خلف وكاظم اسماعيل الكاطع وكريم العراقي وغيرهم، ولا أبالغ إنّ قُلتُ إنّ العديد من الشعراء المعروفين كانوا يتصلون بالنادي عارضين عليه رغبتهم المشاركة في مهرجانه السنوي. فهل هناك اكبر من هذه الشهادة لرجال الأبداع والفكر في العراق تؤكّد عراقية هذا النادي ثقافة وإنتماء رغم خصوصيته القومية الّتي يمتلك الحق في التعبير عنها بكل حرية، لكنّ قطعان البعث كانت تخاف من كل ذلك. ومن المصادر الفكرية الأخرى للبعث هو الفكر العروبي الّذي مثله "نادي المثنّى" الّذي تأسس في أواسط الثلاثينات من القرن الماضي، هذا الفكر المستند إلى الشعور اكثر من إستناده على اسس علمية. كانتْ غاية مثل هذا الفكر "تقوية الشعور بالرجولة العربية". يا لسخرية وبؤس هكذا فكر! هلْ العروبة تحتاج إلى شعور يعيد لها فحولتها المفقودة أم إنّها بحاجة إلى الوعي بذاتها وبحركة هذه الذات ضمن السيرورة التاريخية لحركة المجتمعات وتطورها؟! ولا نستغربْ أنْ نلاحظ نتائج هذا الفكر المريض تتجلّى في ثمانينات أو تسعينات القرن الماضي حينما تمّ تغيير أسم الدولة العراقية مِنْ "الجمهورية العراقية" إلى "جمهورية العراق" إلاّ توكيداً لذلك الفكر العاطفي الساعي لأستعادة (فحولة) الأمة العربية وذلك بالعودة إلى الأوراق المهترئة لنادي المثنّىالقائلة ب"تعزيز الشعور بالرجولة العربية" وكأنّ المشكلة تكمنُ في ذلك، أي في تحويل العراق من حالة الأنثى إلى حالة الذكر!. أليس هذا في ذاته تاكيد لقيم بالية تنادي بالمكانة المتميّزة للذكر في المجتمع القائم أصلاً على الذكورية الفحولية الّتي تحتقر المرأة وتعتبرها أداة للمتعة وبذلك يتم وضعها خارج العملية التاريخية بكاملها. مثل هكذا فكر يخاطب العواطف والمشاعر الّتي تثير الغرائز بشكل عدواني. لقد حاول البعث وبشكل ديماغوغي وضع عقل الأنسان في أوعية "القيح الصديد" واخترع اجهزة قمعية لا تُعَدْ ولا تُحصى لكي يبقى عقل الأنسان يتلف في هذا القيح الصديد.
علينا انْ لا ننسى مدى إفتنان هذه المنظمة الأجرامية بالفكر النازي، المحظور أساساً في بلد النازية المانيا واكثر البلدان الأوروبية، والّذين روّجوا له في العراق وأقصد بهم رشيد عالي الكيلاني وأنصاره. لقد حاباهم البعث ومجدهم في ادبياته وإعتبرهم من رجالات العراق الّذين كان لهم شأن فيه، في الوقت الّذي لم يكونوا سوى حفنة من الضباط الشوفينيين المغامرين والمعادين لبقية الأثنيات القومية في المجتمع العراقي إذ هم وليس سواهم كانوا وراء اوّل مذبحة طالتْ يهود العراق عام 1941. ثمّ جاءتْ الأفكار القومية الضبابية والرومانسية لكل من زكي الأرسوزي وعفلق وغيرهم من العروبيين الشوفينيين ليخلقوا فكراً هجيناً يصعب على قارئهِ أنْ يستنتج منه شيئاً سوى إحتقاره وتعاليه الشوفيني لكل ما هو غير عروبي، بل وسعيه لآجتثاثهم من مناطق سكناهم الأصلي. وهذا بالذات ما سعى إليه وطبّقه لحد كبير بعث العراق في أرض العراق بعد أنْ إغتصبَ السلطة عامي 1963 و1968، فمن حرب الأبادة ضدّ الشعب الكردي والّتي وصلتْ ذروتها حد إستعمال السلاح الكيمياوي في حلبجة مروراً بسياسة حرق ومحو الألاف من القرى في المنطقة الشمالية الّتي كانَ يقطنها الأكراد والأشوريين والكلدان، إلى سياسة بناء المجمّعات السكنية سيئة الصيت والّتي كانتْ بمثابة معسكرات إعتقال إضافة إلى تهجير السكان من شمال العراق إلى مناطق أخرى في جنوب وغرب العراق ومن ثمّ تغييب لهؤلاء الناس كما حصل للبارزانيين، وأخيراً وليس أخراً حملة الأنفال الّتي ذهب ضحيتها قرابة المائتين الف شخص. فهل لا يستحق لمثل هكذا فكر ولمثل هكذا منظمة سياسية أنْ تُجْتَثْ؟.
