"وطني أيها المعروض كنجمة صبح في السوق"
مظفر النواب

نسرين عزالدين : لطالما ظلَ المعنى الدقيق لكلمة "وطنية" مبهمٌ بالنسبة ليّ، ولعل ذلك كان ولا يزال السبب وراء عدم إشهاري وطنيتي "بمناسبة وبلا مناسبة"، فلا غضب ولا إستياء ينتابني حين يتهمني أحدهم بقلة الوطنية.على العكس، أكتفي بابتسامةٍ وهزةِ رأس وعبارة مديح :" أحسدك على وطنيتك ".
لم تفسر ليّ والدتي مفهوم الوطنية يوما، ووالدي المهاجر دوما تخلى عن الأوطان برمتها وبالتالي سقط عنه الحق في تفسيرها، فتبرع كتاب التربية المدنية في إيضاح هذه الكلمة وفقا لعمري المدرسي ، وترك مهمة تطويرها وإستيعابها لي .
حسنا .. "الوطنية" كلمةٌ تم اشتقاقها من كلمة وطن، فما هو الوطن .. هل هو حيز جغرافي، أم إنتماء عقائدي، أو ديني، أو سياسي، أو تشابه الألوان والأشكال؟
وبصيغة أخرى، هل وطنيةُ وطنٍ ما تختلف عن وطنية وطن آخر؟ أم أنها وطنيةٌ مطلقة لكل الأوطان بلا تمييز؟.
إن كانت "الوطنية" هي محبة الأرض، فأي أرض هي المقصودة؟. ولو كانت على سبيل المثال النطاق الجغرافي للبلد فإن محبة كل الأرض أمر غير وارد. فما أعرفه فعليا هي المنطقة التي نشأت فيها، وأي بقعة أخرى ضمن النطاق الجغرافي للوطن لا أعرفها تمام المعرفة، ولا تربطني بها أي عاطفة تذكر. وعليه ستكون "الوطنية" وفق ذلك محبة منطقة ما من الأرض وليس الأرض برمتها. مما يجعل مدينتي أو قريتي هي وطني. وهكذا يصبح المعنى الأول لها هو وطنية مناطقية .
من جهة أخرى قد تكون الوطنية هي الشعور بالإنتماء للشعب الذي يقع ضمن الحيز الجغرافي. وما طبق سابقا، يمكن تطبيقه الآن أيضا. فإنتمائي ينحصر بالمجموعة التي أعرفها، طائفة، أو سكان حي، أو حزب، أو جمعية، وبالتالي البقية الباقية من سكان وطني لا صلة لي بهم، وربما لا يهمني إن وجدوا على هذا الكوكب أو لا. فليس بالإمكان الإنتماء إلى سكان مجهولين.
الخيار الثاني بدوره سيحيلُ أيضا إلى وطنية فئوية، فوطني هو من أعرفهم وفقط.
وفي حال سلمنا جدلا بضرورة الدمج بين النطاق الجغرافي والشعور بالإنتماء، فإن الوطن يصبح كالتالي: الأرض التي تحبها وتقطنها مجموعة تنتمي إليها فكريا، أو عاطفيا، أو عقائديا، أو ثقافيا، أو سياسيا.
قد تكون "الوطنية" من جهة أخرى هي الولاء والثقة بسلطة ما تدير أمور الفئة التي تشغل نطاقا جغرافيا محددا، وبقدرٍ ما تكون مواليا لهذه السلطة، بقدرِ ما تكون وطنيا، وهنا يختزل الوطن في السلطة، وتختزل الوطنية في الولاء السياسي للحكومات والنظم.
من المرجح أنه بالإمكان إعتماد أي تفسير يناسبني أو يبدو لي منطقيا أكثر من غيره، لكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، فهناك التعبير الذي يربكني وبشدة .. قلة الوطنية حينما يوصف بها أحدهم، وكأنها سيف يشهر للترهيب والتخويف.
إنطلاقا من هذا الإستخدام البرغماتي لشعار "الوطنية"، ولمز الشخوص بقلتها أو نقصها، وجب منطقيا وجود معيار محدد للوطنية في ذهن هذا "الوزان" يكيل من خلاله وطنية الأفراد، ليرى مقدار الزيادة والنقص فيها. فعلى سبيل المثال هل تعتبر شقيقتي أكثر وطنية مني في حال إعتمدنا محبة الارض والإنتماء معا مفهوما للوطنية. لأنها متزوجة وبالتالي ستنتمي لنا، ولزوجها، ولقريتنا، وقريته.. حيز جغرافي أكبر وإنتماء فكري وعاطفي وعقائدي أوسع.
صدفة فتحت المجال أمام تعريفات إضافية للوطنية. فلغايةٍ ما في نفس يعقوب شرعت بالسؤال عن تاريخ عيد الإستقلال. لم أتردد قبل السؤال ولم أفكر أن عدم معرفتي قد تنتقص من وطنيتي أمام الأخرين، فببساطة كان السؤال "متى عيد الإستقلال؟" .
صمت مريب سيطر على الموقف .. الترجمة الأولية هي إستغراب من جهلي وإحتقار لقلة وطنيتي. لكن التفسير الأول كان عكس ذلك تماما فلا أحد من الموجودين يعرف تاريخ عيد الإستقلال.
لم نحزن أو نخجل من قلة معرفتنا، بل شرعنا نسأل كل من يمر عن تاريخ عيد الإستقلال. وعلى ما يبدو وإن كان هذا التاريخ هو نقطة إرتكاز تقييم الوطني من غير الوطني، فالوضع أسوء مما ظنت ولست الوحيدة التي خنت وطني من خلال جهلي .
تنوعت الأجوبة بين " لا أعرف" و"لا أكثرث". البعض أجاب بفخر وثقة ولكن للأسف لم نتمكن للوهلة الأولى من تهنأته، فكنا لا نزال ننتظر تكرار التاريخ نفسه من أشخاص مختلفين كي نتأكد من صحته. فهؤلاء جميعهم باتوا وطني، لأننا وببساطة ننتمي إلى وطنِ اللآوطنيين!.
لا أعلم لمَ سيطرت تلك الصورة على مخيلتي في تلك اللحظة .. صورتي وأنا اتلو بيت شعر وشعور بالفخر يتملكني، لم أعرف حينها سبب السعادة الغامضة وأنا أنظر في عيون أستاذ اللغة العربية وأردد " وطن النجوم أنا هنا .. حدق أتذكر من أنا".