من الفرض والرفض الى الرادع الديني :
معضلة الانتحار بين الحرية الفردية والادانة الاجتماعية

إيلاف: تحيط بكلمة إنتحار هالة من "العار" التي تدنس موت المقدم عليه، فتسقط عنه حقوقه الدينية لإنتزاعه حياة لا يحق لها بمسها، ويتحول إلى فقيد لا يطيب لأحد ذكره. وبالتالي يتحول موته إلى معضلة مليئة بالتناقضات، فهناك الموت الذي يستوجب بالضرورة الحزن وهناك الانتحار الذي يولد الغضب وعدم القدرة على الحزن بالشكل المطلوب لإعتبارات دينية وإجتماعية مع إنتفاء أي حق أو حرية شخصية تبرر فعل الانتحار..وإنطلاقا من التحريم الديني الذي يعتبر الانتحار جريمة، فإن أي نقاش في الحرية الشخصية لهكذا فعل مرفوض كليا.
ما الذي يدفع بأحدهم إلى الإنتحار..أهو اليأس أم الإحباط أم الكآبة أم أنه وببساطة خيار شخصي ؟ البعض يعتبره الحل الأخير لمشاكل بدت لصاحبها وكأنها لن تنتهي ففضل الهروب منها إلى مكان آخر، هذا الهروب الذي يصنف في خانة " الجبن" ثم لا تلبث هذه الصفة ان تمتد لتوصم "الجريمة" برمتها.. فالانتحار جريمة جبانة. أما البعض الآخر فيعتبر الإنتحار خيار شخصي للتصرف بحياة لم يملك صاحبها رأي في وجودها وإنما منح خيار الاستمرار أو التخلص منها.لكل ذرائعه ولكل حججه لكن من المسلم به جدلا أن اللحظة "الحاسمة " أي تلك اللحظة التي يقرر فيها المعني إطلاق النار على نفسه أو تناول الحبوب أو رمي نفسه من مكان مرتفع او امام سيارة تتطلب شجاعة كبيرة، فعلى الرغم من المشاعر المختلفة التي تنتاب المنتحر إلا ان التمسك بالحياة لا بد أن يفرض نفسه وبقوة.. فإما الاستسلام لهذه المشاعر أو معاندتها و الانتصار عليها وتحقيق الهدف المنشود.
وخلافا للفكرة الشائعة حول دوافع الانتحار، فإن عدد كبير من الدراسات النفسية تؤكد أن الكثيرين من الذين يقدمون على الإنتحار أو يفكرون به غير مصابين بأمراض نفسية أو عقلية وأن القاسم المشترك لمعظم حالات الانتحار هو الشعور باليأس وفقدان الأمل بالتقدم في الحياة وليس بالضرورة بسبب أمراض عقلية. أما الاختلاف فيكمن في المسببات التي أدت إلى هذا اليأس أو فقدان الأمل من جهة أو التوصل إلى قرار شخصي نتيجة قناعات خاصة بضرورة التخلي عن الحياة.


بين الخيار الشخصي.. والأسباب النفسية

حرمت جميع الأديان الإنتحار، فقتل النفس من الخطايا الكبرى التي تجعل مصير المقدم عليها جهنم وبئس المصير، من هنا فإن النقاش في الحرية الشخصية بالإستمرار بالحياة أو عدمه مبرر وإن كان محرم. فجزء كبير من "البشرية" لا تؤمن بالأديان أو بالكتب السماوية وتعاليمها،وهذا لا يعني أن الانتحار حكر على هذه الفئة فقط، فالمؤمن قد يقدم على الانتحارأيضا وإن بنسبة قليلة ولأسباب مرضية بحتة فالمرض النفسي في هذه الحالات يتغلب على الرادع الأقوى لديها وهو الدين.

يميل المدافعون عن الحرية الشخصية بالإحتفاظ بالحياة أو الروح أو التخلص منها الى تفسير قناعاتهم عبر مبدأ الفرض والرفض، فوجودهم تم فرضه وبالتالي لهم الحرية كاملة بقبول البقاء أو رفضه. وفي حال الرفض يقوم هؤلاء بتحديد الوقت والزمان والكيفية، فالوقت يتم تحديده من خلال عدة أمور لا يزال المعني يسعى إلى تحقيقها،وبعد إتمام "مهماته" التي وضعها لنفسه تنعدم الاسباب التي تدفعه للاستمرار، وأي قبول بالبقاء سيخضعه لسلسة من التكرارت التي تنتهي.