إذا عَرَجْنا إلى الممارسات السياسية لهذه المنظمة الأجرامية، فإنّنا سنكتشف بأنّها شذّتْ عنْ القاعدة الّتي أجْمَعَتْ عليها كلّ القوى السياسية العراقية، أعني بذلك لجوئها إلى سياسة الأغتيال السياسي الّتي لم تكنْ قطعاً من سمات واخلاق العمل السياسي في العراق، فهي وبإمتياز صناعة بعثية قذرة وخطيرة عانى ولا يزال يعاني منها مجتمعنا. فمنذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة ورغم التباين والتعارض في مواقف ووجهات النظر السياسية لمختلف القوى السياسية، سواء تلك التي كانتْ تعمل في العلنْ او تلك الّتي أختارتْ العمل السّري، لم تلجأ إلى سلاح الأغتيال السياسي لأنّ مثل هكذا مفهوم تدميري غريب عنْ المجتمع العراقي وقواه السياسية. لكنْ هذه المنظمة الأجرامية المسمّاة ب "البعث" وأستناداً إلى إرثها الفكري المريض جلبتْ وغرستْ هذا الوباء في الساحة السياسية العراقية. والغريب في الأمر إنّ هذه المنظمة، دون سواها، هي الوحيدة الّتي آمنتْ ودأبتْ على الأغتيال السياسي وتصفية خصومها السياسيين من القوى الأخرى أو حتى من داخل صفوفها سواءاً عندما كانت خارج السلطة أو حينما إغتصبتها.
إنّ أول عملية إغتيال سياسي قام بها جرذ هذه المنظمة كانت في تكريت، حيث إغتال صدام الجرذ أحد أقاربه المقربين إليه لمجرد إنّه كان عضواً في الحزب الشيوعي. أما أول عملية إغتيال منظمة أقدم عليها البعث كانتْ موجّهة ضدّ رئيس الوزراء العراقي عبدالكريم قاسم عام 1959. ومْ ثمّ توالتْ الأغتيالات السياسية ضدّ القوى الوطنية العراقية وفي مقدمتهم الشيوعيين الّذين نالوا النصيب الأكبر من جحيم البعث وذلك قبل أنْ يغرقوهم في حمام الدم الّذي أعدّوه لهم صبيحة الثامن من شباط الأسود والأيام والشهور الّتي تلته، عندما أصدروا بيانهم الهمجي الّذي يحمل رقم 13 والدال على طبيعة فكرهم الأرهابي الدموي وسياستهم الحاقدة لكل ما هو وطني.
وعندما عادوا للسلطة في عام 1968 حاولتْ هذه المنظمة انْ تظهر بمظهر مَنْ إستفادَ من دمويتها التي إرتكبتها قبل سنوات خمس، لكن لم يكن ذلك إلاّ محاولة لخداع الشعب والقوى الوطنية ومع الأسف الشديد إنطلتْ على القوى السياسية العراقية هذه اللعبة وذلك للسذاجة الّتي إتسمتْ بها هذه القوى، وجاءتْ المفارقة الكبرى من ذلك الفصيل الأكثر خبرة والأكثر تمرّساً في العمل السسياسي والّذي في نفس الوقت نال النصيب الأكبر من سياسة البعث الأجرامية. بكل بساطة إنخدعوا ولم يتمكنوا من الوصول إلى إستناج وإلى حقيقة لا مناص منها كون إنّ هذه المنظمة الأجرامية لم تستفد وليس في نيتها الأستنفادة من الدروس الّتي اوصلتْ المجتمع العراقي إلى حافة الكارثة جراء إرثها الأجرامي الفكري والسياسي. فبدلاً مِنْ أنْ "يطهّر الجرح طُهِّرَ السكين" حيثُ بقي السكين يحزّ الرقاب دون إنقطاع ومن كل لون ومن كل صوب. سكين البعث الّذي قطّرَ ولا يزال يقطّرُ دماً لم ينقطع نزيفه إلى الآنْ هذا السكين كان تعبيراً عن سياسة هذا الحزب الداعية إلى إجتثاث القوى الأخرى من المجتمع، كما يرى البعث، وهذا يذكّرنا بقول الأمين"لا يجتمع فحلان في أجمة". ألم يطل هذا السكين المسموم كل بيت عراقي، كلّ قرية وكلّ حي وشارع وزقاق؟ ألم ينحر هذا السكين الملايين من العراقيين؟ ألم يكنْ هذا السكين سبباً في تثكّل الأمهات بأبنائهم، وترمّل النساء بأزواجهم، وتيتّمْ الأطفال بأبائهم؟ أما لم يحنْ الآوان للتخلص من هذا السكين المسموم مِنْ خلال إذابته بقوة لهيب النار وإجتثاث ذلك الفكر الّذي خلقه وتلك السياسة الّتي مجّدته ومن ثمّ تلك المنظمة الّتي إستخدمته ضد خصومها؟.

