لعب نظام صدام دورا مهما في تأدية ادوار إقليمية في المنطقة على حساب الشعب العراقي، فكانت الأدوار تارة تصب في اتجاه إشعال الحرب ضد الكرد العراقيين في إقليم كردستان ومصادرة حقوقهم القومية، وتارة في اتجاه إيران وتارة في اتجاه غزو الكويت وتارة في اتجاه الخليج، حتى أتت عليه عاصفة الصحراء فكانت الضربة الموجعة التي ترتبت على مغامرة احتلاله للكويت. و رافقت العاصفة انتفاضة جماهيرية في آذار 1991، أقدم عليها الشعب العراقي بكل قومياته وطوائفه، لكنها أخمدت في فترة وجيزة بالقوة والقمع بفعل حسابات إقليمية ودولية للإبقاء على النظام البائد. واستمر الحال حتى أتى على النظام عاصفة خاتمة الأدوار وحاسمة الحواسم في التاسع من أبريل عام 2003، فأسدل الستار على نظام متغطرس ومتجبر في المنطقة كاد في يوم من الأيام أن يبلع الخليج بمياهه وأرضه.

بعد الأحداث الدراماتيكية لفترة التسعينات، والانتهاء من نظام صدام في مطلع القرن الجديد، شهدت منطقة الخليج والشرق الأوسط حضور ووجود حيوي ومباشر لقوى دولية في المنطقة. وشهد العراق حضور لقوى التحالف التي شاركت وساعدت العراقيين في تخلص العراق من صدام. وهذا سبب تغييرا في مواقع أولويات السياسة الدولية في المنطقة، ومن هذه التغييرات تلاشي الأدوار الإقليمية في المنطقة، بعد أن تمكنت قوى دولية كبرى من تثبيت وجودها بالفعل الميداني في بقاع مختلفة من المنطقة. ولكن الاعتداء الإرهابي في الحادي عشر من أيلول على المركز التجاري في أمريكا سبب مراجعة شاملة وجوهرية للسياسة الأمريكية في المنطقة حماية ومراعاة لمصالحها الحيوية في الشرق الأوسط والعالم.

وضمن هذا التغيير شهد المشهد السياسي في المنطقة تراجع لعبة الأدوار الإقليمية، حيث كان النظام السابق لاعبا بارزا ضمن دائرة الأدوار الإقليمية في الشرق الأوسط، ودور النظام البائد استحوذ على حصة الأسد في صنع الأحداث الهامة في المنطقة، ولعب النظام أدوارا دولية عديدة على الساحة السياسية الدولية في السبعينيات والثمانينات وبداية التسعينيات خاصة في زمن الحرب الباردة. ويعتقد ان بعض هذه الأدوار كان أكبر مما مرسوم له وهذا ما ساعد على إرباك الموقف على رئيس النظام البائد. و يبدو أن الدور الاقليمي الذي أوقع فيه صدام نفسه لم يكن حقيقيا بل كان سرابا وأن الطاغية لم يحسب له بجدية، فتمادى في خيالاته، فتخيل أنه قد أصبح قوة إقليمية لا يستغنى عنه، ففعل ما فعل، ووقع فريسة لخيالاته الجنونية، والحق بالعراق ضررا جسيما ودمار كبيرا.

وكما هو معروف للمطلعين فإن لعبة الأدوار الإقليمية مسألة لها قوانينها واليات عمل خاصة مرتبطة بمصالح دول أخرى، ولهذا فإن هذه الأدوار لم تسبب في يوم من الأيام رفاهية لشعوب الدول التي تبرعت أنظمتها أن تلعب دورا إقليميا بحسابات غير عقلانية، بل على العكس دفعت بشعوبها الى أن تدفع ثمنا باهضا دون منطق ودون سبب مبرر.

لكن بعد حضور واقع جديد للمنطقة، وتخلص العراقيين من ذلك النظام الاستبدادي والطاغي والعدائي بفضل تعاون مجموعة دولية متحالفة برئاسة الولايات المتحدة الأمريكية، حل محل السلطة العراقية مجلس الحكم العراقي، ثم تلاه تسلم السيادة الى العراقيين في نهاية حزيران الماضي. بعده شكل مجلس وطني عراقي غير منتخب من اغلب القوى السياسية العراقية مع حكومة وطنية كتجربة عراقية متميزة لإدارة الدولة العراقية لحين تأسيس المؤسسات الديمقراطية عن طريق الانتخابات المزمع إجراءها في نهاية الشهر الجاري.

أمام هذه التجربة الجديدة في المنطقة المستندة إلى بناء العراق من الداخل على أساس إرساء الحقوق السياسية والديمقراطية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية للفرد وليس للحزب الواحد المطلق، فإن المخاوف أصبحت تساور الآخرين بشأن التغييرات الحاصلة في العراق، لأنها تغييرات انفتاحية متفاعلة مع متطلبات العصر والمرحلة التي نعيشها، وهي قادرة على تسيير المجتمع بسلامة نحو أفاق رحبة من السلام والاستقرار والانفتاح الاقتصادي وضمن إطار حفظ كرامة الانسان لكل فرد في المجتمع العراقي.

