نجاح بعض القنوات الفضائية العربية فى نوال الشهرة والنجاح بين الشعب العربى مع التحفظ على السلبيات والإيجابيات فيها، دليل واضح على العطش الذى عانى منه المواطن نتيجة للمحرمات السياسية التى فرضتها الأنظمة السياسية فى منطقتنا العربية، كل فرد لم يكن من حقه التعبير الحر عن رأيه السياسى أو أن يعارض مشروعاً أو خطط أو الأوضاع السيئة والفساد المتفشى فى أجهزة المجتمع، وكان واضحاً غياب الحوار السياسى الذى يعتمد على أن الديمقراطية طريقاً طبيعياً للوصول إلى دور طبيعى لكل فرد فى المجتمع.
أستطاعت بعض تلك القنوات الفضائية أن تجذب إليها الكثيرين بنوعية البرامج التى فتحت أمامهم ما كان لديهم من أفكار مكبوتة ومخزونة، وأستطاعوا أخيراً أن يروا أفكارهم ومشاعرهم مجسدة على الشاشة التلفزيونية، وأستطاع المشاهد العربى رؤية حوار مختلف يخرج عن إطار الأنماط المألوفة لديه ولدى النظام الإعلامى، حيث سأم المواطنين مشاهد المراسم والأستقبالات الملوكية والسلطانية والرئاسية وحواديت بطولات الحكام ومشاريعهم العملاقة التى هى حبر على ورق.
أمام هذا الإعلام الذى يمجد الأنظمة القائمة المتقوقع فى المحليات الروتينية والشخصيات المتكررة، أراد المشاهد البسيط أن يصرخ فى وجه هذا القمع اليومى للتلفزيون الحكومى وأن يعبر عما يدور فى داخله، لكنه لم يجد خلاصاً إلا فى تلك القنوات الفضائية الجديدة المواكبة لحياة العصر والتى تقول بدلاً عنه ما يريد أن يقوله بأيديولوجية جديدة وبأسلوب علمى مدروس، ونظراً للتهافت على نوعية معينة من البرامج يعشقها القلب العربى لأنها جزء من تراثه، وجدنا السم مدهون بالعسل وحروب خفية تدار فى كواليس تلك القنوات وتلك البرامج، ولم يستطيع المواطن العربى التمييز بين النقد كأسلوب طبيعى فى الحوار الإنسانى وبين الشتائم والتجريح والإهانات كأسلوب مريض متطرف لا يقبل إلا بأحادية الرأى وتعبير خفى عن طغيان الأنظمة وتأثيرها السلبى على فكر المواطنين.
أصبح الحوار ثقافة غريبة لأنه فى ذهنية العربى مرتبط بالآخر الذى من صفاته العدو والمتآمر والمفسد والمحتل الذى يريد الأستيلاء على ثرواتنا ويدمر أخلاق شبابنا، من هنا وجد الذهن العربى الذرائع الكافية لرفض ثقافة الحوار والأنفتاح على الآخر، تلك الثقافة التى تعمل على إيقاظ طاقاتات الإبداع وإخراجها من مقبرة الطغيان الأحادى للفكر العربى الذى يعمل على أحتقان المشاعر لتقود الفكر فى عمليلة تضليلية يصبح معها عاجزاً عن التقدم والإصلاح وأكتشاف سلبياته لمعالجتها وينكب على تراثه القديم يعوض به فشله وعجزه عن مسايرة التطور، وأصبح المواطن مقتنع بالحوار الدائم مع نفسه فقط لأسترضاء ذاته وقناعاته الفردية متلذذاً بكلمات الماضى : أمجاد يا عرب أمجاد.
الإبداع الإعلامى صاحب الشعارات القومية أفرز أنتاج برامج تحاكى الركود والرتابة، برامج وأحاديث تنتهج أفكار عدائية للآخر وكل برنامج يقدم شخصيات هزلية تمجد التراث والتخلف الحاضر فى نواحى الحياة العربية بأعتبار العرب هم قادة العالم فى الحضارة، فهو برنامج جيد وطنى قومى يعكس أحلام الأجيال الحاضرة الغائبة،وأصبحت هذه البرامج تعكس الأضطراب والأرتباك التى تعانى منه الشخصية العربية فى وقتنا الراهن، وأصبح الشباب فى حيرة من أمرهم لا فكر لهم، يرددون ما يقال على مسامعهم فى دور العلم ودور العبادة وفى وسائل الأتصال الجماهيرية بكوادرها العتيقة.
بعد مرور سنوات على هذا " التقدم الفضائى "، لم نجد الدول العربية تقدم قفزة نوعية فى قنوات إخبارية أو ثقافية بالمستوى العصرى المطلوب حتى يتسع سوق المنافسة الشريفة الذى يخدم فى المقام الأول والأخير المواطن العربى وتقدمه " الإنسانى "، على سبيل المثال الدولة المصرية التى تملك قمرين صناعيين تفخر بهم وكأنهم يضارعان هرم خوفو وخفرع ومنقرع، كان فى إمكانها تقديم بعض القنوات الفضائية الإخبارية على نفس المستوى الذى نال شهرة بين الشعوب العربية أو أكثر منه جودة بأعتبار تلك النوعية من القنوات التلفزيونية هى الأكثر واقعية وقبولاً وجاذبية بين المشاهدين وكان من الأفضل والأكرم لوزارة الإعلام المصرية أن تسارع بعمل قنوات إخبارية تحترم عقل المشاهد لتكون فى المقدمة، لكن النظام الإعلامى المصرى مسجون فى سجن الروتين والشخصيات العتيقة الذين يتوارثون مناصب وزارة الإعلام والمسئولين فيها وهى العاهة التى دمرت كل إبداع مصرى حقيقى وأصبحت الطاقات الشبابية لا مفر لها من الهجرة أو الرضى بالقليل أى البقاء فى دواوين الحكومة ومؤسساتها الرسمية " إن فاتك الميرى أترمغ فى ترابه "، وأرتضى النظام الإعلامى المصرى أن يكون فى مؤخرة التقدم الإعلامى وعن قريب سيعلن عن ولايته الخامسة للجلوس على كرسى التخلف الإعلامى العربى فكل شئ فى حياة المصريين أصبح بالوراثة.