ألا ليت في الأحبة قيادات الشيعة من يقرأ التاريخ...!


حين جاء الفريسيون اليهود ليسوع العظيم مهللين منتفخي الأوداج من النشوة متصايحين ( جاء أبن الرب ليقيم لنا مملكة أورشليم من جديد )، أجابهم الجميل يسوع " مملكتي في السماء لا بينكم هنا "، وعادوا إلى كنيسهم خائبين، ليشوا به بعد ايام لدى الرومان " قائلين هذا الرجل أفسد في ديننا وحرضنا على شق عصا الطاعة عن الدولة الرومانية "، وكان أن عُلق الرجل وصُلب ورحل إلى أباه مضرجا بدمه...!
لست بوارد التحريض هنا، فلليهود وعيهم في تلك المرحلة ولهم مصالحهم، وللسيد المسيح رأيه وفهمه، لكن ماذا يعلمنا هذا، خصوصا في تلك المرحلة الحرجة الرهيبة الخطيرة من تاريخ العراق.
يعلمنا أن مملكة الله ليست هنا ولن تكون هنا أبدا...!!
مملكة الله أرهف وأرق وأكثر شفافية وتعقيدا بذات الآن من هذه الأرض التي نحن عليها ووجدنا آبائنا من قبلنا عليها.
مملكة الله لا تحدها جغرافيا، لأن مكانها القلوب، مكانها الروح، مكانها السماء، لا الأرض بثرواتها الشحيحة وماءها القليل وهواءها الملوث وكثرة تلك الجموع من البشر المختلفون في كل شيء والمتشاركون في شيء واحد هو هذه الأرض التي لا تكف عن أن تضيق وتضيق وتضيق بنا، حتى يأتي يوم قد نضطر فيه إلى العيش كل ثلاث أو أربع أسر في بيت واحد أوقد نضطر إلى أن نتخلى عن رفاه بيوتنا المستقلة لنقيم في عمائر شاهقة تغص بالشقق الصغيرة مثل أقنان الدجاج...!
مشكلة الدين كما مشكلة القومية، مشكلتان معقدتان غاية التعقيد، وإذا كانت للقومية أرضها الجغرافية المستلبة أو الحرة، فإن مشكلة الدين أنه لا أرض له، لأن أرضه في السماء، وحتى الرسول محمد، حين تساقطت بين يديه حواضر الجزيرة واليمن وبواديها، لم يكن لديه تصور كامل عن كيفية إدارة تلك المساحات الشاسعة من الأراضي، ولم يدرك الرجل كيف ستدار وبأي نهج، وساعة أحتضاره ترك رفاقه في حيرة وبلبلة إذ قال لهم أمركم شورى بينكم، وما أن أجتمعوا حتى أختلفوا وأنتهت الدولة الإسلامية المحمدية بعد عمر لا يتجاوز الثلاثون عاما من ولادتها...!
وكلنا يعرف أن ما حصل بعد ذلك وحتى سقوط بغداد عام 1258، كان نظاما قبليا شبه علماني مع مظهر ديني لا أكثر ولا أقل.
مملكة الله في السماء، هذا ما قاله يسوع العظيم.
لكي تعيش على هذه الأرض عليك أن تفهم حدود الأرض الواقعية التي أنت عليها، أن تفهم أن معك شركاء لديهم مثل ما لديك من قلوب وعقول وضمائر ومصالح، وأن هذه التكوينات ليست بالضرورة كتلك التي لديك، وبالتالي يجب أن ترحم الآخرين وتنتظر منهم الفهم والرحمة لكي ما يستمر العيش المشترك على تلك المساحة المحدودة من الأرض ( مهما بدت واسعة للناضر ).
ليس الشيعة وحدهم من تجاهل هذه الحقيقة الرهيبة الموجعة في أن هناك فرق بين الواقع الذي هو الأرض وحدود هذه الأرض وسعتها وحجم ثرواتها العيانية الملموسة المحسوسة، وبين مملكة الله أو مملكة الطائفة التي هي غير مرئية ولا معلومة ولا واضحة ولا يعتد بها ولا يعتمد عليها في ترسيم العلاقات مع الشركاء الواقعيين الأحياء في تلك الأرض الواقعية المعروفة التي أسمها إيران أو العراق أو لبنان أو البحرين أو....جزر الواق واق...!!
