الترجمة الكاملة لمداخلة أسامة عجاج المهتارعبر الفيديو باللغة الإنجليزية
في مكتبة الأسد الوطنية في 6 تموز 2004 بمناسبة إطلاق كتاب The Syrian Christ


سيداتي وسادتي،

أسامة عجاج المهتار: أودّ البدء بتقديم الشكر لكل من ساهم في إنجاح هذه الأمسية: إلى وزارة الثقافة السورية، والسفارة الكندية في دمشق، ومكتبة الأسد الوطنية وإلى الصديقة العزيزة سمر حداد، صاحبة دار أطلس للنشر والتوزيع. شكراً لكم جميعاً.
كما أوّد أن أغتنم هذه الفرصة لأحيّي الأصدقاء الكثر الذين تعرفت إليهم خلال جولتيّ الأخيرتين لإلقاء المحاضرات عن كتاب المسيح السوري في الجمهورية العربية السورية؛ لقد غمرتموني بكرمكم وجعلتموني أشعر أنني في بيتي. كلي شوق لأن نلتقي سوية، وآمل أن يتم ذلك في أقرب فرصة ممكنة.

لماذا نعيد نشر "المسيح السوري" ولماذا الآن؟
لقد شُغفت بكتاب "المسيح السوري" وكنت ما أزل طالباً في جامعة أوتوا عام 1982؛ وأذكر أنني قرأته في جلسة واحدة، حيث فرغت من قراءته حوالي الساعة الرابعة صباحاً؛ ثم جلست لفترة طويلة بعد ذلك غارقًا في لجّة من مشاعر العذوبة والحب والتأثر التي سكبها رحباني من روحه في كلماته الحيّة.
هذا الكتاب، أعاد لي ذكريات جميلة تعود إلى عطلنا الصيفية أيام الطفولة، في قرية أمي الصغيرة في جبل لبنان، حيث عشت لفترة قصيرة نمط الحياة في القرية قبل دخول خدمات الماء والكهرباء إليها. في كتابه، أعادني رحباني إلى تلك الحياة وكأنه يعرضها أمامي في شريط مصوّر. ولكن الأهم من ذلك قوله أن هذه البيئة هي نفسها التي عاش فيها يسوع الناصري قبل ألفي عام. وبذلك كان يسلط ضوءاً كبيراً على الأسس التي قام عليها الكثير من تقاليدنا الحياتية مثل "قدسية الخبز" أو "حرمة العيش" وحرمة "الخبز والملح" و "طاعة الوالدين" وهلمّ جرا. لقد قام رحباني بتفسير بعض الحكم والأمثال الدارجة حالياً، مبيّناً كيف استخدمت هذه الكلمات نفسها في عهد إبراهيم في بلاد ما بين النهرين "بلاد الرافدين"، وفي عهد المسيح في القدس.
وبوصفي طالباً في قسم الصحافة والاتصالات العامة، اعجني جدًا تحليله المقارن للاختلافات الاجتماعية والنفسية والتواصلية بين السوريين والأميركيين. كما دهشت لمدى نفاذ بصيرته حين قال إن التواصل الثقافي لا يمكن أن يتأتي إلا عبر "تعايش فعلي، مديد وودي، مع شعب أجنبي"، لقد كان هذا فتحًا فكريُا سابقاً لعصره.
في ذلك الصباح الباكر من عام 1982 تزاحمت الأسئلة في ذهني تطلب الإجابات: من تراه كان إبراهيم متري رحباني؟ بخلاف النسخة التي نشرناها، فإن الكتاب الأصلي خلا من أية إشارة تخصّ السيرة الذاتية للمؤلف... كيف أمكن لكتاب حظي بهذه الشهرة، وأعيدت طباعته سبع عشرة مرة خلال 21 عاماً، أن يدفن تحت طبقات الإهمال لزمن طويل كهذا؟ في ذلك الصباح الباكر نفسه أخذت على نفسي عهدًا أن أترجم "المسيح السوري" إلى العربية، وبعد تسعة عشر عاماً وفيت بعهدي.
إذن، كان هنالك عدة أسباب جعلتني أترجم الكتاب؛ أولها إبراز خصائص حضارية لنمط حياة في طريقه إلى الزوال، وثانيها إحياء كاتب سوري شهير، وإلقاء الضوء على مأثرته الأدبية. وثالثها تقديم تحليل مقارن لأنماط التواصل بين الشرق والغرب. لكن السبب الأهم، والذي سأكرّس له بقية كلامي الليلة، يكمن في تعبيرين متلازمين وردا في الكتاب، الأول: "لهذا فقبل أن نتمكن من فهم المعلم بصفته المسيح الكوني، علينا أن نعرفه كالمسيح السوريً أولاً"؛ والثاني: يتجلى في دعوة رحباني: "لنجعل الإيمان الديني أكثر تحرراً وذكاءً".
ارتقت أهمية هذين التعبيرين في ذهني بصورة أكبر، إثر أحداث الحادي عشر من أيلول 2001 المأساوية وما نجم عنها. إذ ذاك قررت أنه لابد من إعادة طباعة النسخة الأصل – الإنجليزية، وتقديمها من جديد للجمهور الذي كتبت من أجله في الأساس، أي الجمهور الغربي.
في التعبير الأول ينبغي أن نلاحظ أن رحباني لا يسعى إلى رسم المسيح بوصفه بطلاً سورياً، فهو يقول عن المسيح، في الأسطر الاستهلالية للقسم الأول، إنه "روح الله المتجسدة، ويمكن اعتباره، إذا صحّ التعبير "رجلاً بلا وطن". ويضيف: "أياً كانت شخصية يسوع، فهو، من حيث أنماط تفكيره وحياته وأسلوب تعليمه، سورياً وابناً للسوريين". لماذا؟ "لأن يسوع لم يعرف بلداً آخر سوى فلسطين" يجيب رحباني. "ففيها ولد وترعرع وأصبح رجلاً، وفيها كرز ببشارته وقضى في سبيلها". ثم يضيف: "إنه لمن الطبيعي جداً، أن تصل حقائق البشارة إلى الأجيال المتعاقبة - وإلى أمم الغرب - مقولبة بقوالب فكرية شرقية، ومتداخلة مع العادات البسيطة المحلية والاجتماعية في سورية. إن ذهب البشارة ليحمل معه من رمال بيتها الأصلي وغباره الشيء الكثير".
ننتقل إلى العبارة الثانية: "لنجعل الإيمان الديني أكثر تحرراً وذكاءً". ولكن دعوني في البدء أشير إلى أن رحباني كان على اطلاع وثيق بنزعتين دينيتين سادتا كنائس أميركا في زمنه، الأولى كانت نزعة حرفية جامدة ومحافظة، أما الثانية فكانت ليبرالية ومنفتحة ومعاصرة. وقد ختم كتابه "المسيح السوري" بهذه الكلمات القوية، موضحاً خياره وولاءه، حيث يقول:

