الخوف المدلل

تختصر هاديا سعيد* تجربتها العراقية على امتداد السنوات مابين 1972-1978 حيث ادركت –ومنذ البداية- بحدسها الانثوي واستشراف الاديبة واطلاع الصحافية ان ماتعيشه ليس الا بذور لتأسيس "جمهورية الخوف".

ماذا ينتج عن اختلاط السياسي بالثقافي؟

ماهي علاقة السلطة بالمثقف ؟

من هذه الاشكالية بالذات جاء كتاب "سنوات مع الخوف العراقي"* الذي ينبض بصراخ ما بعد الصمت او بتعبير ادق "فرض الصمت "حيث الكلام لغة ممنوعة والاشارات لغة ملغومة ،فالكاتبة الآتية من مدينة تعلن صراخها على امتداد البحر ،تجد نفسها داخل مكاتب الضيق والرفاق .

تاتي عاشقة لبغداد فيصد اشواقها وشوشات تأتي من اللامكان، وهمسات تتحول الى كوابيس واشباح قهر متربصة هنا وهناك.

ماأصعب ان يندفع الحبيب للقاء حبيبه فيجده محبوس الانفاس ومقيد.

كانوا يتحركون حولها الرفاق والرفيقات، الجارات ،الزملاء والزميلات ،الانسباء والنسيبات،وهي بصمت الفاجعة تعترف ان اقدامها تقيم في مكان تتأسس فيه"ثقافة الفزع"

الاصدقاء ليسوا اصدقاء وكذلك الاعداء.

من يحاسب من؟ من يغفر لمن ؟ وما طعم العيش في ظل التهديد الموجه الى الروح والحلم ولقمة الحياة؟

اسئلة تضج بالخوف لكنه خوف مدلل كما تعترف الكاتبة التي تنحني خجلا امام آلآم الآخرين ومآسيهم.

ليس خوفا مدللا، انه الخوف سواء اكان كبيرا ام صغيرا ,اذ ان مايصيب المرء تلك اللحظات من الفزع والانتظار والترقب لا تعادله افراح العالم مجتمعة.

انها سطوة المزاج، هكذا تختصر الكاتبة ماآلت اليه البلاد التي تنتهج سياسة عبادة الفرد ،انه "الشخص " كما في مسرحية فيروز والاخوين رحباني ، هو الشخص الذي يعيش الشعب ،كل الشعب من اجله،يبدعون،يكتبون ،يغنون يأكلون ،يتناسلون ،يحيوون شرط ان لا يتذمروا او يستاؤا او يتململوا والا فلا مكان للوجود والهوية والحياة.

بذهول تتساءل الكاتبة:اين انا مما يحدث حولي؟ ماهو دور الكتابة والعمل الثقافي الذي اقوم به؟

انها اللبنانية الحاملة الاسئلة الكبرى ،الاتية من فضاء الحرية والازدهار،تصتدم بالواقع اللاواقعي.

ربما هي تعتقد ان على المثقف ان يبقى بمأمن عن انزلاقات السلطة وتعرجاتها وان يجد المثقف تلك المسافة التي تسمح له بالرؤية الموضوعية لقضايا الفكر والابداع ،ولكن ماذا عندما يتحول هذا المثقف نفسه الى بوق للسلطة فأي ابداع يمكن ان يظهر؟.

كان يمكن للثقافة ان تنحو بعيدا عن السياسة ،تاركة تلك المساحة من النقد والود والعتاب الجميل لو رضيت نفوس المثقفين انفسهم ان تبقى خارج "الجوقة العازفة" .

احبت هاديا سعيد العراق واهله حتى الثمالة ، وفي تحليل سيكولوجي خلاّق دخلت الى النفوس حيث "يظل العراقيون في اعتقادي ابطال المكر النبيل في الدفاع عن ثقافتهم وابداعهم" ..وهذه كانت وسيلتهم للاستمرار وسط جحيم الابادة.

ان الازمة الحقيقية التي تراها الكاتبة من حيث علاقة السياسة بالثقافة هي ان السياسة الثقافية لم تستطع ان تؤسس منعطفات التغيير بل التطوير وانما كان همها هو الاستعراض والفخر والتجيير ،وهكذا وجد الحاكم نفسه الها تعبده الجماهير المثقفة والعالمة فكيف لا تعبده جماهير الازقة والمقاهي.

الحياة المعطلة ،كان ابرة الزمن توقفت لتشير الى الخوف ولا شيئ غير الخوف ،يحكم السلوك والافكار والاحلام..هي باختصار سيرة المواطن العربي او سيرة الانسان على هذه الخريطة العربية.

هو الحب وحده يدفع الكاتبة هاديا سعيد الى هذه التفاصيل المرة ،ف"سنوات مع الخوف العراقي" وثيقة ابداعية يمكن ان تسترشد بها السلطة الحالية لبناء عراق عريق كما تحلم به الكاتبة وكما يريده اهله، لانه يتناول تلك العلاقة مابين المثقف والسياسي في كل زمان ومكان.

* هاديا سعيد روائية وقصصية وكاتبة لبنانية صدر لها:ارجوحة الميناء ،ياليل، رحيل، ضربةقمر، بستان اسود، بستان احمر، نساء خارج النص ، ودفتر عائد، سنوات مع الخوف العراقي.

سنوات مع الخوف العراقي، هاديا سعيد، دار الساقي-بيروت 2004 ،223 صفحة.