مقاربة في "الحب بالسيف"

" الجسد هو الآخر" سبينوزا.
" إلى متى أحبس نفسي في سجن هذا العالم ؟ آن الأوان كي أجعل الروح النقي بطل الميدان" جلال الدين الرومي.


"الحب بالسيف"، هي الأضمومة القصصية الثانية للقاص علي الوكيلي، بعد مجموعته الأولى "الكلام بحضرة مولانا الامام"، والمجموعة الجديدة تقع في ست وسبعين صفحة من الحجم المتوسط، وتضم تسع قصص هي على التوالي : " الحب بالسيف"، كف عفريت"، جنازة رجل"، "الفرج في باب الجديد"،سيدي قاضي حاجة "،" أبو هيوف"،"عبد الله الزهيمري"،"حكايات مقلوبة "،"رغبة الملك"و" الحب بالسيف".
وقد جاءت هذه النصوص طافحة بالغاز هذا الكون وعذاباته ومفارقاته الغريبة، وتفاصيله المدفونة في خلايا الجسد والنفس والمجتمع، من خلال لغة قصصية واضحة أحيانا، ملغومة أحيانا أخرى، لغة تشرح وتجرح.. وماذا عالمنا سيئا، فإن لغة المجموعة تعد أنجع وسيلة لتعريته وفضحه، ونشر غسيله النتن. والكاتب منذ عمله الأول، ينحت بإصرار وكفاءة تقاسيم عالم حكائي تتقاطع في تكوينه ونسجه جملة من العناصر الفنية والفكرية والواقعية والخيالية، لذلك نروم في هذه المقاربة لملمة لحظات قرائية تقوم على الإصغاء لجسد وروح هذه المجموعة، ونسج ألفة مع نصوصها.

ذاكرة الجسد، جسد الذاكرة :

تمثل مجموعة " الحب بالسيف" كتابة تهفو الى ما يرتع في الهامش منسيا، افتتانا بالمخالف، لتعلن، لنا، عن نفسها في شكل مساءلة جريئة لا تمل ولا تكل، لذلك تنشد الى قاع المجتمع، لا لتهادنه، بل لتخاتله، وتسعى لخلخلة قيمه الزائفة، تعري،فينا، ما نرفض الدنو منه، بغية الإطلالة على ما يقبع في جوهر الذات، وما يحتمي بالصمت في اللحظة الراهنة، لتغدو نصوص المجموعة فضاء تتمظهر فيه الذات بجميع أبعادها : انكساراتها وإشراقاتها، نزواتها وأهواؤها، رغباتها وميولاتها الجامحة، فلا غرابة أن يقف كاتبها ضد المحرمات والممنوعات في ثالوثها المشهور : الجنس، السياسة والدين، من أجل استعادة حرية الذات وانتشال نفسها للحرية من سلطان التابوهات وعقال المحرمات، لتصبح نصوصه دعوة الى التمرد، ونداء للحرية المفتقدة، وبذلك تكون الكتابة، بهذا المعنى، مغامرة كشف وبحث ترتاد الوجود بهدف إعادة صياغته من جديد، وفي هذا الصدد تؤكدNATHALIE SARRAUTE أن الكتابة ".. عملية بحث دائم، وهذا البحث يسعى الى تعرية واقع مجهول، والى إيجاد هذا الواقع المجهول... وبقدرما يكون الواقع جديدا، يكون النص الأدبي يكشف عن هذا الواقع، ذا شكل شاذ، وغير مألوف، مثلما يكون ذا تأثير عميق يسمح بهتك ذلك الستار السميك الذي يقي طرائق إدراكنا وإحساسنا من كل أنواع التشويش والأعراف")1(، لذا لا نستغرب توظيف الكاتب عبارات ساقطة وألفاظا جنسية يقدم بها الإطار الدلالي العام، وهو ما تتقزز منه الذائقة المحافظة في مثل هذه الكتابة، التي تؤكد لغتها الفاضحة عنفها الرمزي، وتنغل الكلمات داخلها في عري المحرم والممنوع، وهي علامة على الخرق وانتهاك المعايير الأخلاقية في كتابة مربكة تجعل من الجسد ركحا لها. وهكذا يمارس الكاتب " العهر" في كتابته القصصية بتعاطيه لحبوب منع النفاق، وغن كانت السلطة تسمح للعهارة أن تكون في الشارع، و لا تسمح للكاتب أن "يعهر" في كتابته )2(.