وبشارة المسيح تنتصر على النظريات في المسيح، والكمال الروحي النابع من التشبّه بالمسيح يدفع أمامه جميع النظريات عن الخلاص السحري. إن عقيدة اللاهوتيين تتضمن العديد من القوانين، أما عقيدة المسيح فتوصي باثنتين: "أحبب الرب إلهك من كل قلبك، وأحبب قريبك كنفسك". إني أفضل عقيدة المسيح.

لسوء الحظ، أتجرأ على القول، إن رحباني لم يكن على صواب، فتصوره المفعم بالرغبات والتفاؤل لم يصبح حقيقة واقعة. ومن يراقب مبشّري الأحد على شاشة التلفزيون في أميركا الشمالية غالباً ما يرى تسويقًا "للخلاص السحري" ولِكَمٍ هائلٍ من "القوانين" المطلوب الخضوع لها. أما أكثر ما يبعث على القلق فهو التأويل القسري- المتعمد، والمفصول عن سياق النصوص الإنجيلية، الذي يهدف إلى تقديم برنامج سياسي يهدف إلى تعزيز روح العداء والضغينة.
دعونا لدقيقة واحدة، نتحدث عن التفسير. يُعتبر ايّ نص أدبي مفتوحاً على تأويلات عديدة. فالدين، في رأيي، هو تفسير المرء لنصوص يعتبرها مقدسة، ومن ثم تقيده بالأحكام المنبثقة عن تلك التفسيرات. والمؤمنون ينظرون إلى نص يعتبرونه مقدسًا على أنه معطى من الله. وبغض النظر عن المسلّمات التي يتمسك بها المؤمن، أي مؤمن، فإن النصوص الدينية ليست في منجى من التفسيرات المختلفة. شاهِدُنا على ذلك تعدد الطوائف داخل الجماعة الدينية الواحدة. عن هذه التفسيرات يتمخض جملة من قواعد السلوك الأدبي والأخلاقي للحياة على الأرض، ومنظومة من المعتقدات ذات الصلة بالآخرة أو الماوراء. ويعتقد معظم الناس أن قدر المرء في الآخرة مرهون بمدى تقيده بالأحكام حسب ما فسرتها سلطاته الدينية.
يقول رحباني: "بوصفه قطعة أدبية، يعتبر الكتاب المقدس في العالم الغربي مادة مستوردة". ولأن الأمر كذلك، فإنه مفتوح على تفسيرات متعددة تنطلق من البنية الاجتماعية والثقافية لكل مجتمع. في الوقت نفسه يشتمل العهد القديم على تاريخ سورية، من بلاد الرافدين إلى فلسطين، من زاوية النظر المنحازة للإسرائيليين لبضع آلاف سنة خلت. فالكتاب، والحالة هذه، يأتي على أحكام ونبوءات ولعنات: الأحكام تهدف إلى ضبط حياتهم، والنبوءات تستشرف مستقبلهم، واللعنات تنصب على أعدائهم، إلى أن يغدو أعداء إسرائيل بمثابة أعداء الله.
من هنا بالتحديد تصبح دعوة رحباني لجعل الإيمان الديني "أكثر تحرراً وذكاءً" حاجة ماسة. فإذا تعاملنا مع هذه الأحكام والنبوءات واللعنات بحرفيتها، دون الإحاطة بسياقها التاريخي، وأنماط الكلام لدى السوريين، نفسح المجال لتفسيرها على أنها دعوة إلى الحرب وتسويغ أخلاقي للإبادة الجماعية.
دعونا نقرأ بروية سفر التثنية، الإصحاح السابع /1-3/.
"متى أتى بك الرب إلهك إلى الأرض التي أنت داخل إليها لتمتلكها وطرد شعوباً كثيرة من أمامك، الحثيين والجرجاشيين والأموريين والكنعانيين والفرزيين والحويين واليبوسيين بسبع شعوب أكثر وأعظم منك. ودفعهم الرب إلهك وضربتهم فإنك تحرمهم. لا تقطع لهم عهداً ولا تشفق عليهم. ولا تصاهرهم. بنتك لا تعطي لابنه وبنته لا تأخذ لابنك".
