واحد من كبار شعراء القرن العشرين الذين أنتجتهم اللغة الأسبانية. ولد روبرتو خواروث في الخامس من تشرين الأول (اوكتوبر) 1925 في كورونيل دوريغو (الأرجنتين). درس الفلسفة والآداب في جامعة بوينس ايريس حيث تخصص فيها بالإعلام وعلم المكتبات. بعد ان تولى الدكتاتور بيرون الحكم في الأرجنتين، اضطر خواروث أن يعيش في المنفى شاغلا منصب الأخصائي في اليونسكو في بلدان أميركا اللاتينية. أسس مجلة "شعر" (1958 - 1965) التي اشتهرت بدراساتها وانفتاحها على التجارب الشعرية العالمية والتف حولها كبار الأسبانية اللاتينية كبورخيس، بورشيا، باث... تجلى خواروث فيها مترجما رهيف الحساسية ودقيق الشعرية خصوصا في ترجماته لأنتونان أرتو وبول إيلوار وغيرهم من شعراء فرنسيين.. من هنا اعتمدنا الترجمة الفرنسية لأشعاره بدل الانجليزية، لأن خواروث أشرف بنفسه على كل ما ترجم له من أعمال إلى الفرنسية.... لكننا، أنى غمض البيت، عدنا إلى الأصل الأسباني.
توفي روبرتو خواروث في الخامس من تشرين الثاني (نوفمبر) 1995 تاركا 15 ديوانا شعريا يحمل عنوانا واحدا هو "شعر عمودي"، وقصائد كل ديوان مرقمة لا تحمل أي عنوان؛ أي تلميح لتأويل يحبسها. موحيا لنا هكذا بعمودية "تمكن القصيدة من فتح طريق شعري في الفكر". فالشعر، في نظر خواروث، هو "المحاولة الرائية والمعرضة للخطر؛ محاولة بلوغ المجال الذي شغل الإنسان وأقلقه على الدوام: مجال المستحيل الذي يبدو احيانا مجال العجز عن الوصف؛ النطق... فالإنسان خُدع وتم تضليله بإصرار، وأبعدت قدراته على التخيل والرؤيا والتأمل الى هامش التزيين واللا فائدة. انفصل الشعر عن الفلسفة في اوقات معينة كارثية في تاريخ الفكر. مصير الشاعر الحديث هو توحيد الفكر، المشاعر، المخيلة، الحب، الإبداع. وهذا كشكل حياتي وكطريق موصل للقصيدة، ونحت هذه الوحدة". وعلى سؤال فيما اذا كانت صورة العمودية في شعره تعني عمودية صاعدة كما عند سلفادور دالي المعبرة عن الروح الأسبانية ام هي عمودية السقوط، الهبوط في الذات. أجاب خواروث بالعبارة التالية: "منذ صغري، شعرت وكأن لدى الإنسان ميلا نحو السقوط. يجب أن يسقط الإنسان. وعلينا ان نقبل هذه الفكرة الصعب تحملها، فكرة الفشل، في عالم مكتوب عليه النجاح. لكن، بتناظر السقوط، هناك في الإنسان وثبة إلى الأعلى. الفكرة، اللغة، الحب، وكل إبداع، يساهم في هذه الوثبة. إذن، هناك حركة مضاعفة للسقوط والارتفاع في الإنسان، أشبه بقانون الجاذبية المتناقضة. هناك بعد عمودي بين كل حركتين... كتب غاستون باشلار ذات مرة بأن زمن الشعر هو زمن عمودي. ملمحا إلى هذه اللحظات التي يتأخر فيها الزمن أو يأخذ إيقاعا آخر، ويضيّع منحى الديمومة الخطي، من أجل استرداد الفكر، كما يقول رامبو، في "زمان عمودي معاش وحاضر".
عندما تقرأ أشعاره، حواراته، مقالاته التأملية، تمنحنا شفافيةُ رصده للأشياء أجنحة تحلق بنا نحو التساؤلات المطلوبة، نحو "صوت القصيدة" لغة الكائن، الصوت الذي هو الظل الذي يسقطه الفكر". وها هو الشعر لا ينفك يؤول باتجاه الصمت المتمرد وكأن هناك "أبجدية صمت، لم نتعلم تهجيتها". فما من "إنفصال بين الصمت واللغة. ليس هناك لغة بلا صمت، لأن كل كلمة لها عبء الصمت. ليس فقط الصمت الطالع حدودا عندما ننجز شيئا ما. الصمت هو داخل الكلمات، داخل القصيدة. الصمت هو قبل كل شيء المجهول الذي نحمله فينا. بل أقول إن الشرط الأولي للشاعر الحقيقي يكمن في قدرته على تحميل الصمت الداخلي على الكلام. أعتقد أنه ليس هناك شعر بلا استلهام الصمت باضطراد. ولهذا السبب أعود دائما إلى فكرة الصمت. أرغب، على نحو ما، أن أجعل الصمت ملموسا في الشعر".
شعر روبرتو خواروث شعرٌ غير ملتزم إلا بسيرورته العمودية نحو أفق مفتوح على كل التساؤلات؛ تأجيج ما هو مشتعل في المنطفئ. شعرٌ، حيث الدنيوي يتجلى ميتافيزيقياً، تتفجر فيه حياةٌ القت بالموت في قمامة؛ "حياة يستخدمها الكون أداة اكتشاف".