لم تَعرِفْ الدولة العراقية والمجتمع العراقي الحديثان الحروب ولم تحتوي إجندتهما مثل هذا المصطلح منذ أنْ ظهرا على الساحة الدولية بُعيد قيام الدولة العراقية عام 1921، بل على العكس، فقدْ حاولتْ هذه الدولة الوليدة العيش مع جيرانها بسلام، محترمة بذلك علاقات الجيرة إضافة إلى الروابط الأخرى الّتي ربطت العراق بجيرانه من الدول العربية والأسلامية.
،اساساً لمْ تكنْ هناك للعراق مطامح لا سياسية ولا إقتصادية ولا حتى جغرافية في الدول المجاورة، لأنّ الأسس والمبادئ الّتي إنطَلَقَتْ منها سياسة العراق، على علاّتها، كانتْ منطقية وواقعية، ولو كانَ قدْ قيّض لهذه السياسة أنْ تستمر لكان العراق شهد نظاماً سياسيا متطوراً، لكنْ مع الأسف حدث الّذي حدث. أقول لم يسع العراق إلى سياسة الأستحواذ أو التوسع لأنّه لم تكن لديه أحلام جنونية كما سنلاحظها في عقد السبعينات والثمانينات ومطلع التسعينات من القرن الماضي في عهد المنظمة الأجرامية التي بدأت منذ أول يوم لأغتصابها السلطة بوضع افكارها وسياستها المريضة موضع التنفيذ، حيث سعتْ سعياً حثيثاً إلى الحرب مبتدئة بخلق مشاكل حدودية مع هذه الدولة الجارة او تلك أو بخلق مشاكل سياسية كان من شأنها عزل العراق وجعله مصدر خوف وقلق للأخرين. لقدْ كانتْ الحرب واحدة من الأجندات الرئيسية لهذه المنظمة الأجرامية وذلك إنطلاقاً من فكرها الشوفيني الذي يحتقر الأخر من جهة والسعي إلى بسط حلمها الأمبراطوري للتوسع والتسلّط على المنطقة برمّتها من الجهة الأخرى. وماذا كانتْ النتيجة؟ نعم ثلاث حروب مدمّرة من ضمنها إحتلال بلد عربي. زمنياً إستغرقتْ حروب المنظمة الأجرامية ما يزيد قليلاً على العقدين من عمر الدولة العراقية البالغ ثمانية عقود، أيّ اكثر من ثلث عمر هذه الدولة، هذا عدا عنْ الحروب الداخلية المسلّطة على الشعب.
أنا لست بصدد الخوض عميقاً في نتائج حروب المنظمة الأجرامية ضد العراق، لكنّني أودّ التوقف على موضوعة الحرب. هلْ كانتْ الحرب من أخلاقيات المجتمع العراقي؟ هلْ سعتْ الحكومات العراقية السابقة إلى الحرب؟. التاريخ يقول لا.. لمْ يُعْرِفْ عنْ العراقيين في تاريخهم الحديث النزعة إلى الحربْ. لقد إرتبطتْ شرائح غير قليلة من المجتمع العراقي بروابط الجيرة، كما قلّنا، وبروابط القرابة والتداخل العشائري بين عشائر العراق وإمتداداتها في دول الجوار إضافة إلى الروابط والوشائج الدينية. هذه العوامل المتعددة والمتداخلة لعبتْ دوراً كبيراً للتقارب بين الناس في العراق وبقية دول الجوار واستطاعتْ بالتالي لأنْ تؤسس لقيام علاقات يسودها إحترام الجيرة والأعتزاز بالقرابة العائلية عن طريق المصاهرة.
ثمّ إذا نظرنا إلى برامج القوى السياسية العراقية على إمتداد الدولة العراقية وقراءة مذكّرات العديد من الشخصيات السياسية والوطنية فانّنا سوف لنْ نعثر على سياسة تغذية الحرب لأنّ هذه القوى والشخصيات كان يهمها بالدرجة الأولى مصلحة العراق أرضاً وشعباً، وكانتْ تسعى إلى تأسيس علاقات يسودها مبدأ المصالح المشتركة ومبدأ الأحترام والتفاهم المتبادل والنضج في الدبلوماسية. الحادثة الوحيدة الّتي شذّت عن القاعدة كانت أثناء حكم عبدالكريم قاسم والّتي سميّتْ "بأزمة الكويت"، لكنّ الرجل إستمع إلى صوت العقل ولم يخضع للعاطفة ولم تكنْ لديه احلام وطموحات مجنونة.