مصيبة الأحبة الشيعة في العراق، لم تبدأ مع ميلاد الدولة الصفوية الفارسية العلوية الوجه والقناع، بل سبقت ذلك إبان حكم الأمويين والعباسيين، ولكنها كانت أهون بكثير لأن الشيعي كان لديه القدرة على الأحتفاظ بما في ضميره خبيئا ( في هذا الذي يعرف بالتقية )، وبالتالي فقد نجحت الطائفة في أن تستمر، وبقناعتي أن (التقية) تعني أن مملكة الرب في القلب، وليس على الأرض، وهذا ما أجلّه في المذهب الشيعي، إذا كان فهمي للتقية صحيح...!
لكن مع مجيء الدولة الصفوية الفارسية وزجّها بالشيعة في معركتها مع العثمانيين الأتراك، بدأت مأساة أهلنا شيعة العراق، وخرجت مملكة الرب من القلب إلى الأرض، وهنا بدأ لأول مرة إقصاء الشيعة من أرضهم وتصفيتهم عرقيا، وكأن المذهب الروحاني الفكري، هو عرقا متميزا وليس ضمن ذات النسيج القومي العربي.
حسنا...يقولون أن الشيعة كانوا يفضلون أن يقال عنهم فرس لكي يتخلصوا من التجنيد في قوات الدولة العثمانية التي كانت تتوسع في أوربا وآسيا الوسطى، ولأجل هذا تخلصوا من عبء القتال مع العثمانيين وليتهم أكتفوا بذلك، بل لقد خسروا مواطنتهم أيضا ليس في دولة الخلافة الإسلامية حسب، بل وفي الدول التي ورثتها، أعني الدولة الوطنية العراقية...!
فلغاية ما قبل بضع سنين، كان الشيعي يحرم من حق الوصول إلى مراتب عليا في الجيش أو الشرطة أو المخابرات أو الطيران...ّ
هو الميراث العثماني إذن... ميراث الدين الذي لا يجيز للآخر حق المواطنة من الدرجة الأولى، لأن الدين كما أسلفنا أما أن يكون بلا وطن، أو أن يكون الوطن فيه لفئة واحدة حسب ولا أكثر...!
هنا نعود إلى قيمة هذا الذي قاله يسوع لأهله اليهود في ذلك الوقت...!
مملكتي في السماء وليس على الأرض...!!
الصفويون أفترضوا أن كل شيعة العالم أتباعٌ لهم، فورطوا شيعة العراق ولا زالوا في مملكة الوهم الشيعية، فكان هذا وبالٌ على أهلنا وأحبتنا الشيعة ليس في العراق حسب، بل وفي لبنان والخليج وكل مكان يتواجدون فيه بين أهلهم وقبائلهم وقوميتهم، وحيث قلوبهم دائما وللأسف ترنوا صوب طهران، صوب مملكة السراب التي لا وجود لها في واقع الحال...!
إذا كنا نحن الشيعة المسلمون لم نقرأ قول يسوع، لأن الرجل على غير ديانتنا، فما بال الأحبة المسيحييون ذاتهم، بل وما بال اليهود ذاتهم...!
تعرض اليهود في بلدانهم في الغرب إلى قمع رهيب طوال العصور الوسطى، وكانت حملات التطهير العرقي الديني قائمة بينهم، وتعززت بشكل رهيب في أواخر ثلاثينات واربعينات القرن الفائت، حين قام النازي هتلر بإبادتهم بشكل شبه كامل...!
ماذا كانت الذريعة يا ترى ؟
إشكالية الولاء... أزدواجية الولاء...الخيانة الجماعية العظمى للوطن...ألمانيا...!!
أما كان اليهود المساكين أو قياداتهم السياسية وأصحاب الملايين، يعرفون خطورة أن يتسببوا في هزيمة بلدهم ذاته ؟
أما كانوا يعرفون أن الله لا وطن له، وأن الوطن الحقيقي هو هذا الذي تشترك فيه مع الآخرين ممن يخالفونك في العقيدة والرأي، ويلتقون معك بما هو أقرب إلى الأرض من السماء، ألا وهو المشتركات الإنسانية، اللغة، العرق الواحد، الجغرافيا الواحد، أحلام الرفاه المشترك من ثروات هذه الأرض المشتركة...؟
للأسف...يكرر التاريخ نفسه، ويذهب الألاف بل الملايين ضحايا، لوهم مملكة الله التي لا تقبل آخر فيها، إلا من يملك ذات الطلاسم ويردد ذات الدعاوى...!