1
ليس لبيت الحلم
أبوابٌ ولا نوافذَ،
ولا أركان ثابتة،
فهو يستنير بنور أغبش مجهول
وليس له مالك.
بيت الحلم
لا يستنسخ صوره.
ما من لوحات على الحيطان.
أشكاله تتقاطع وإنعكاساته
كما لو أن جوهره كان الزمن،
على انه زمن مرئي وبلا أقيّسة.
نحن لا نسكن في بيت الحلم:
هو الذي يقيم فينا،
وكأن الأدوار قد انقلبت.
ليس بوسع أحد السكن فيه،
باستثناء غيابنا ربّما.
أو لعلّ غياباً آخر،
غياباً أكثر تغيّباً أيضاً.



2

استيقظت باكراً جداً
وبدأت أفكّر بالأبدية
لا بالأبدية الكبرى للصلوات
بل الأبديات الصغيرة المنسية.
الجزء الذي لا يجري من النهر،
هذا الذي يصمت في المدينة على الدوام،
الموضع الذي لا ينام في جسدك النائم،
هذا الذي لا يستيقظ في جسدي المستيقظ.
هكذا أدركت أن الأبديات الصغيرة
أفضل من الأبدية الكبرى.
فلم أقدر على النوم.



3

تتقفى العين على السقف الأبيض
خطاً واهناً أسود اللون.
يأخذ السقف على عاتقه وهم العين
فيصبح أسود.
وها أن الخط يمّحي
والعين تنغمض.
هكذا تولد العزلة.



4

هناك رسائلَ مصيرها الضياع
كلمات سابقة أو لاحقة إلى المرسل إليه
صور تأتي من جانب الرؤية الآخر
إشارات تصوّب إما أعلى هدفها أو أسفله
إشارات بلا شفرة
رسائل مغلّفة برسائل أخرى
إيماءات تتكوم إزاء الحاجز
عطر يتضاءل دون أن يجد أصله
موسيقى تلتف حول نفسها
كالحلزون المهجور إلى الأبد
لكن كل ضياع هو ذريعةٌ للقاءٍ.
فالرسائلُ الضائعة
تبتكرُ على الدوام هذا الذي عليه أن يجدها.



5

أستيقظ.
أنام.
أحلم أني أستيقظ.
أحلم أني أنام.
أحلم أني أحلم.
أحلم أني أحلم
بأني مستيقظ
أحلم أني أحلم
بأني نائم
أحلم أني أحلم
بأني أحلم.
أنا مستيقظ.



6

أحفرُ ثقبا
بحثا عن كلام مدفون
إن أجده
سيسد الكلام الثقب
إن لا أجده
سيبقى الثقب إلى الأبد مفتوحا في صوتي
البحث عن المدفون
يقضي أن نتبنى الفراغات دون الحصول على نتيجة.



7

النور ذكرى الظل
الظل ذكرى منبع بعيد
حيث لا وجود للانفصال
هناك كان الصوت والصدى معا
الحب والنسيان معا
الحقيقة والغلط معا
الليل والنهار معا
النور يفصل أكثر من الليل
النور هو ذكرى ذكرى
اللا فائدة من التذكّر.



8

لماذا نتكلم؟
لماذا نصمت؟
ليس هناك أُذُنٌ لكلامنا
وكذلك ليس هناك أذُن لصمتنا.
يتغذى أحدهما من الآخر
وأحيانا يتبادلان مكانهما
وكأنهما يريدان أن يحمي كل منهما الآخر.



9

نافذة مفتوحة
ونافذة مغلقة
شيء ما يمر عبرهما
شيء ما يخرج عبرهما
كل النوافذ
متشابهة
مغلقة أو مفتوحة
والإنسان،
الخالق الوحيد للنوافذ،
يحوّل الهاوية
إلى نافذة أخرى
غير مهم سواء كانت مفتوحة أو مغلقة.