لقد حطّمتْ هذه المنظمة الأجرامية هذا الأنسجام الّذي عاش في ظلّه المجتمع العراقي.. هذا السلام الأجتماعي مع جيرانه تحطّم وبدلاً منه هبّتْ سموم الأحقاد، الّتي أخترعتها هذه المنظمة، وبدأت بخلق سياسة عدم الثقة لكي ينفرط ذلك العقد الّذي دام عقود طويلة بذل فيها شعبنا جهوداً كبيرة في بناء وإرساء أسسه. وكان لهذه السياسة الأجرامية أثرٌ بالغ وذكريات مريرة طبعتْ نفسية الفرد العراقي الّذي بات يشعر بانّه لم يَعِدْ آهلاً للثقة من قبل جيرانه كما كان. ترى أليس من واجب العراق الجديد إجتثاث هذه المنظمة الأجرامية الّتي جَلَبَتْ كلّ هذه الماسي للمجتمع العراقي وذلك إحتراماً لمشاعر هذا المجتمع وتضميداً لجروحه الكثيرة الّتي سببتها أياه هذه المنظمة الأجرامية المسماة ب(البعث).

دعوني أتوقّفُ قليلاً عندّ شعار المنظمة "أمّة عربية واحدة ذات رسالة خالدة" وما يحمله من مغزى. الشعار بكل بساطة يعكس غبائه وضحالته وشوفينيته المريضة، هذه الشوفينية القائمة على أحلام اموية بعنصر عروبي خالص النقاء وعليه أنْ يُطّهِرْ نفسه من كل تأثير شعوبي أخر يتواجد على (الأرض العربية) إذْ لا مكان للأقوام الأخرى في (دولة) البعث هذه المزمع إقامتها. يجب أن تكون قدْ تخلّصتْ منْ كلّ ما هو غير عربي إمّا بالتعريب او بالأبادة الجسدية.
ففي الوقت الّذي بدأ البعث يوضع موضع التنفيذ شعاره الشوفيني هذا وذلك بتهجير الألاف من الأكراد الفيلية بحجة إنهم ليسوا بعراقيين، جلبت سلطة البعث الملايين من المصريين واليمنيين وغيرهم من مواطني دول أخرى واسكنتهم في العراق ومنحتهم الجنسية العراقية واستقطعتْ لهم أراضي زراعية على حساب الفلاح العراقي الّذي بالكاد كان بمقدوره توفير لقمة العيش له ولعائلته. إذن هذا الشعار الشوفيني سُنّ لكي يُسْتَعمر العراق ويُهَجّرْ أهله ليحلّ محلهم أناس غرباء عنْ تربة العراق لا لشئ إلاّ لتطبيق شعار المنظمة الأجرامية هذه المسماة ب (البعث).كما سعتْ هذه المنظمة بشتى الوسائل تجاهل كلّ الأثينيات الغير العربية إلى حد إلغاء هويتها القومية، لا بل عنى هذا الشعار التطاول على تاريخ العراق القديم من خلال سياسة إعادة كتابة التاريخ وفق وجهة نظر ومفهوم بعثي عروبي شوفيني أسقط كلّ المعايير الأكاديمية والعلمية الّتي على ضوئها دُرس التاريخ العراقي. نعم لقد إستطاع البعث إيجاد النكرات من سقط المتاع من العروبيين الشوفينيين والأنتهازيين للقيام بهذه المهزلة، مهزلة إعادة كتابة التاريخ العراقي. وهكذا وعلى ضوء هذا الشعار السئ الصيت اصبح السومريون والأكديون والأشوريون والبابليون وكأنهم خرجوا من صلب العروبة الشوفينية للبعث. فأصبحنا نسمع مصطلحات (تاريخية) جديدة مثل السومري- العربي، او الأكدي- العربي، أو الأشوري- العربي، أو البابلي- العربي علماً إنّ العرب كاثينية وتاريخ ليسوا بذلك القدم في العراق قياساً بالأقوام الّتي اجبرها فكر البعث الشوفيني على أنْ يستعربوا. ماذا يمكن أنْ نسمّي ذلك؟ أليس تزييفاً متعمداً للتاريخ! ألا يعتبر ذلك إحتقاراً للعلم وللعلماء الّذين صبّوا عصارة فكرهم في وضع اسس علمية لدراسة التاريخ؟. أليس من حقنا وإنصافاً للتاريخ وللعلم أن نجتثّ هذا الفكر الّذي تطاول على تاريخ وحضارة العراق واراد إغتصابها في العلن وامام مرأى العالم دون خجل أو وجل؟ اليس من حقنا أنْ نرمي في مزبلة التاريخ وللأبد تلك البدع الّتي حاولت وضع أسم أكبر مجرم في التاريخ، جرذ العوجة، على نفس اللوح وبنفس المقام مع اولئك الذين صنعوا لنا تاريخنا المضئ وحددوا لنا هويتنا؟.