تحفر شعرية الجسد عميقا في التشكيل السردي لنصوص " الحب بالسيف"، مادام الجسد يكتسي، لدى الكاتب، بعدا إنسانيا، وآخر رمزيا من خلال اليومي المكرور، وفي علاقته بالآخرين، وهو ما بشير الى أحداث وحالات وشخوص ارتأى الكاتب أن تجسد منطلقا لرؤاه، وإن كانت نصوص المجموعة تستمد بنيتها من المتخيل والواقعي، وتغوص خطاباتها في عوالم مشدودة الى ذاكرة الجسد وفضائه، إذ لا تكاد تخلو قصة من قصص المجموعة من هذه التيمة المركزية، لأن الجسد يعج بالحياة ليدل كثيرا "..على نفسيتنا وهندستنا الداخلية "،" وهو خريطة للرغبات والارادات والعقد الهندسية داخل لاشعورنا وأحلامنا")3(. وهكذا يشكل الجسد في هذا الصدد مختبرا لذاكرتنا وهويتنا الراسخة والمتكررة التي تنسج لاشعورنا ليحلم عوضا عنا :"..انتزعتني بعنف من حضن عشر فتيات إيطاليات، أبعدتني عن لذة قصوى على مرمى حجر.." )4(. وتحتفي المجموعة بالجسد في انبثاقه كموضوع للمعرفة كما في قصة"كف عفريت"، وفي تغيره وتلاشيه كما في : جنازة رجل"، وفي تحوله ومعانقته لرغباته العاتية كما في " الفرج في باب الجديد" و" الحب بالسيف :و" رغبة الملك". وعلى هذا الأساس، ينظر الى الجسد كمصدر شاهد على توتر كينونتنا، وعلى الغموض المتأصل فينا.
يدفع القاص حكاياته في المجموعة الى لحظة عري وكشف تتأمل فيها ذاتها، وتنحت شعرية الجسد العاري تضاريس الكائن العادي إلا من انكساراته إحباطاته :جسد الطفل المكتشف لمعرفته الجنسية)قصة"كف عفريت"، (، جسد الرجل الواعي بموته سخرية من النزوع الطهراني الظاهري لواقع عكر )قصتي " جنازة رجل"و"عبد الله الزهيمري" (، جسد المرأة المتلذذة بإشعال الحرائق في قلوب المحرومين وجسد الشاب المكبوت )قصة"الفرج في باب الجديد"(، جسد التلميذ المحاصر بتقاليد الماضي والحاضر والمستقبل)قصة"سيدي قاضي حاجة"(، جسد الاعتقاد الديني المسطح)قصة" أبوهيوف"(، جسد الحب المستعر المولد للحروب والمعارك)قصة"رغبة الملك"( وجسد الفاتنة التي تجمع بين خبث الغدر وغواية الغرام وشهوة الفراش)قصتي"رغبة الملك" و"الفرج في باب الجديد"(، وبالتالي تلامس هذه القصص اللحظة المفارقة التي تؤشر على فوضى الواقع والقهر المجاني، لذلك يتسم البطل فيها بكونه إنسانا بسيطا ومغلوبا على أمره، ومثقلا بشتى أنواع الهموم وأشكال الرقابة :".. لنجده يعاند الحكومة الجديدة ويستفزها، وهي التي قررت أن كل مواطن يفرط في أقل واجباته الدينية، يعاقب، ولو لم يثبت ذلك الا بالاشتباه والظن والترجيح ")ص 45(. وهو ما يفسر كون أبطال هذه القصص ينخرهم الخوف، ويتملكهم الذهول أو هم تمكنوا من الانفلات من ضغط الواقع :" وحين مضى المغرب وزارتني ظلمة حالكة. تملكتني وحشة فظيعة.كتلك التي هربت منها، ظلمة القبر اللئيم ")ص14(/" وقد أقنعتها بشق الأنفس الا تفعل مثل الجاهلين الذين يخافون سيدي رمضان، يجعلونه إعلان حرب، يخزنون المؤونة كأنها ستنفذ")ص40(.
