عَقد الفريق المكلّف بإعداد المشاركة العربية في معرض فرانكفورت للكتاب مؤتمراً صحفيأ يوم 25 يونيو بالمكتبة الألمانية تمّ الإعلان به عن البرنامج التفصيلي لهذه المشاركة التي ستحظى باهتمام إعلامي واسع باعتبار العالم العربي ضيف الشرف هذا العام. يفوق هذا الإهتمام، مثلما سبق أن صرّح بذلك فولكر نويمان رئيس المعرض، التغطيات الإعلامية التي تعرفها الألعاب الأولمبية ونهائيات كأس العالم في كرة القدم بِطاقم عالمي يتكوّن من حوالي 12 ألف صحفي.
هكذا ستتحوّل فرانكفورت ما بين 6 و 10 أكتوبر المقبل إلى ساحة عربية كبيرة تَجْمَعُ النّاشرين، و الشعراء، والروائيين، والمسرحين، والسينمائيين، و النقاد، والمفكّرين إلخ. لا مِراءَ أن هذه الضيافة الألمانية للعرب ستكون حدثاً تاريخيّاً ومناسبة لا مثيل لها للتعريف بالغنى الثقافي العربي، وتصحيح تلك الصّورة العربية-الإسلامية الرّثّة، رديفة القتل، والتخلّف، والإرهاب التي تتعشّش في عقلية الغربيين. هذا هو الرهان الأساسي الذي يجب أن يفوز به المشاركون العرب.
لكن، يبدو أن الجهات التي قامت باستدعاء المشاركين وأطّرت هذه الضيافة لم تأخذ بعين الإعتبار مبدأ التكافؤ في إختيار التمثيلات الثقافية وتوزيعها بشكل عادل على العالم العربي، كما أنّ البرنامج العام الذي تم تسطيره لا يكرّس، في الغالب، غير الرؤية الإديولوجية للثقافة العربية ويظلّ مقيّداً بطابعها الإشهاري و الفولكلوري، إضافةً إلى أنّه لا يترجم، بالفعل، الإختلاف الذي تتميز به هذه الثقافة.
الإنطباع الأول الذي يمكن أن نخرج به من هذا البرنامج التفصيلي هو غلبة القرار السياسي على القرار الثقافي، وحضور مكثّفٌ، مع استثناءات قليلة، لأسماءَ تمثّل بعداً سياسياً أحادياً يتفق والقناعات الخاصّة للدولة.
كيف يمكن لنا أن نفسّر، مثلاً، تغييب مثقفين عرب أكّدوا جدارتهم الفكرية مثل عبدالله العروي، ومحمد عابد الجابري، و عبدالكبيرالخطيبي، ومحمد سبيلا، وماذا يعني إقصاء روائيين وشعراء ومسرحيين أكفّاء في مقام الطّاهر وطّار و بنسالم حمّيش، وإدمون عمران لمليح، وسليم بركات، وعبداللطيف اللعبي، وأنسي الحاج، ومحمد عفيفي مطر، ووديع سعادة، وثريّا جبران، والطيب الصديقي إلخ؟ ماذا يعني، أيضاً، أن نضع المدعوين في خيمات ليقرؤوا بها أعمالهم، كما لو كنّا في صحراءَ قاحلة، وليس في فضاءات أخرى، حديثة ومنفتحة على العالم؟
العرب أمام سؤال مصيري صعب، هو: من نحن؟ وماذا يمكن لنا أن نقدّم للثقافة العالمية؟ الإجابة عن هذين السؤالين تتطلّب الإعتراف العربي، أوّلاً وأخيراً، بخصوصية ذاتهم و تعددها وليس إقصاء أجزاء جوهرية في كيانها.
لا أفهم، أيضاً، لماذا تم، ضمن الأنشطة الموازية للمعرض، تجاهل الغناء الأندلسي الذي يعتبر لَبِنَةً مركزية في الفنّ العربي. لا أفهم هذا التجاهل مقابل الإهتمام الغربي الذي بدأ يجده هذا الفن في السنوات الأخيرة، وأشير، في هذا الخصوص، إلى الحفلات التي تحييها فنّانة lt;الملحونgt; ثريّا الحضراوي في ألمانيا، وإيطاليا، وفرنسا، وإسبانيا، والنّمسا. لا أفهم كيف يمكن للعرب أن يتجاهلوا فنوناً إنتبه الغرب إلى إشعاعها الإبداعي المتميّز، ويصرّون على فلكرة منتوجهم الفني وإفراغه من محتواه الجمالي والإبداعي. هل نعاني، فعلاً، كما يقول يورغن هابرماس، بمرض الثقة بالذات ونعجز، بالتالي، على أن نكون في المستوى العالمي؟
هذا الوعي بالذات ضروري للإنخراط في المستقبل الذي نتواجد به الآن، و مُجاوزة كّل الحزازات الإقليمية الضيقة والرّواسب السياسية التي شتّت شملنا، وقادت بنا إلى السقوط في خَيالات وخسارات كبيرة، وهو ضروريّ حتّى نكون طرفاً فاعلاً في ذلك المشروع التاريخي الضخم الذي يُسمّى، عادةً، بحوار الشرق والغرب.