يجبْ على العراق الحديث أنْ يتخلص مرة وإلى الأبد من كل إرادوية تسعى إلى إلغاء العلم لأنّ الأرادوية، أي كان مصدرها، تسقط المعايير العلمية والأكاديمية المتفق عليها في الدراسة والبحث التاريخي والحضاري وتحلّ محلها إرادة الفرد او المنظمة لأسباب عنصرية وشوفينية كما أراد البعث.

في الحقل الثقافي الأبداعي فقد كانتْ جريمة البعث اكبر مما يتصوّره العقل، حيث عمل وبتخطيط مسبق لتخريب الأبداع الفنّي والأدبي العراقي الّذي إمتاز بالأصالة منذ بدايات القرن الماضي في العديد من الحقول، منها المسرح، الفن التشكيلي، الشعر، الفن القَصَصي والروائي، الموسيقى والغناء والسينما. فقد بدأ يطفو على الساحة الثقافية العراقية مفاهيم غريبة وممسوخة إخترعتها الماكنة الدعائية لهذا الحزب مثل، (نظرية الجمال البعثي) و (نظرية الفن البعثي). هذه المفاهيم مهدتْ الطريق امامهم للسيطرة القسرية على مجالات الأبداع، فقد بدأت اولى الخطوات بتبعيث المرافق الثقافية الأبداعية الّتي تكوّنْ الكوادر الأبداعية، فعلى سبيل المثال بدأوا بتبعيث المسرح العراقي من خلال حصر القبول في كلّ من اكاديمية الفنون الجميلة ومعهد الفنون الجميلة فقط بالطلبة البعثيين واصدروا قرارات وتعليمات داخلية بمنع إسناد الأدوار الرئيسية وبقية الأدوار الأخرى بالطلبة الغير البعثيين، وتحضرني هنا مناسبة تؤكد ذلك، إذْ كُنْتُ في زيارة للأكاديمية بعد تخرّجي منها بفترة وجيزة عام 1975 والتقيت بأحد الفنانين الكبار وهو أستاذ في الأكاديمية الّذي درّسني لمدة أربع سنوات فسألته مستفسراً عن نتاجاته المسرحية في الأكاديمية، إذْ كان من المعتاد أنْ تَنْتُجْ الأكاديمية عملين كبيرين يخرجهما اساتذة الأكاديمية مثلما دأبت عليه منذ تأسيسها، فإذا به يتحسّرْ ألماً وفتح لي قلبه، للثقة الّتي بيننا، ليقول بما معناه: الأكاديمية إنتهى دورها الفني بتخرّج أخر دورة لم يستطع البعث أنْ يخرّبها، وما موجود الآن هو مجرد مسخ لا علاقة له بالمسرح. بل زاد في الكلام ليؤكد بأنّ بعض المقبولين الجدد لو يسمعوا بكلمة المسرح فهم قادمون من عمق الريف العراقي الّذي لم يشاهد ولم يسمع بالمسرح، فقط أراد أنْ يشغل مكان في الأكاديمية خشية أنْ يحتله طالب مرشح أخر ليس عضواً في قطيعهم!.
لقد عمل البعث على إلغاء تلك القواعد والأسس العلمية وإلغاء معايير الموهبة في إختيار وقبول الطلبة المرشحين للدراسة في الأكاديمية وأحلّ محلها أسس حزبية لا تمتّ للأبداع بشئٍ مما أدّى إلى هبوط المستوى الفني لخريجي الأكاديمية في كافة الأخثصاصات، وما شاهده المسرح العراقي من سطوة ناس يفتقدون لا فقط إلى الموهبة وإنّما حدٍ ادنى من الثقافة المسرحية.
عندما تقدّمتُ للدراسة في الأكاديمية عام 1971 كان هناك معي 366 طالباً مرشّحاً للدراسة في كِلا الأختصاصين اللذين كانت تتكوّن منهما الأكاديمية، اعني بهما قسم المسرح وقسم الفنون التشكيلية، وكان علينا أنْ نجتاز إختبار القبول المتكوّن من عدة أجزاء، منها تقديم مشهد مسرحي قصير بعدها يؤدي المتقدم دوراً صامتاً (بانتوميم)، ثمّ يُختبر صوته وإلقائه من خلال قراءة نص نثري وقراءة نص شعري لكي تتمكّنْ اللجنة الفاحصة لمعرفة قوة الصوت، التلوّن في الألقاء ولكي يتاكدوا أنْ ليس في إلقائه رتابة (مونوتون)، كذلك معرفة قدرة المرشح على النطق الصحيح للغة، ناهيك عن الجزء المتعلّق بالثقافة المسرحية بشكل خاص والثقافة الأدبية بوجه عام. بعد كلّ هذا تمّ قبول فقط خمسة عشر طالباً مرشحاً في كِلا القسمين من مجموع 366 طالباً مرشّحاً. وبعدها، وكما أسْلفتُ، أُلْغيتْ هذه القواعد واصبحتْ الأكاديمية ملزمة بقبول ما بين 200 إلى 500 مرشّح كل سنة، ومن الطريف ذكره في هذا الصدد، أنْ عُقِدتْ ندوة في الأكاديمية لمناقشة موضوع النوعية من حيث إعداد الكادر المسرحي والتشكيلي وكان من ضمن المتكلمين في هذه الندوة الأستاذ والفنان الراحل إبراهيم جلال، حيث قال في مداخلته ما نصه " أبشركم، إنّ كل العراقيين راح يصيرون فنانين بعد خمس سنوات!".