10

نطرق الباب من جانب
من الخارج نحو الداخل
ثم نطرق من الجانب الآخر
من الداخل نحو الخارج
ثم ننتظر الأجوبة
ولا تصلنا إجابة واحدة.
ربما تنتظر كل واحدة الأخرى

11

الزمن هو وسيلة
الأبد ليهسر علينا
نحن أطفال هذا وذاك الهجينون
ولوْ أنَّ للأبد طرقا أخرى للاعتناء بنا
فإن الزمن، ربما، هو الأسلوب الأكثر إحسانا.
وسيلة أخرى، مثلا، الموت
وأخرى أيضا النوم.

لابدّ أن له وسائل أخرى:
لا حدود لمخيلة الأبد
فليس إذاً من الغرابة أحيانا
لكي يعتني بنا مضاعفة
يتخذ الأبدُ شكله هو.


12

استيقظت ووجدت كسرة حلم بين يدي
ولم أعرف ماذا أفعل بها
بحثت عن كسرة يقظة
لكي أكسوها بها
لكن كسرة الحلم اختفت
والآن بين يدي كسرة اليقظة
لا أعرف ماذا أفعل بها

أن أجد على الأقل أيد أخرى
تستطيع أن تدخل الحلم معها


13
الاحتفاء بما هو غير موجود
أهو طريق أخرى للاحتفاء بما هوموجود؟

الاحتفاء بالمستحيل
أهو أسلوب آخر للاحتفاء بالممكن

الاحتفاء بالصمت
أهو وجه آخر للاحتفاء بالكلام؟

الاحتفاء بالعزلة
أهو مسلك آخر للاحتفاء بالحب

الاحتفاء بالقفا
أهو شكل آخر للاحتفاء بالوجه

الاحتفاء بما يموت
أهو طريق آخر للاحتفاء بالحياة؟

القصيدة دوما احتفال
لانها دوما الحدّةُ
القصوى لشظية من العالم
سندها المجبول من حمى معادة
قبضتها التحمسية
نطقها المضبوط، والأكثر حزما
كما لو أن الصوت فجأة أينع


القصيدة دوما احتفاء
حتى لو ينعكس على حدودها الجحيم
حتى لو يتقلص الزمن كعضو مجروح
حتى لو يبعثر الممثل البهلوني الذي يدفع الكلمات
دوراناتَه وتشقلباتَه

لا شيء يمكنه حجب اللامتناهي
إيماءتها اكبر من التاريخ
خطوتها اكبر من الحياة


14
حصة النعم
الموجودة في "كلا"
وحصة الـ"كلا"
الموجودة في "نعم"
تخرجان أحيانا من فراشهما
وتتحدان في فراش آخر
لا يعود لا "نعم" ولا "كلا"

ففي هذا الفراش يجري نهر
المياه الرهيفة.

15
الحياة ترسم شجرةً
الموت يرسم أخرى
الحياة ترسم عُشاً
الموت يستنسخه
الحياة ترسم طيرا
لكي يشغل العش
والموت كذلك
يرسم طيرا آخر.

اليد التي لا ترسم شيئا
تتنزه بين كل الرسوم
ومن وقت إلى آخر تغير مكان أحد الرسوم
مثلا:
طير الحياة
يشغل عش الموت
على الشجرة التي رسمتها الحياة.

في المرات القادمة
اليد التي لا ترسم شيئا
تمحو رسما من السلسلة
مثلا:
شجرة الموت
تسند عش الموت
وما من طير يشغله.

وفي المرات القادمة
اليد التي لا ترسم شيئا
تتحول نفسها
إلى صورة زائدة
على شكل طير
على شكل شجرة
على شكل عش.
وعندها، عندها فقط،
ما من شيء ناقص او زائد
مثلا:
طيران
يشغلان عش الحياة
على شجرة الموت.
أو شجرة الحياة
تسند عشّين
حيث يشغلهما طير فقط.

او طير واحد
يشغل عشا واحدا
على شجرة الحياة
وعلى شجرة الموت.


16

هناك لحظة
نتحرر فيها من سيرتنا
فنهجر هذا الظل المثبط للعزيمة
هذا التصنع الذي هو الماضي

يجب ألا يستخدم المرء بعد
صيغة الذات البائسة هذه
ولا محاولة متابعة انتصاراته
ولا النواح في المفارق


هجران السيرة
وتجاهل التواريخ الخاصة
يعني تخفيف حمل السفر

او كمثل تعليق اطار فارغ على الحائط
حتى لا يتعب أي منظر من الثبات فيه

17

الصفحة البيضاء
حاسة سمع تنتظر
الكتابة هي الصوت
الذي يمكنه التألف والبياض
او ازالته بخشونة
حتى تَصل السمع

احيانا
تضغط اليد الكثافة التي تنتظرها
ويجد أثرها على البياض
الضغط الضروري
لبلوغ الموسيقى التحتانية

