المتابع للتاريخ في منطقتنا، منطقة الشرق الاوسط، يلاحظ بوضوح ان المنطقة، والافكار والمجتمع، هي في حالة تراجع، فبعكس العالم، حيث يتم رويدا رويدا، تحطيم القيود وكسر التابوهات والمحرمات، وتنطلق الاسئلة مثيرة زوابع واعاصير لا تهداء، نرى ان هذه المنطقة والتي كانت في الثلاثينيات من القرن المنصرم تبشر بالخير، جراء انتشار افكار التنوير فيها تتراجع، لان الاتفتاح الذي رافق انتشار الافكار التنويرية، رافقه ايضا انفتاح لنشر الكثير من الافكار الشوفينية والعنصرية والثورية التي كانت ترغب في تغيير العالم بين ليلة وضحاها.

ان الافكار العنصرية التي شاعت في اوربا في تلك الفترة، كانت الافكار النازية والفاشية، واستندت الى العنصر وتمجيده وكذلك تمجيد التاريخ القومي، وتم نقل كل ذلك الى المنطقة، و لا اعني بالنقل انها كانت مؤامرة، بل هو التاثير المتبادل الذي احدثه، الاحتكاك بالدول المتقدمة، ان القول بانه تم نقل هذه الافكار يمثل جزء من الحقيقة، والجزء الاخر هو ان المنطقة، التي عاشت لقرون في ظل نظام تسلطي يفرق بين مواطنيه على اساس الدين، والذي لم يلحقه من الشفاء من هذه الافة الخطرة، اذا المجتمع كانت فيه بذور لمن يريد العودة الى الماضي، ولكن بادوات جديدة، لا بل بخطاب جديد اكثر تقبلا وجاذبية.

وكان الخطاب الشوفيني العروبي المغلف بجرعة فائقة من التدين، وهذا الخطاب تحول تدريجيا الى التدين الخالص، وبالاخص الموجه للجماهير المغلوبة على امرها، ومع استعمال الوسائل العصرية في شحذ ونشر والتكرار، صار للخطاب موضع قدم قوية وراسخة، وبوجود نظرية المؤامرة التي تفسر كل شئ، وحماية الاسلام التي من اجلها يجب التضحية بالغالي والرخيص، تم تكبيل المجتمع وافراده في قبو مظلم لا يسمع الا صدى صوته، او صوت الخوف والهواجس الليلية والحروب القادمة لاجل محو وجوده كيانا وثقافة.

لقد تمكنت هذ الثقافة من وضع قدمها على التراب الاوربي، الا انه تم هزيمتها، وكانت الهزيمة تامة ماحقة، وحتى من يفكر بمثل الافكار التي بشر بها عتاد النازية والفاشية، تلاحظ انهم ينكرون الكثير من افكارها وممارساتها، ويتم تغليف هذه الافكار حاليا بالمخاوف من تغييرات سلبية في المجتمع، مثل السلوك او الرفاهية او العلمانية وغيرها من الاسباب التي قد تقنع البعض.

ان قدرة المجتمع الاوربي لدحر هذه الافة وغيرها من الافاة، التي الحقت العار بالانسانية، لم يتم بصراع فردي، مارسه البعض، بل بدخول المجتمع كله، في جبهة موحدة ضد هذه الافكار، فبعد الانتصار العظيم، والذي تم بمساعدة امريكية بحتة، تم ترسيخ مفاهيم جديدة في اوربا، فتم لاول مرة في تاريخ الدول الغاء مفهوم معاقبة الشعوب، وتم اخذ هذه الشعوب كحالة تحتاج الى رعاية، بعكس ما مارسته معاهدة فرساي لعام 1919 التي ارادت الانتقام من المانيا فعرضت اوربا لموجة حرب اعتى من سابقتها، ان من دخل هذه الحرب للقضاء على النازية والفاشية، كان مجتمعا احس بالعار، فشاركت الاحزاب السياسية والكنائس وكل منظمات المجتمع المدني وكل المثقفين والفنانين، بعمل من اجل ازالة العار الذي لحق بشعوبها، وكان اولى مراحله الاعتراف بالعار الاعتراف التام بما جرى، دون تبريرات منمقة، يراد منها الالتفاف عن الاعتراف الصحيح والتام.

هاهي شعوب الشرق الاوسط، تعيش في حالة مزرية، من التخلف الفكري والاقتصادي والاجتماعي، هاهي قوانين دولها تزداد تسلطا ووحشية، وحكامها يزدادون قوة على شعوبهم، وحكرا للسلطة، وحجزا للحريات، ها هي شعوبنا يكاد ان يكون دخل الفرد فيها اقل مما كان قبل ثلاثون عاما بالضعف، والدخل القومي اسواء، والديون التي تكبل نموها تقدر بارقام فلكية، كل هذه جراء استحكام ايديولجية مظلمة، ايديولوجية ترى نفسها في حرب دائمة مع العالم، لانه مغاير لها، ايديولجية تمنح الحكام حصانة ابدية ما داموا يقولون بأنهم مدافعين عن حياض الوطن والدين، الم يفتوا بعدم جواز الخروج عن طاعة الحكام وان جاروا، فهذا هو الشائع وبهذه التربية تم تعليم اجيال واجيال، بتربية ان كل شئ يهون من اجل الدين والوطن، وكان البشر مادة للطاحونة التي كانت تطحن، بحجة الدفاع عن ما سمى بالوطن، عن السجن الكبير.
هل يمكننا القول انها الصحوة الكبرى في الشرق، وبمساعدة الامريكي ما نشاهده على شاشات التلفاز، هل يمكننا ان ننمي النفس بأننا اخيرا سنعيش في دول تحترم افرادها، كمواطنيين لهم كرامتهم وحقوقهم، قبل ان تسأل عن الواجبات، هل يمكن ان نقول ان الصفعة التي وجهها الشعب العراقي، الى الارهاب والارهابيين، الى كل من ظل يحاول بكل السبل جر شعبنا للخلف، بنفس الحجج الواهية السابقة، وبنفس النغمات النشاز، هل يمكننا ان نقول ان تجاوز الشعب العراقي لحاجز الخوف، قد انتقل الى الشعب اللبناني والمصري، والحبل على الجرار، اميل الى القول، كما شاهدنا زوال الاتحاد السوفياتي، وكنا قد شاهدنا انتصار اوربا الشرقية، وتحرير الكويت وسقوط الطاغية صدام، سنكون شهودا، لخلق شرق اوسط جديد، يفكر بالمصالح وبالحوار وان السلام هو طريق الرخاء. قولوا امين.

تيري بطرس