لم يكتف البعث بذلك فقط وإنّما كان يتدخّل، من خلال منطمته الطلابية المسماة ب (الأتحاد الوطني لطلبة العراق) والّتي تتبرع اليوم قناة سعد البزاز "الشرقية" ببث تقرير خاص عنْ ذكرى تأسيس هذه المنظمة الّتي أذاقت الطلبة العذاب تنفيذاً لسياسة البعث، ولا يخجل احد المتحدثين في الأجتماع المزعوم الّذي بثته قناة الشرقية قائلاً بأن ما يعانيه الطلبة هو التدخل السياسي الفظ في الشأن الطلابي! بربكم اليس هذا عهر من منظمة مارست العهر طيلة تاريخ وجودها. أقول إنّ البعث ومن خلال هذه المنظمة السيئة الصيت كانتْ تتدخل حتى في الأعمال المسرحية الّتي يقدّمها الطلبة كأطروحات للتخرّج، وأذكر حادثة وهي، إنّ احد الزملاء قدم مسرحية "في إنتظار اليسار" لكاتب اميريكي يساري كاطروحة للتخرّج، عندها سعتْ المنظمة الطلابية البعثية إلى منع عرض المسرحية وعندما لم تفلح في ذلك نتيجة لتدخل الأساتذة، حيث كان لا يزال هناك مجالاً للتحرّك، لجأت هذه المنظمة الطلابية على فرض شرط اخر على الطالب المخرج يحيل دون الأذعان له عنْ منع المسرحية، وهذا الشرط كان يلزم المخرج بأنْ يكتب العبارة التالية ضمن برنامجه الدعائي للمسرحية"إنّ الفكر الّذي إلتزمه العمال اليساريين الأميريكيين المطالبين بحقوقهم هو نفس الفكر الّذي إلتزمه حزب البعث". لكن إتضح بعد فترة إنّ المنظمة الطلابية، ونتيجة لغبائها ولصبيانيتها، نالت توبيخاً من الهيئات الأعلى منها. إلاّ إنّ التوبيخ هذا لم يوجّه لها كونها تدخّلتْ لمنع العمل المسرحي، وإنّما التوبيخ كان له مدلولات فكرية، إذْ كيف يا ترى يلتزم حزب قومي كحزب البعث فكر يساري بملامح ماركسية كذاك الّذي إلتزمته المسرحية؟.
لقد مُنعَتْ العديد من الأعمال المسرحية ضمن نهج التخريب الّذي مارسه البعث ضد الأبداع والمبدعين. فقد مُنِعَتْ مسرحية يوسف العاني "الجومة" رغم التدريبات الطويلة عليها ورغم الجنرال بروفة إذْ تمّ منعها يوم قبل العرض الرسمي وبشكل متقصد ودنئ إذلالاً لفرقة المسرح الفني الحديث وللعاملين في المسرحية، فأي خبثٍ اكثر من هذا!. ومشهورة حادثة إستدعاء وزير (التقافة) والأعلام طارق عزيز ليوسف العاني والأعتداء عليه بإسماعه كلام بذئ هو في جوهره إنعكاس ليس لعقلية بعثي قيادي وإنّما إنعكاس لسياسة البعث المدمّرة لكل ابداع وقتل كل مبدع. كما مُنِعَتْ مسرحية عادل كاظم "دائرة الفحم البغدادية" المعدّة عن مسرحية للكاتب الألماني برتولد برشت والّتي اخرجها الفنان الراحل إبراهيم جلال بعد عرض لليلة واحدة فقط، كما مُنِعَتْ مسرحية "مبادارات" الّتي أخرجها المجرج الدكتور عوني كرومي وذلك بعد يومين فقط من عرضها. وفي المسرحية التلفزيونية تمّ منع العمل الّذي كان ينوي تقديمه الفنان خليل شوقي بعنوان "شهرزاد وشهريار" وقيل في وقتها إنّ "ابو العلوج"، محمد سعيد الصحاف، هذا المسخ البعيد كل البعد عن عالم الأبداع، والّذي كان وقتها مديراً للأذاعة والتلفزيون، روّج بأنّ مؤلّف العمل أراد من عمله هذا الأستهزاء بالبعث من خلال تصويره له كأمرأة في شخصية شهرزاد الّتي تقابل شهريار المرموز لها بالحزب الشيوعي. يا لهؤلاء الجهلة ويا لبؤس الأبداع في العراق تحت ظل هكذا فكر وشوفيني متخلّف وجاهل.
