لا أرجو أن تنسحب هذه الممارسة الكشفية، في متن مختلف في الطبيعة ونوع المعالجة، إلى ما هو سطحي سواء في التلقي أو فهم القصد أو تحريف النية، إذ من غير المألوف تناول أغلفة السجائر بوصفها متنا، يمكن قراءته والخروج بتصورات أو اكتشاف أسرار تكمن خلف التمظهر، الذي لا يؤخذ بنظر الاعتبار من المستهلكين أو المسّوقين والوسطاء على نحو جزئي ، ولكنه ليس غائبا عن تصورات المنتج الأصل، الذي لم تكن الدواعي النفسية والاجتماعية غائبة عنه، ومع أن الأصل في السلع الاستهلاكية هو ما يقدم منها للاستهلاك المباشر أي المادة المراد استهلاكها: غذائية كانت أم ملبسا أم زينة، مادة للاستهلاك المنزلي أم مادة ترفيهية،أم الأجهزة البسيط منها أو المتطور، فإن للطرق التي تقدم بها هذه المواد الأثر البالغ في تحديد مستوى الإقبال عليها أو الإعراض عنها، وذلك قبل الشروع في الاستهلاك، وهو ما يحدد نوع الإقبال وحجمه، ومن هذه الطرق تصميم الغلاف أو العلبة التي تحفظ المادة المستهلكة.

وسنركز في هذه القراءة على نماذج من تصميمات علب السجائر، وما ينطوي عليها من دلالات بوصفها علامات تعمل على إيصال رسالة الى المستهلك لجذبه الى منتوجها، ولن تكون هذه القراءة من دون منهج إذ انها ستركز على نماذج لها خصوصية في التصميم مقارنة بغيرها، اعتمادا على الشعار الذي تحمله العلبة والمتن الكامل لتصميمها، الخلفية وما تبرزه من شكل، وللسهولة سنتناول نماذج يمكن من خلالها إدراك الاختلاف في اتجاه التصميم وما ينطوي عليه هذا التنوع من دلالات ونبدأ بتصميم تقليدي من حيث الشعار الذي يحمل صورة أسدين يحيطان بتاج ،يظهر تحته درع غالبا ما يحمل رمز الشركة أو نبتة التبغ. ولهذا الشعار نسبة واسعة من الشيوع والانتشار، مع ملاحظة التنوع في شكل الأسدين وشكل التاج، ولكن ماهو ثابت تقريبا هو نوع الوقفة إذ يتجه الأسدان إلى بجسميهما إلى التاج في حين تختلف حركة الرأس فتارة تتجه الى التاج في استغراق تام بملاحظته والاهتمام به، وأخرى يتجهان بالنظر الى المستهلك مع إظهار قدر من الاهتمام بالتاج بنوع من الخشوع الملاحظ في إغماض العينين كما في سجائر(capital )، التي امتثل الشعار فيها إلى دلالة التسمية فأظهر أسدين في سن الشيخوخة ينتصب على رأس كل منهما تاج، في حين تظهر أنواع أخر الأسدين فتيين وحاسري الرأس،مع بعض الإضافات كدلعهما لسانين يشيران الى امتلاك قوة مضافة تتمثل في التنين كما في غلاف سجائر
( Royale ) مما يدل تأثر بالحضارة الصينية التي يدخل التنين في قواميس الإشارة إلى القوة في معتقداتها الأسطورية، وبذلك يندمج رمز الملكية والقوة في حضارات بابل ومصر القديمة وفارس فضلا عن الحضارة الغربية في عهود ملكيتها المطلقة، ويعتمد هذا على الظن بأن الأسد أقوى الحيوانات وأنه ملك الغابة، وإن لم يتوج إلا في أذهان الناس، وغني عن التوضيح أن اتخاذ الأسدين والتاج رمزا كليا يوحي بالملكية التي تغازل مشاعر المستهلك في كونه يتعامل مع الأقوى والأفضل وشيء من إثارة أحلام اليقظة في التحول إلى ملك ولا يمكن إغفال اللون الذي يبرز الشعار إذ غالبا ما يكون ذهبيا لإكمال السمات الملكية المراد إيصال شفرتها بصراحة.


وثمة تتويج مركزي يبرزه تصميم الشعار وهو تتويج الدرع أو التكوين الذي يضم علامة الشركة ويعتدل التاج على قمته. أما نمط الشعار الشائع الآخر فيحل الحصانين محل الأسدين وهما يحيطان بالتاج في إشارة إلى ما يمثله رمز الحصان من دلالة على قوة التحمل والقدرة على الإنجاز - فبها تقاس القدرة الميكانيكية – ولا يخفي ما في اتخاذ الذكورة مظهرا في كلا النمطين من شفرات تتجه الى تأكيد صفات القوة والقدرة مع إلماح من طرف خفي الى إشارة آيروسية، ومع ذلك فثمة استعارة اندماجية يبرزها التحول في شكل الحصانين بما يخرجهما عن الشكل المعجمي ( الطبيعي). فمن الشكل المألوف للحصان على نحو تقريبي كما في غلاف سجائر(Miami ) ، التي تظهر الحصانين على أتم حال من القوة والحيوية، الى غلاف سجائر ( roseman) التي يندمج فيها شكل الحصان بالتنين، فنكون مرة أخرى أمام تداخل في الدلالات المستندة الى معطيات رمزية حضارية تمزج المعطى الغربي بالشرقي ولا سيما الاصل الصيني وبقية حضارات جنوب شرق آسيا، وصول - لانهائيا – إلى غلاف سجائر (lucky gold ) التي يندمج فيها- استعاريا- شكل الحصان بشكل الأسد مع ثبات النظام التصميمي في إحاطة الحصانين المستأسدين( الحصان +الأسد) بالدرع الذي يعلوه التاج، وهذا الدمج يحقق دمجا في الدلالة باتجاه مضاعفة المعنى وضخ قدر اكبر من الترميز الموحي والجاذب للاستهلاك. ولا يبعد الإحساس بالثنائية مع وجود الدمج تكّون اسم السجائر من مقطعين،صفة وموصوف ،معناهما الحرفي الذهب المحظوظ، وللدقة هو الحظ الذهبي، ولا يتجه التأويل إلى اعتماد المعدن(الذهب) في الكشف عن الدلالة ولكن الربط بين الدمج في المعطى الرمزي والتسمية يتجه إلى تأكيد فكرة المضاعفة في الدلالة الناتجة عن المج بين رمزين يتآزران لتقديم صفات محسنة اعتمادا على مبدأ انتقاء افضل صفات الرمزين .