.ببساطة يعتبر المدافعون عن الحرية الشخصية أن حياتهم أو روحهم أو السبب المسير لاجسادهم ملكا لهم وخاضعا لقوانينهم الخاصة، فالقرار الاول لوجودها تم فرضه ما يضع حتمية "عدم فرض" الاخير أي خسارتها وإلا فقد المغزى من وجوده..فان كان لا بد من تقبل الفرض في الوجود فإن تقبل الفرض في الانتفاء يسقط أي صفة " فردية إختيارية" لوجوده. هذه القوانين "الاختيارية" تنتفي مع الايمان بالله والحساب وقدسية الروح،الا أن الرادع الديني لم يتمكن من إلغاء حالات الانتحار بشكل كامل لدى المؤمنين وان كانت الأسباب لدى هذه الفئة غالبا ناتجة عن أمراض نفسية.
وبعيدا عن الاختيار الشخصي يميز علماء الاجتماع بين عدد من العوامل المصاحبة أو المؤثرة في حالات على الانتحار. ومنها السن والجنس فالنساء أكثر تهديداً بالانتحار اما الرجال فأكثر تنفيذا له والحالة الاجتماعية فالمتزوجين أقل انتحاراً من غير المتزوجين إضافة الى التدين. إضافة الى عدة عوامل أخرى كنوعية العمل او الوظيفة التي يمارسها الشخص إضافة الى المستوى الاجتماعي و الحالة الصحية الجسمانية و الحالة النفسية التي تعتبر من أقوى الدوافع نحو الانتحار.

أما الاسباب فيمكن تلخصيها بالاجتماعية والنفسية والبيولوجية.
اولا العوامل الاجتماعية:
توصل عالم الإجتماع إميل دوركايم إلى تقسيم حالات الانتحار طبقاً للموقف الاجتماعية الى ثلاثة أقسام،الانتحار الأناني ( Egoistic)وهنا يكون المنتحر في حاله عزلة وليست له ارتباطات بأي مجموعات اجتماعية والانتحار الايثاري( Altruistic ) وهنا يحدث العكس حيث فالمنتحر شديد الإنتماء إلى مجموعته وهو لذلك يضحي بنفسه من أجلها والانتحار الشاذ ( Anomic ) والذي تضطرب وتتشوه فيه العلاقة بين الشخص والمجتمع لذلك يسلك سلوكاً مناقضاً للأعراف والتقاليد أو غريباً عليهما.
ثانيا العوامل النفسية :
يرى فرويد أن الانتحار هو عدوان موجه إلى الداخل يستهدف موضوع للحب تم دمجه بصورة معينة فثارت نحوه مشاعر متناقضة من الحب والكره.، ولذلك فهو حين يقتل نفسه فانه في الحقيقة يوجه العدوان نحو هذه الصورة الداخلية التي يكرهها،إذن فقتل النفس هنا يعني قتل شخص آخر داخل هذه النفس، اي محاولة لدفع الشخص " المكروه ط الى الشعور بالذنب اوالالم.

ثالثا العوامل بيولوجية
من الملاحظ إكلينيكيا أن هناك عائلات يكثر فيها الانتحار والمثل الشهير لذلك عائلة إرنست همنغواي الروائي الشهير فقد انتحر همنغواي وانتحرت أخته وانتحر الأب قبلها، وانتحر أشخاص آخرون في العائلة.ويمكن أن تكون الجينات الخاصة بالانتحار جينات منفصلة تؤدي إلى نوع من السلوك الاندفاعي من خلال اضطراب في مستوى مادة السيروتونين في المخ أو تكون هي نفس جينات الاضطرابات النفسية كالاكتئاب وإدمان المخدرات والفصام واضطرابات الشخصية.

ولوسلمنا جدلا بصدق كل هذه الاسباب التي طرحها علماء الاجتماع والنفس سابقا والتي يطرحها العلماء اليوم، فإن الرادع الحقيقي لأي شخص هو نفسه.. مهما كان التعبير العلمي الصحيح للنفس البشرية. فالانسان المقدم على الإنتحار سيكون بمواجهة موته في لحظة حاسمة وحيدا، والقدرة على التنفيذ نابعة منه وبالتالي توقع قدرته من عدمها غير دقيق في بعض الحالات. من المرجح ان المنتحر موضع الدراسة قد عبر المراحل كلها تماما كما "نصت " النظريات لكنه وفي لحظة ما، قد ينسف هذه النظرية من أساسها.. فتصرفات الإنسان كما هو معروف لا يمكن توقعها بنسبة دقيقة مئة في المئة، فما بال انسان يوشك على قتل نفسه، اي التخلي وبشكل تام عن " انانيته " وقتل "الأنا"..