أمّا في مجال الغناء فالحديث ذا شجون، فمع مرور الزمن طغت الأغنية السياسية الفجة الّتي تروّج لعبادة الفرد القائد إلى الأغاني والأناشيد الحماسية الفارغة من كل معنى وذوق سوى تلك الكلمات الجوفاء الّتي تمجّد البعث و(وإنجازاته) فلم يبقي البعث على مطرب اومطربة إلاّ وأجبرهم على الأنشاد للطاغية وقبل ذلك مُنِع العديد من المطربين العراقيين المعروفين من أنْ تُبثّ نتاجاتهم الغنائية لا من الأذاعة ولا من التلفزيون ومنهم الفنان فؤاد سالم، الفنان سامي كمال، الفنانة شوقية البصري والفنان عزيز علي الّذي أتُهِم فيما بعد بالماسونية!. قبلها كانوا قد إعتقلوا ستة وعشرين مطرباً ومؤلفاً وملحناً اشورياُ وسيقوا إلى الأمن العامة وتمّ تعذيبهم جسدياً ونفسياً وأهينت كرامتهم، حيث ظلّوا في معتقلات الأمن العامة الرهيبة لمدة تجاوزت الشهر وأطلق سراحهم بعد أنْ أُخِذَتْ منهم تعهدات بعدم الغناء والأنشاد في الحفلات الأشورية الأغاني القومية الّتي تتغنى بالتاريخ الأشوري. كنتُ على صداقة بأغلب الّذين أعتقلوا، منهم الفنان المطرب داود إيشا والفنان المسرحي سامي يعقوب وحدّثوني بما جرى لهم وهم تحت سياط جلاوزة الأمن.
أمّا الشعر الشعبي فقد حاربه البعث لدرجة مُنع من النشر ومن إقامة أماسي او مهرجانات لهذا الجنس من الشعر الضارب في عمق الثقافة العراقية بحجة إنّه يسئ إلى اللغة العربية الفصحى الّتي يتشدق البعث كونه حارسها الأمين في الوقت الّذي كان هو من اكبر المسيئين لها جراء تسلط الجهلة وأشباه الأميين على مقاليد الأمور السياسية والثقافية، لكن السبب كان معروفاً، وهو إن أغلب الشعراء الشعبيين كانت منطلقاتهم يسارية لا تتلائم مع فكر البعث الغريب أصلاً عن بيئة العراق. لكن نفس هذا الحزب وفي فترة متأخرة سمح بعودة الشعر الشعبي وسمح بإقامة المهرجاتات له وكان بعض منها بحضور طاغية العراق لكن هذا السماح جاء بعد أنْ حاول البعث تحويل الشعراء الشعبيين إلى مقاتلين من الطراز الّذي يكون مقبولاً من وجهة نظر البعث، إذْ كان يمنح الطاغية مسدس لكل شاعر شعبي يشترك في مهرجاناتهم ليحل هذا المسدس بدل اليراع وشتان ما بين الأثنين، إذْ الأول يزهق الأرواح وهو بالتالي لا يليق بالمبدع، والثاني يمنح المرء إحساس بقيمته ويجعل حياته ذات طعم ومعنى. فهل يا ترى ليس من حقنا كمبدعين ان ننظّف الساحة الأبداعية بكل ما عُلٍقَ عليها من ادران وتفهات لا تنتمي إلاّ إلى عالم الأجرام والمافية. فيا ترى ايّة علاقة بين المبدع، شاعراً كان او قاصاً او ممثلاً اورساماً وبين المسدس! قولوا لي هل عَرِفَ تاريخ الأبداع العراقي منذ بدايات القرن الماضي ميلاد مبدع يتمنطق السلاح بدل القلم؟ جوابي هو كلاّ، لم يحصل ذلك مطلقاً إلاّ في عهد البعث، لذا فنحن بحاجة إلى إجتثاث هذا الأرث الغريب عنْ واقعنا وعن تقاليدنا الأبداعية مرّة وإلى الأبد.