ويرد في الإصحاح نفسه /21-24/.
"لا ترهب وجوههم لأن الرب إلهك في وسطك إله عظيم ومخوف. ولكن الرب إلهك يطرد هؤلاء الشعوب من أمامك قليلاً قليلاً. لا تستطيع أن تفنيهم سريعاً لألاّ تكثر عليك وحوش البرية. ويدفعهم الرب إلهك أمامك ويوقع بهم اضطراباً عظيماً حتى يفنوا. ويدفع ملوكهم إلى يدك فتمحو اسمهم من تحت السماء. لا يقف إنسان في وجهك حتى تفنيهم".
إن ما يسمى "الترجمة الجديدة الحية" للكتاب المقدس الذي استقينا منه هذه الآيات تدرجهم تحت عنوان: "امتياز القداسة". وكثيرون يعتبرون هذه النصوص قضاء تاماً لوعد الله المتعلق بـ "إعادة" إسرائيل- نظراً لقداستها - إلى ما يدعى "أرض الوعد". والسؤال الذي يطرح نفسه علينا هو: هل بوسعنا نحن أن نتحمل النتائج المنبثقة عن تصورً من هذا القبيل، وما هو ثمن ذلك؟
ثمة مثال آخر يورده رحباني من سفر أشعيا من الإصحاح التاسع والأربعين /22-23/ حيث نقرأ عن آمال بني إسرائيل في استعادة وضعهم السابق:
"هكذا قال السيد الرب ها إني أرفع إلى الأمم يدي وإلى الشعوب أقيم رايتي. فيأتون بأولادكِ في الأحضان وبناتكِ على الأكتاف يُحملن. ويكون الملوك حاضنيكِ وسيداتهم مرضعاتك. بالوجوه إلى الأرض يسجدون لكِ ويلحسون غبار رجليكِ".
يعزو بعض المعلقين هذا الوصف إلى الحالة الراهنة لإسرائيل باعتبارها تحقيقاً لوعد الله المقطوع في هذه الآية، لكن رحباني يخالف هذا الرأي؛ فلقد وصف هذه اللغة بأنها "لغة المجد الأرضي والنظرة الضيقة إلى أصل وقدر عنصريين جاء العهد الجديد ليحرر البشرية منهما، وليدعو إلى نظرة إنسانية أشمل".
إن العهد القديم يعج بعبارات كهذه، وقد سعى رحباني، عند كتابة "المسيح السوري"، إلى وضعها في سياقها اللغوي والثقافي والتاريخي. ففي زمن رحباني نفسه استخدمت الحركة الصهيونية مصطلحات من مثل "أرض الوعد" لمنح اليهود "حقاً شرعياً" في أرض فلسطين؛ وكذلك مصطلح "الشعب المختار" الذي حُمِّل دلالة عنصرية حصرية. والجمع بين هذين المصطلحين يؤدي إلى نتيجة مفادها أن فلسطين ينبغي أن تكون الوطن الشرعي والحصري ليهود اليوم مهما كان الثمن.
في عام 1918 كرس رحباني فصلاً كاملاً من كتابه "أميركا: أنقذي الشرق الأدنى" للقضية الصهيونية. وبرؤية مسيحية متنورة، فنّد جميع الحجج الدينية التي دفع بها القادة الصهاينة. كما فعل الشيء نفسه في العام 1923 حيث كرس فصلاً آخراً من كتابه "حكماء من الشرق ومن الغرب" وقد تنبأ فعلاً بالمآسي المروّعة وسفك الدماء التي ستنجم عن فرض تأويل معين لنص توراتي كتب قبل آلاف السنين، على الواقع الراهن واستغلاله. هذا الاستغلال ما يزال مستمراً حتى وقتنا الحالي.