وإذا لم يُجدِ هذا
فيجب إلغاء الكتابة
إطفاؤها
مثلما نطفئ مصباحاً داخناً
وإعادة تركيب بياض الصفحة
والاحتفاظ بالسمع الذي ينتظر


18
نحن مسوّدةُ نصٍ
لن يكتمل أبدا تنظيفه

بكلماته المشطوبة
المكررة
المكتوبة بشكل سيئ
وبنفس الأخطاء الإملائية

كلمات تنتظر
كما تنتظر جل الكلمات
لكن هنا فإنها مهجورة
هجرانا مضاعفا
بين هوامش منتصبة وفارغة

ومع هذا يكفي أن نقرأ مرة واحدة
هذه المسوّدة غير الموفقة بصوت عال
حتى لا نعود ننتظر من الآن وصاعدا نصا نهائيا.


19

أحضّر قصيدتي الأخيرة
لكن، في هذه الأثناء، أتسلّى باللواتي ما قبل الأخيرة
على أن كل قصيدة هي الأخيرة
وقد تكون التي هي أخيرة أيضا ما قبل الأخيرة
فالزمن المتبقي لنا أشبه بتنفُّس،
مستقل بذاته، لكنه مكمّلٌ لنا
تارة يتمدد
وتارة أخرى يتقلص

الزمن المتبقي لنا ليس هُو هُو
فالأخير ينتقل
إلى المؤخرة أو إلى الأمام

20

كانت الزيارة جد قصيرة
قبل بضع دقائق
فتح لنا أحد الباب.
لم تكن أصولنا
لم تكن صريحة بالمرة
ولم نكن متهيئين
لهذه الزيارة.
كنا نعتقد أنها
ستكون أطول
ربما إشارات المدخل
كانت قد أوهمتنا.

بعدئذ اكتشفنا
باباً أخرى مسدودة.
وسرعان ما فهمنا
بإنها باب المخرج
كنا مستغربين من وجود بابين
وليس أي منهما
للدخول والخروج.

كما لم نفهم كثيرا
بعد أن سرنا خطوات
وتحدثنا قليلا
مررنا بوجوه أخرى
أحببنا بعضها.
لم يكن هناك دوما ضوء
وإن ظننا لحظة
أنه كان ثمة ضوء على الدوام.

طفقت باب الخروج
تنفتح
والزيارة كانت قد انتهت.
الآن ننظر بشكل أفضل إلى الأزهار
نحاول التنصت إلى الصمت
لم نسكت كما قبل
نسهر على الكلام
امام العتبة.

حاولنا عبثا
سماع شيء ما من الخارج.

21

لا أستطيع التقاط الكلام الجديد
الضائع في دغَل الشوك
كمثل قطعة نقود.

لا أستطيع انتشال هذه القطعة
واعطاءها إلى الشحاذ الذي فيّ
أو إلى الذي يمشي إلى جانبي.

لا أستطيع أن أشتري بها كلمات أخرى
او على الأقل قوالب صمتية
لسكّ نقود على صورتها.

سُدى تعلمت الانحناء.
قطعة النقد الذي ابحث عن
لا يمكن العثور عليها الا بالتبادل معها
وأخذ مكانها في الدغل.

الكلام الذي أبحث عن،
الكلام الذي يتكلم وينطفئ
ليس موجودا في شوك النار
وإنما في الشوك المنطفئ
الذي لا يكف عن الكلام.


22

"كتابة تتحمل طقسا سيئا،
يمكن أن تُقرأ في المطر، في الشمس،
في الصراخ أو في الليل
في طقس مُعرى

كتابة يمكنها تحمل اللانهائي
الشقوق التي تتنجم كمثل غبار الطلع
القراءة التي لا تعرف رحمة الآلهة
القراءة الأميّة للصحراء

كتابة يمكنها الصمود
أمام تقلبات الجو الشاملة
كتابة يمكن ان تقرأ
حتى في الموت


23

ليس هناك صمت

ليس التفكير صمتا
شيء ما ليس صمتا
ليس الموت صمتا

الوجود ليس صمتا

على مدار هذه الحقائق
ليس هناك سوى جلابيب الحنين:
الحنين إلى الصمت
الذي ربما سيوجد يوما ما
أو ربما لن يوجد أبدا
وربما علينا خلقه؟


24

لأقرأ ما أحب أن أقرأ
علي كتابته
لكنني لا أعرف أكتبه
لا أحد يعرف يكتبه

أيتعلق الأمر بكتابة ضائعة
أو ربما بكتابة المستقبل

ممكن أنني أحب
ما لا يمكن كتابته
أو ببساطة ما لا يمكن قراءته
مع أنّه يُكتب.

قم بزيارة إلى مكتبة إيلاف واختر كتابك المفضل