الأرمن خسروا في هبة قومية تركية بشعة قرابة المليون مواطن، في أكبر مجزرة تطهير عرقي تسبق مجزرة يهود أوربا...!
لماذا ؟
الولاء الديني لمملكة الله الأرثوذكسية الروسية...!
الآشوريون ذاتهم، قمعهم الكرد والأتراك المسلمون بأسم الرب ومملكة الرب الإسلامية السنية الحنفية، والحجة أن هؤلاء عملاء للروس والإنجليز والفرنسيين و...و...و...الخ.
وتشتتنوا في امصار العالم تماما كما تشتت اليهود قبل آلاف السنين حين أقصاهم حلف المسيحيين مع المسلمين...!
ثم...نأتي لمجازر صدام حسين وأهلنا الأحبة السنة الذين لا يستطيعون العيش أو التعايش مع الرافضة الذين يسبون عمر وعثمان من أجل علي والحسين، علما بأن الجميع رحلوا منذ آلاف السنين، بخيرهم وشؤّهم، فلا هم نجحوا في إقامة مملكة الله على هذه الأرض، ولا نحن قادرين على فعل ما فشلوا هم في أيامهم في فعله.
نقول...نأتي لمجازر صدام حسين وحملة الإبادة والتطهير العرقي الذي يأبى خلفاء الجاني الآن الأعتذار عنها، هذا إن لم نقل أنهم يسوقونها متذرعين بذات الذريعة، إلا وهي الفرس وإزدواجية الولاء، ومصيبة الشيعة في عجزهم عن الفصل بين الأرض والسماء، بين ما لله وما لقيصر، بين عروبتهم وأنسابهم ومصلحتهم الواقعية العيانية وبين وهم مملكة الله التي يديرها الولي الفقيه في إيران...!!
تقولون للقيادات السنية الآن، يا ناس أعتذروا عن جرائم صدام حسين وتصفيته للشيعة، أفعلوها من أجل الوحدة الوطنية ومن أجل أن يستمر العراق ويتجاوز هذا الأرث المرعب الذي تركه صدام حسين، يقولون لك أنظر إلى التدفق الإيراني وأحكم بنفسك، أنظر إلى الحشيشة الإيرانية، السلاح الإيراني، الأموال الإيرانية التي تتدفق على بعض الأطراف، المخابرات الإيرانية المقيمة بين ظهرانينا...!
ونرى العراق يسقط أو يكاد في الفم الإيراني ذاته...!
مجازر الكاثوليك بحق البروتستانت في فرنسا وبقية أوربا في العصور الوسطى، مجازر المسيحيين بحق اليهود طوال العصور الوسطى، مجازر العثمانيين المسلمين في أوربا الشرقية والوسطى ثم بحق الأرمن والآشوريين، مجازر هتلر بحق اليهود ثم أخيرا التطهير العرقي الذي قام به صدام حسين وجاء الزرقاوي وهيئة علماء المسلمين لإكماله اليوم، سببه دائما إزدواج الولاء بين مملكة الإنسان على هذه الأرض ومملكة الله التي ليس لها مكان على الأرض...!
هل يعي أخوتنا الشيعة دروس التاريخ هذه، فيكفوا عن العشق الإيراني رحمة بأبناءهم وأجيالهم وأنسابهم وقبائلهم وتاريخهم ولغتهم وعروبتهم ومستقبلهم وعراقهم وثروة عراقهم...؟؟؟؟
وهل يعي السنة أن عمر وأبا بكر وعثمان ما عاد لهم وجود الآن وأن مملكة الله لا مكان لها على هذه الأرض وأن الشيعة والأيزديين والمسبيحيين واليهود واللا دينيين هم أهل البيت مثلهم تماما، وليس من أحد أكرم من آخر إلا بالحسنى والعمل الصالح لوجه هذا الوطن لا لوجه الله، لأن مملكة الله ليست هنا...؟
هل يا ترى يعقلون..؟
نتمنى ذلك..!!