إلا أن ما يعد خرقا للمعتاد من النظام السيميائي للتصميم ما نجده في علبة السجائر (joy ) إذ يختلف التصميم إلى درجة كبيرة، تعد تجاوزا لنظمه،وتمكن احتساب التجاوز بمظاهر منها :أولا:انقسام الواجهة إلى نصفين وكسر مركزية الشكل الموحد،ثانيا: نزول الشعار من الصدارة، واحتلاله موقع المركز في تصميم الغلاف، إلى الهامش اسفل واجهة التصميم من الجهة اليسرى.ثالثاً:إحلال رمز الغزال الدال على الوداعة والسلام والجمال والحرية وغير ذلك محل رموز القوة والقدرة الواسعة، وجعل الرمز المحاط به هو نبتة التبغ لا التاج وهذه الإحاطة لا تندرج ضمن مراسيم التبجيل الاهتمام كما في النماذج المعتادة ، فاتجاه الغزالين يبتعد عن المركز إذ يتجه كل غزال الى جهة تخلف اتجاه الآخر ويولي نبتة التبغ ظهره وكل ذلك يشير الى فعل الطبيعة الحر البعيد عن ثقل المسؤولية والارتباط بالمركز تأكيدا لفكرة الحرية وممارسة الانهمام بالذات مندون التقيد بالآخر رمزا كان أو مبدأ ويؤكد ذلك معنى التسمية وهو(المتعة)، ولكن ثمة ارتباط على نحو خفي بالنماذج المعتادة يتعلق بجنس الغزالين الذكوري . رابعاً: وهو الأهم الاستناد إلى الفن التشكيلي في تصميم تجاري يتعامل مع أذواق العامة من الناس واعني النصف الآخر من الواجهة الذي تحتله لوحة لا تصنف بسهولة الى مدرسة من مدارس الفن المعروفة،إذ يدخل فعل الحداثة والتجاوز بشكل أساسي في تشكيل اللوحة التي اعتمدت على لونين ساخنين خلفية للوحة هما الأحمر والأصفر في الغلاف الذي يهيمن عليه اللون الأزرق البارد ويناسب انخفاض نسبة الـ(nicotine 7 ,0 ) أما الغلاف الذي يهيمن عليه اللون الاحمرالساخن والنسبة فيه 9 ,0 فقد اعتمدت لوحته اللونين الأصفر والبرتقالي ما يهمنا هو تشكيل اللوحة والتكوينات والأشكال التي تسود فيها ولعل أهم مظهر في اللوحة عدم انتظام الأشكال واندراجها في شكل هندسي محدد وفي ذلك من دلالات فكرة الحرية الشيء الكثير، إذ تفارق اللوحة مدارس الفن التشكيلي المعروفة لتلقي مع التشكيل على أساس يستجيب لمظاهر، في مغامرة لم تأخذ في الحسبان تفاعل المستهلك العام مع تكوين فني غير محدد الدوال ولا يتفاعل معه فنيا وذوقيا الخاصة،ولكن يبدو أن الاعتماد على التناسب الشكلي واللوني وجماليتهما كان الدافع لهذه المغامرة التي تشيع ثقافة الفن الخاص لاستهلاك العامة وهي خطوة باتجاه تسويق الفن وتدريب عين المستهلك، التي لا تدرك إلا ما هو واضح وسهل القراءة والفهم،على التعامل مع التشكيل غير المألوف.
وهذه المغامرة ترسخ في محاولة أخرى تعد طفرة خارج السياق في تصميم غلاف سجائر(calumet ) الذي يتخلى عن الشعار وتحتل لوحة تشكيلية أعلى الغلاف،معتمدة المزج اللوني المتداخل الضامن لفرز يبرز أشكالا منفصلة، تظهر على الرغم من تجريد أشكالها بتكوين حيوي، يوحي من خلال الكتل الغامقة بكائنات حية تدخل حيزا بركانيا مثله اللون الاحمر المتدرج لونيا، وهي في قراءة مختلفة تظهر مزيجا من الكتل الحرارية ولكن هذه القراءة يبطلها العنوان الفرعي (the peaceful taste ) الذي يعني طعم السلام أو السلمي مما يجعل قراءة اللوحة تتجه الى الكرنفالية الدالة على الاحتفال وإن كانت الكتل الغامقة تحد من الانفتاح على هذا التأويل ، ويبدو أن التجريب في التصميم انفتح على اشكال غير مألوفة مؤشرا اتجاها حداثيا يفارق الوضوح الى الغموض الموحي كما نجد في تصميم غلاف (slims ) الذي يكرر لوحة تجريدية، مع اختلاف الحجم، تقوم على التلاعب بنسب الضوء والظل مع سيادة اللون الأخضر الدال على المنزع الطبيعي في الاتجاه مؤكدا البساطة تدل عليها تسمية المنتوج، وثمة خوج على المالوف في تصميم الشعار المفارق للبساطة الى التركيب.