ويبدو ان الآثار والنتائج الايجابية التي تمخضت عن التجربة العراقية خلال فترة قصيرة بالرغم من الضغوطات الأمنية التي فرضت عليها من قوى إرهابية وافدة من الخارج ومن أتباع النظام السابق، حققت تحولا جذريا في المشهد السياسي وتحسنا ملحوظا في مستويات معيشة المواطن العراقي. فالتحول الجذري في الاتجاه السياسي تمثل بالتعددية الحزبية التي فرضت نفسها على الساحة بفعالية منقطعة النظير لا مثيل لها في المنطقة. وهذا التحول في الجانب السياسي والمعيشي يمكن إعتبارهما تحول جذري ورئيسي مقارنة بالحالة التي كانت سائدة في زمن النظام السابق، خاصة وان هذا التحول رافقه انفتاح أبواب الحرية أمام العراقيين بجميع أشكالها السياسية والإعلامية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.. وبفضل هذا التحول الايجابي وبرغم وجود الصعاب الأمنية، أصبح المجتمع العراقي من المجتمعات المتميزة على صعيد المجتمعات الديمقراطية، حيث تمكن من اختزال مسار طريق التحول الديمقراطي الى مرحلة قصيرة، مثمرة في تجربتها، ومؤثرة في نتائجها، وإيجابية في آثرها.

هذا التميز في انطلاق مجتمع نحو الأمام و اللحاق بركب التمدن جعل من العراق بؤرة منظورة، موضوعة تحت المجهر، محسوبة خطواتها من كل زاوية.. وهذا ما جعل من الدول التي تتخوف من بعبع الديمقراطية والتعددية وحقوق الانسان، أن تتكالب على العراق من كل جهة وان تحرك جماعات إرهابية عربية ودولية وجماعات من اتبع نظام البعث السابق، لتشق أنهارا من دماء طاهرة للعراقيين، لينزف على ارض طيبة بلا هوادة وبلا قطرة من الرحمة، وكأن العراقيين قد أنزل بهم النار العسير لأنهم سبب خلل وتعطل وجمود الأمة الإسلامية والعربية.

أجل هذا الفعل الإرهابي في التعامل مع العراق ومع شعبه من قبل جهات ومجاميع تدعي إنها بشرية لا تملك ذرة من الرحمة، عائدة لدول مجاورة وغير مجاورة كما اعترف بها مسؤولون عراقييون. هذه الجهات حملت وما زالت تحمل دوافع شريرة لإلحاق الأذى بالعراقيين وإلحاق الدمار والخراب بدولتهم. وكما انقلب السحر على الساحر في أفغانستان بخصوص أفغان العرب، فان هذه الجماعات بالتأكيد في القريب ستنقلب على أصحابها وسنشهد أي منقلب سينقلبون.

والعراق سيبقى وسيثبت على قدميه بفضل إدراك العراقيين لنوايا الإرهابيين ومن يقف ورائهم، ولهذا لم تتمكن الاعمال الارهابية والإجرامية المتسمة بالوحشية والهمجية لهذه الجماعات الشريرة على مدى اكثر من سنة من التأثير على العراقيين ودفعهم الى إشعال فتن وحروب أهلية وداخلية لتمزيق النسيج العراقي الذي يتسم بالتنوع القومي والطائفي والديني والمذهبي والاجتماعي وهي سمات متنوعة ومميزة يندر لها مثيل في المنطقة.

والشيء الذي يسجل له بالتقدير العالي ان الاندفاع العراقي باتجاه إجراء الانتخابات المتسم بالإصرار والحماس لاختيار ممثلي الأمة العراقية في المجلس الوطني العراقي، يشكل حالة متقدمة من الوعي السياسي والإدراك الفردي للعراقيين على مستوى الشعور بالمسؤولية الوطنية، ويشكل أيضا حالة متقدمة ومنفردة من الإدراك الوطني للأحزاب والكيانات والجماعات السياسية العراقية التي تمكنت على مدى فترة قصيرة من إقناع الجمهور العراقي خاصة في الجنوب وإقليم كردستان بضرورة مشاركة العراقيين على اختلاف قومياتهم ودياناتهم في العملية الانتخابية والتصويت على القوائم المرشحة وإبداء الرأي لإختيار الكيانات السياسية المنتخبة من مجموع الكتل السياسية المطروحة في ساحة العملية الانتخابية في العراق. والكيانات التي تتفق عليها الأغلبية من الناخبين العراقيين، هي التي ستقود العملية السياسية في المجلس الانتقالي في الفترة اللاحقة لما بعد الانتخابات الى نهاية سنة 2005، وينحصر مهام المجلس بانتخاب رئيس للجمهورية وحكومة للدولة ووضع الدستور للعراق الفيدرالي. والمشهد الذي نخلص إليه من الواقع الميداني يتبن ان الاندفاع العراقي المتسم بالإصرار سينجح الانتخابات في الثلاثين من الشهر الجاري، وسيكون هذا النجاح حربا مضادا ويحمل في ثناياه ضرية قاصمة للإرهاب وبالتالي سيضطر الاخير مجبرا الى ترك العراق، وستشهد الساحة العراقية خطوات جادة للسير باتجاه استقرار امني وتحول اقتصادي فعال خلال فترة قصيرة.

* كاتب عراقي كردي