الرداع.. الايمان ام حب الذات

ترتكز عملية الانتحار برمتها على تلك اللحظة التي تسبق التنفيذ، فالتخطيط "النظري" سهل مقارنة بالتفيذ عمليا. تتعدد القصص وتكثر الصور التي تروى عن اللحظة التي تسبق الانتحار، فالبعض يروي ان حياته كاملة تمر امامه فيسترجع ذكرياته كاملة والبعض الاخر يروي قصص عن لحظة تنور فتتفتح امامه احتمالات لا حدود لها.. ومهما اختلفت القصص وتعددت لكنها في الواقع "كذب نفسي" يمارسه المعني طوعا كي يثني نفسه عن الانتفاء. هذا الانتفاء الذي يجعل المرء يتراجع فالافكار الاكثر صدقا التي قد تنتاب المقدم على الانتحار في لحظته الحاسمة تتراوح بين تعداد من سيحزن عليه ومن سيفتقده الاكثر وبين حزنه شخصي لعلمه ان الحياة ستستمر بعد رحيله، فاصدقائه الذين سيعتكفون عن ممارسة "الروتنيات" لفترة لا بد ان يعاودوا ممارستها في مرحلة ما.. بمعنى اخر يبرز حب الذات بشكل كبير في تلك اللحظة فيخاف المرء من انتفاء ذكراه بعد فترة من الزمن فيتراجع.
هذا في حال غياب الرادع الديني، فالمؤمن بالله يخاف من الله.. ففي النصوص الدينية نهي عن قتل النفس وتحذير من عواقب قتلها." ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً * ومن يفعل ذلك عدواناً وظلماً فسوف نصليه ناراً وكان ذلك على الله يسيراً " (النساء 29 -30)
هذا الموقف الديني الحاسم من مسألة قتل النفس كان له أثر كبير في انخفاض معدلات الانتحار في الدول الإسلامية بشكل عام.فالتدين لدى الإنسان يعطيه دعماً روحياً واجتماعياً إضافة الى الشعور بالرضا الذي يجعله يتقبل إحباطاته ومعاناته بدرجه أفضل من غير المتدين، وتعطيه أملاً في انفراج الأزمة مهما اشتدت.
إذن، الخوف هو الرداع في كلتا الحالتين، خوف من الله والعقاب من جهة وخوف من الانتفاء والتحول الى شخص كان فيما مضى ولم يعد له وجود الان..فالبقاء هو تذكير لكل المحيطين به بحاجته الى الاهتمام.
فحب البقاء نتيجة للخوف..خوف من عقاب ما وخوف من الانتفاء.

دليل للإنتحار

وللبشر في طرق تفكيرها شؤون، فخلافا للمدافعين عن الإختيار الشخصي في الانتحار او عدمه تبرز فئة تساعد الراغبين في الانتحار على تنفيذ مهمتهم. فالفئة الأولى تدافع فقط عن الحرية الشخصية ولا تعنى باي شكل من الأشكال الى "تعليم " طرق ووسائل الإنتحار.

وعلى الرغم أن المحطة التي تشرح كيفية الإقدام على الإنتحار موجهة لمن يعانون من امراض عضال لكن ذلك لا ينفى خطورة الرسالة التي توجهها. هذه المحطة التي تبث في ولاية اوريغن الاميركية، أول ولاية أميركية يسمح فيها للمواطنين بالانتحار بمساعدة الأطباء، تشرح للمشاهدين كيفية الانتحار. ويحمل البرنامج عنوان المهرب الأخيرويقدم قوائم تفصيلية لأخطر ثلاثة عقاقير مميتة ويقدم نصائح حول إمكانية العثور عليها سواء من خلال أدوية يصفها الطبيب أو بدونها. هذه الرسالة التي تجعل من الإنتحار امرا مقبولا قد يشجع المصابين بالإكتئاب للتمادي بأفكارهن.
ولا يقتصر الأمر على التلفزيون فقط، بل يتعداه الى الانترنيت أيضا.فالانترنيت تعج بمئات الجماعات الذين يقدمون النصح والارشاد وحتى المساعدة لمن يريد الانتحار فتجد مقالات مطولة عن أفضل طرق الانتحار واجابات على رسائل تطلب النصائح. ما يؤكد نظرية " الخوف " الذي تجعل المقدم على الانتحار يتراجع، من هنا كان البحث عن مساعد او مساند لا يكترث عاطفيا له وبالتالي قادر على مساعدته.

معضلة كبيرة تحيط بالإنتحار، فمن آمن سلم أمره الى ربه وإنتظر لحظة يقرر استعادة روحه ومن لم يؤمن جعل من روحه مسؤوليته الخاصة التي يحق له، وفقا لقناعته التصرف بها كما يحلو له. فإن كانت حرية شخصية، فعلى الاخرين إحترام رغبته، لكن إحترام هذه الرغبة يتوقف حين تصبح هذه الحرية مصدر ألم وحزن للاخرين.نقاش لا خلاصة له.. فمكنك إحترام رغبة الاخر في قتل نفسه ويمكنك الا تحترمها، كما يمكنك ان تحزن لفقدانه ويمكنك الا تحزن..قد يكون الانتحار حين يتخلى عن المرء قناعاته الدينية خيار الشخصي فإن التعامل معه ومع المقدم عليه خيار شخصي ايضا.