من مفارفات هذا البرنامج العام، علاوة على ما سبق، غياب أي حلقة دراسية عن إدوارد سعيد الذي تحتفل بفكره الجامعات والمؤسسات الثقافية في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، و عن عبدالرحمن بدوي الذي عرّف العرب إلى أهم الأعمال الفلسفية، اليونانية والألمانية، و عن إحسان عباس الذي يُقِرّ بعِلمه المستشرقون الألمان، هذا بغض النظر عن إقصاء المهدي المنجرة، أحد روّاد الدراسات المستقبلية في العالم، و محمد أركون الذي وشّحته ألمانيا في ديسمبر 2003 بجائزة ابن رشد للفكر الحر.
واللافت للنظر أن هذا البرنامج يخلو، ممّا يدعو إلى الإستغراب، من ندوة خاصّة حول الصّراع في الشّرق الأوسط في حجم ذلك العرض المهم الذي سيلقيه بطرس بطرس غالي في موضوع الإصلاحات وحقوق الإنسان. متى يمكن لنا أن نبيّن للرأي العام الغربي وجهة نظر الأنتلجنسيا العربية إلى هذا الصّراع إن لم يكن في هذه المناسبة؟ الغرب في حاجة إلى الإنصات إلى الآخر العربي بمعزل عن التأثير النفسي الذي يقوم به الجهاز الإعلامي، خصوصاً منذ أحداث ال11 سبتمبر.
يخلو هذا البرنامج، من بين ما يخلو منه، من معرض للعمران العربي-الإسلامي في إحدى المواقع المركزية التي وضعتها فرانكفورت رهن تصّرف المنظمين العرب، مع العلم أنّ هذا العمران هو علامة من العلامات الثقافية التي تحدّد هويّتنا السوسيولوجية و التاريخية. أكتفي، على سبيل المثال، بذكر الزيارة التي قام بها غونتر غراس السنة الماضية إلى اليمن الذي أنشأ به صندوقاً مالياً لتكوين المعماريين التقليديين.
من الملاحظات التي استرعت انتباهي في هذا البرنامج تلك الندوة التي ستتمحور حول lt;الأدب النسائيgt; في العالم العربي في الوقت الذي صار الحديث في المنتديات الثقافية العالمية عن موضوعات أخرى، أكثر شساعة، وجِدّة. لا فرق في الأدب المكتوب بالألمانية بين كريستا فولف و مارتين فالسر، أو بين فريدريكا مايروكر و هانس ماغنوس إنتسنسبرغر، أو بين زيلكه شُويرمان و دُورْسْ غرونباين. لا فرق بين كتابة وكتابة إلاّ بالعمق الذي ينبض بها، وليس بالجنس الذي تنتمي إليه. لا يعكس موضوع lt;الأدب النسائيgt;، في نظري، غير تلك التقوقعات المفاهيمية التي لا نزال نتخبّط بها منذ قرون عديدة، كما لا يعكس، عن وعي أو لا وعي، غير ذلك الإسقاط المجحف للتمييز الذي تتعرض له المرأة في الواقع العربي على إبداعها في الأدب الذي يخرج من هذه التحديدات الخرافية بين أحلام مستغانمي وإبراهيم أصلان، أو بين حنان الشيخ ورشيد بوجدرة، أو بين إتيل عدنان وعبدالله زريقة، أو بين آسيا جبار و أمين معلوف.
من المؤسف، حقّاً، ألاّ يُفكّرَ المنظمون العرب، على الأقل، في الإعتراف المعنوي بالمبدعين الجدد الذي يكتوبون بلغات الغرب، وأثبتوا صوتهم الأدبي، بعيداً عن شبكة الصّداقات و أبواق الإديولوجيا العربية الرسمية، وأخصّ منهم نورالدين فرح، وعبدالقادر بنعلي، وحسين الموزاني، و فؤاد العروي، و مصطفىستيتو، و حفيظ بوعزّة.
العرب مدعوون في هذا المعرض إلى تحدي الغرب، والدخول معه في نقاش معرفي حول المسائل الثقافية والسياسية التي تُمْليها اللحظة العالمية الراهنة. العرب مدعوون إلى تقبّل النقد، وتخطي فجوات النقصّ، والإرتداد، والتبعية، وهم مدعون، من جهة أخرى، إلى الإنتقال بمعرض فرانكفورت من lt;الصّخب السّوقي- التجاريgt; الذي يطبع المعارض العربية للكتاب إلى تظاهرة ثقافية حقيقية. العرب مدعوون، أخيراً، إلى عقلنة خطابهم، وَرَدْم تلك الأصنام الثقافية التي صنعها النظام السياسي العربي والإلتفات إلى الواقع الذي يفرضه زمن ما يُعرف بlt;العولمةgt;.

شاعر ومترجم مغربي يقيم في ألمانيا
[email protected]