منذ الخمسينات من القرن الماضي، وحتى هذه الساعة، والكاتب الفرنسي من أصل مصري، البير قصيري الذي ولد في القاهرة عام 1916، يجوب شوارع "الحي اللاتيني" متنقلا بين مقاهيه وحاناته، محافظا على تقاليده اليومية برغم الشيخوخة ومرض، ساكنا في نفس الفندق الذي أقام فيه لما جاء إلى باريس فارّا من ثورة عبد الناصر القومية. ورغم هذه الاقامة المديدة في العاصمة الفرنسية، فان البير قصيري ظل يكتب عن مصر وأهلها الكسالى الطيبينّ.
وفي عددها الصادر مطلع شهر يوليو، والذي خصصته لما أسمته ب"مديح الكسل" اعتبرت "المجلة الأدبية" الفرنسية (LE MAGAZINE LITTERAIRE)البير قصيري واحدا من المبدعين الذين مجدّوا الكسل في أعمالهم،معتبرا اياه"سلاحا للتخريب السياسي" وطريقة للصمود أقام مكر الأقرباء، والصّعود إلى صفاء ذهني أكبر ، وقد كتب ذات مرّة يقول: "أكتب للأجيال الشابة ذلك أنها تمتلك وقتا للتغيير. أتمنّى أن أنقذ أرواحا شابة. يعدان يكون قد قرأ كتبي، ليس على القارئ أن يذهب للمكتب للعمل، وليس عليه أن يقبل ضجر مسيرة مسطرة مسبقا مثل خط مستقيم".
وفي نصّ قصير، كتب أو ليفييية كاريغال نصّا قصيرا تحت عنوان: "ملك الكسلاء البير قصيري" فيه يقول:"عند الرواي المصري الناطق بالفرنسية، البير قصيري، العمل له سعة سيئة. في ثماني روايات ومجموعة قصصية واحدة : المنسيّون من الله"، رفع شخصية الخامل- كلمة مفضلة على كلمة الكسول المعتبرة كلمة جميلة- إلى منصب الملك. الملوك الخاملون هم أحيانا ما يكونون من حفاة الأقدام:لصوص، وشحاذون، وأساتذة تسوّل، وحراس نوم، ومهربون. في وادي الملوك القصيربين (نسبة إلى قصيري)، توجد أيضا "نجوم كسولة" تضيئ لهؤلاء الرجال البواسل. موضوعا متواترا في أعمال هذه "الداندي" الكسل هو أكثر من أن يكون متمما رومانسيا الهدف منه خلق جوّ لمصر الخاملة. تمرين الكسل له قيمة فن الحياة وليس لونا محليّا، ولا بطاقة بريدية بألوان قديمة. وهو يحيل إلى موقف حكمة بمواجهة عالم يهيمن عليه ما هو يسمّيه بـ"المكر الأبدي" الذي يجسّده الحاكمون أو يساعد على ظهور فكر التخريب السياسي. وعندما ننظر إليه عن قرب، نلاحظ انه لا توجد عند قصيري أي تمجيد للكسل الرخو. ولكن لكسل يفرض نظاما صلبا. أليس من الصعب أن نعيش منعزلين في عالم العاملين؟ ... وهو موقف انفصال سنّة رسولنا منذ نهاية الحرب الكونية الثانية، مقيما في غرفة في فندق، ومتحرّرا من الطوارئ المادية المتعلقة بالصيانة التي يقتضيها البيت الخاص. لكي نعيش سعداء، علينا أن نعيش في الكسل. ارغام وحيد: استيقاظ يومي في منتصف النهار بالنسبة لهذا الكاتب الذي غيّر إلى الظهر موعد تسلمه جائزة كان سيسلمها له وزير الثقافة. فكرة العمل- إيقاعه الأسبوعي ظل دائما يقتصر على بضعة أسطر- تظل دائما غير معقولة بالنسبة لشخوصه الروائية: "العمل، إنه فكرة مضرّة وشيطانية". "أنت مجنون- أتريد أن تعمل؟ هذا يوم أسود بالنسبة لأمك?" يشير طفل إلى الفتى سيراغ على غلاف:" كسالة وادي النيل" روايته الثالثة.
وحسب الفرعون قصيري، يوجد نوعان من الكسل. كسل الأغبياء وكسل الذي فكروا. ومثلما قال لميشال ميزاني في "حوارات مع البير قصيري" الصادر عام 1995 :"الغبيّ الكسول يظل غبيّا? أما الكسول الذكي فهو ذلك الذي فكر في العالم الذي فيه يعيش. وكلما كنت عاطلا أكثر، إلاّ وأصبح لك وقت أكثر للتفكير. في الشرق، يسمى هذا بالفلسفة الشرقية. أغلب الناس لهم الوقت الكافي. وكلما ازددنا نزولا باتجاه الجنوب، باتجاه الصحراء، إلاّ وكثر عدد الرسل والحكماء والدين يفكرون في العالم أكثر". بالنسبة لقصيري يمثل الكسل "نوعا من البطالة الضرورية للتفكير". وهي توحي بالبساطة والوضوح، وتجلب الصفاء الذهني للذين يعرفون كيف يعيشون.
في روايته :"شحاذون ومتكبرون" يمثل جوهر، أستاذ الفلسفة القديم هذا الترجّح لكل شيء نحو الهدف. فلقد قرر الانفصال لينضم إلى قافلة شحاذي القاهرة. إنه رجل متحوّل ينام متقلّبا على فراشه متكون من جرائد قديمة لا يقرأها أبدا. ما الذي اكتشفه؟ البؤس يحتوي على رخاء غريب وعلى كنوز ثروة هائلة بسبب جانب البراءة والصفاء فيهما. تلك هي قيم الكسل الذي يفترض إذن رفضا مضاعفا لعالم الآني ولـ"الواقع الكئيب".