سيداتي وسادتي،
إذا سلمنا جدلاً بأن الدين، في بعض وجوهه، تفسير لنص مقدس ومن ثم التقيد بأحكام هذا التفسير؛ وإذا سلمنا بأن النص، أي نص، مفتوح على أكثر من تأويل؛ وإذا سلمنا بأن بعض النصوص التوراتية تنطوي على دعوات مفتوحة لإبادتنا كشعب؛ وإذا سلمنا بأن دعوات الإبادة ضدنا هذه تجد من يسوغها حالياً؛ وإذا سلمنا بأنها غدت، على بطلانها، ركناً أساسياً لقيم أخلاقية ولإيمان ديني يقتضي التقيد الأعمى بما يعتبره البعض في الأمة الأكثر نفوذاً على وجه الأرض جزءاً من الواجبات والأحكام الملزمة لهم؛ إذا كان الأمر كذلك، ونحن نراه كذلك، ألا ينبغي علينا أن نحشد قوانا بكاملها، خصوصاً رجال ديننا الموقرين، كي نقول للعالم أجمع، على غرار رحباني، "والآن هاأنذا أريكم طريقً افضلاً".
ألا ينبغي علينا، كمجتمع، وخصوصاً كمؤسسات دينية من جميع الطوائف، أن نبادر إلى صوغ تفسيراتنا الخاصة، وطرحها، والدفاع عنها؛ وأن نسعى جاهدين إلى رفد العالم برسالة محبة تفوق سواها مما أوردته في النصوص أعلاه؟ في رأيي، ينبغي ان تؤَسس هذه التفسيرات على فهم المسيح السوري تمهيدًا لفهم المسيح العالمي؛ أن تؤَسس على تعاليم المحبة الشاملة للكون بأسره، التي دعا لها يسوع الناصري، لا على تعاليم التمييز العنصري والكراهية والتدمير والإبادة الجماعية.
إن تفسيراً كهذا لابد أن يستند إلى إيمان ديني "أكثر تحرراً وذكاءً".

لكم جزيل شكري.