أمّا في الجانب التعليمي وألأكاديمي فقد كانتْ جريمة البعث بشعة من حيث نتائجها الكارثية في الحقل التعليمي ولا إنسانيتها في الجانب الأجتماعي، فقد عمد البعث على تبعيث كامل القطاع التعليمي الجامعي وذلك بحصر القبول بشرط عضوية حزبه او بتزكية من منظمته الطلابية حارماً الألاف من الطلبة من حقهم في الحصول على التعليم وجلبت هذه السياسة الهمجية الوبال على المستوى التعليمي في عموم جامعات العراق الّتي فقدت اسسها المعرفية والعلمية الّتي عُرٍفتْ بها كمعيار لعملية قبول الطلبة في مختلف كلياتها ومعهادها. أما الكادر التعليمي فهو الأخر لم ينجو من سياسة البعث المعادية للعلم والمعرفة، فلم يكتفْ بإجبار العشرات من اساتذة الجامعة على موالاة البعث مهدداً تارة ومرغّباً في تارة اخرى، بل احال العديد من الأساتذة المرموقين والمشهود لهم بمكانتهم العلمية على التقاعد في خطوة منه لأبعادهم عن مجال إعداد الكادر العلمي الّذي كان العراق بامسّ الحاجة اليه وبطريقة مقرفة لم تحفظ لهؤلاء الذين أحيلوا على التقاعد لا كرامتهم ولم توفّر لهم راتب تقاعدي يعيشون من ورائه. تصوروا إنّ مدرّسة جامعية كانتْ تدرّس مادتي اللغة العربية والأدب العربي وهي الدكتورة وفية ابو اقلام أُحيلَتْ على التقاعد براتب لا يتجاوز الثلاثة والثلاثين ديناراً في الشهر!.
كما إنّ البعث كان يضغط على العديد من أساتذة الجامعة بطرق خسيسة ولا إنسانية للأيقاع بهم للأنخراط في صفوفه، ولما رفضوا ذلك لجأ إلى التدخل في حياتهم الشخصية والعاطفية. فكما هو معلوم إن العديد من اساتذة الجامعة العراقيين وبحكم دراستهم في الخارج تزوجوا من نساء تلك البلدان الّتي درسوا فيها وهذا حق مقدس لا يحق لأي كائن كان أن يسمح لنفسه التدخل في عواطف الناس والتاثير على مشاعرهم واحاسيهم وجعلها تسير وفق ما يشاء الأخرون وهذا ما فعله البعث، فكان القرار الصادر من سلطة البعث يقضي إنّه لكي يستطيع الأستاذ الجامعي الحفاظ على وظيفته أن يطلّق زوجته الأجنبية او في حالة عدم تطليقه اياها عليه أنْ يترك الوظيفة. والّذي حدث إنّ البعض طلّقوا زوجاتهم والبعض الأخر إختار ترك الوظيفة ليحافظ على إنسانيته. أية سياسة هذه الّتي تعمد على تخريب العائلة، تلك الخلية الصغيرة الّتي يتكون منها المجتمع الكبير؟ فهل يا ترى هكذا فكر وهكذا سياسة وهكذا حزب يستحق البقاء بعد كل هذه الجرائم؟.
نقول إنّ مسألة إجتثاث البعث اصبحتْ أكثر من ملحّة وذلك:
•لأنهم لم يطهّروا يوماً الجرح، لا بل إنّهم وعلى عاداتهم طهّروا ويطهرون ذات السكين الّذي نحرونا به طيلة الأربعين عاما ويهيئونه الآن لجولات قادمةً.
•لأن فكرهم القومي الشوفيني لم وسوف لن يرغب في التوصل إلى ضرورة مطلقة والقائلة بحتمية تحوّل الفكر القومي إلى وعي إجتماعي.
•لكي نردّ الأعتبار لكل ضحايا هذا الحزب ونظامه سواء أولئك الّذين ضحّوا بأغلى ما عندهم وهي حياتهم، أم ضحاياه الأُخر وباشكال لا تُعَدْ ولا تُحصى.
•لكي نضمن بانّ الأجيال القادمة من اطفالنا الحاليين سوف لن يعرفوا وسوف لن يعيشوا ما عاشوه ابائهم وامهاتهم واقاربهم.
•لكي نتمكنْ من أنْ نعيد للعراق وجهه الناصع دون شوفينية تحتقر مكوناته القومية والدينية وتنوعه الثقافي الّذي نعتبره إحدى ركائز هويتنا العراقية الّتي نفتخر بالأنتماء إليها جميعاً رغم هذا التنوع.
•لكي نستطيع أنْ نبني عراق ديمقراطي تعددي فدرالي يستطيع فيه الفرد العراقي أنْ يتنفس ملئ رئتيه هواء نقياً لا تسممه الأحقاد الشوفينية والطائفية.
•لكي لا يكون نصيبنا الموت والفناء بعد الآن.
•لكي نتمكن من إنقاذ مجتمعنا من محنته، فإنّه يتوجّبُ علينا حرق هذا الفكر الضار.
•لكي يكون حاضرنا ومستقبلنا افضل، على إنساننا العراقي أنْ يتحرر من هذا الفكر الشوفيني الهدام كي يتمكن من ان يصبح صحيح العقل والنفس.

د. داود كوركيس
مسرحي عراقي