لقد توسل الكاتب بعري الجسد لتعرية المستور، وكشف المخبوء، وتقصي التفاصيل خصوصا وان هذه القصص ذات فضاء عار " من أي بذخ أو ترف، ولغتها ومضات للتكثيف وبلاغة الاقتصاد، وأبطالها أفراد من قاع المجتمع لا بطولة في حياتهم ولا ذروة، مهمشون وفقراء ومغتربون وحمقى وجوعى ومقهورون")5(.إن الصور التي يستحضرها الكاتب عن الجسد العاري تحمل إيحاءات عديدة واقعية ورمزية، وأبعادا نفسية وفكرية لعلاقة الإنسان بالجسد، وهي علاقة لا يمكن إدراكها الا بفك طلاسم اللغة الترميزية المستعملة، التي تخلق حوارا دائما مع الوجود، وتغوص عميقا في سراديب الذات. وتتعمق صورة الجسد حين يصبح معادلا للماء/ الخصب، والموت/ الجفاف كما في قصة" جنازة رجل"، وتنهض صورة الجسد،بكل حمولاتهاالسالفة،بكل دلالات السلب التي يحملها، كشهادة على مأساوية التحول في جغرافيا الوجود الإنساني.يقول السارد في "رغبة الملك":"..، ثم سمع صوت الألم يجرح وجه السماء بعدما مال عليها الفيل يكسر ضلوعها ويعجنها بلحمها، أما هو فقد انهار من تلقاء نفسه بعد أن لم يجد مهربا لشعرة رأسه")ص64(. وتبين،لنا، بعض النصوص، أنه بإمكان الرغبة الجسدية أن تهدم تناغم الفرد، وتزعزع تحكمه الذاتي، وتنسف سلطة التابوهات،كما في قصتي" رغبة الملك "و"الحب بالسيف"، ويمكن،أيضا، تسجيل الحضور المكثف للمرأة في فضاءات النصوص سواء على المستوى الجسدي أو عبر الذاكرة أو على مستوى الإحالة الرمزية، وهذا الحضور يمارس بشكل منفتح،باعتباره قوة فاعلة وليس هامشا، لان هذا الجسد ملغز ومسجور بالغواية والإغراء والمحو،"لأن جسد المرأة الذي لا يغري يعيش انمحاء وجوديا يموت فيه الجسد".يقول السارد:" كانت تنظر إليه دون حقد، لكن دون ود، تمزج بياض عينيها بسواده القاتل وتبعثه إليه لتتركه يتقلب في حيرته، ما هذه النظرات؟ ماذا تريد مني ؟، هي الآن تلبس الدروع وتمتشق السيف، قد تقتل ولا تقبل، ولكن جمالها الأخاذ لطيف للغاية، يرسل إشارات العشق وليس الود فحسب" )ص59(، وهكذا يصبح الجسد سلطة في يد المرأة، وبنية مهيمنة على مخيال الرجل /الذكر، مما يحتم عليه الولوج الى عالمها،كما في قصص"كف عفريت"،" رغبة الملك"،"الفرج في باب الجديد"و"الحب بالسيف"، وهو ما يؤكد انفتاح الجسد على تمثل الحقيقة الحاضرة في مفارقات عديدة، كالوعي بها في علاقتها بالحياة/الخصب، والرغبة في الحقيقة /الغواية، وهكذا يلتحم الجسد بكينونته وهويته في تواصلها مع ذاتها أو مع الآخر/الجسد، فتغدو الذات مذوة"تذويت الذات"، حيث تتعرى دون مخاتلة، وتحتفي بالذاكرة الفردية بثوابتها المعيشية :الجنس،السياسة، الدين،..ويرتد الفرد الى جسده الخاص، بل ويمنح لوجوده بعدا جسديا، وبالتالي يرمز الجسد الى الرغبة في المصالحة مع الذات، وتنمية العلاقات الحميمية مع فردانيته، لذلك يحضر في جل النصوص إن لم نقل كلها، باعتباره علامة استعارية قائمة على العنف والالتذاذ، ومتغذية على الألم والموت:".. ثم ارتطم جسدي بالماء فيما يشبه صفعا مائلا أحدث أثرا مماثلا لشق اللحم بالخناجر قبل للإحساس بالألم، ثم لا شيء، عدا الماء وهدوء القمر، ثم ذلك اللئيم")ص19(، فالماء، بما هو تجسيد للطهرانية ولحظات الصفاء، وبناء أفق مفتوح يمنح الذات فرصة الانعتاق من أسر الرتابة وصدإ الوجود،وتصدع الذات.والكاتب بهذا المنظور يكرس النزوع التحرري من التاريخ المجيد للرجل : وسلطته الجسدية المالكة لجسد المرأة،ويقصي ذلك الخطاب المعشش في ذهنية الرجل العربي لزمن طويل مكرسا جمالية الحرمان وشعرية إخفاء الجسد، وهو تناول حداثي تماس من خلاله المرأة ذاتيتها وحقها في الاختلاف :"قال السيف :"هات قبلة! "، فرد الحب :" حتى يختفي المتلصصون!" )بالمغربية البركاكة، مع جيم أعجمية (، ولم يرد أحد أن يختفي،فقال السيف :"هؤلاء أمريكيون يباركون الحب، هات قبلة"، ولما اقتنع الحب بكلامه، قرب شفتيه الدسمتين من فمه، فما كادت اللذة تشتعل في شفتيهما حتى سقطت عجوز أمريكية بينهما في اللحظة الحرجة، دون عمد، قضاء مقدرا،...")ص73(.و " تقوم هذه الشعرية على عمق ثقافي يتمثل في ضرب المثل العليا وتمجيد الحرية والكشف عن الوجه الحقيقي للإنسان وتحديد حجمه في الوجود".)6(وبين ثنايا النصوص،إذا، تتدفق أحداث الجسد والحب والموت، وشظايا الواقع الاجتماعي والديني والسياسي، وتستجمع تلك الوقائع مواقف الكاتب، حيث يرسم بطله المتمثل في الجسد المحاصر والعاجز والخرب ملامح وجودنا، حيث يؤشر على نوع من الاعتراف بالنقص والعجز واليباب في جسدنا العربي، وحتى في جسد حبنا، ليبقى الحلم ديدننا الذي نتعلق بأذياله على أرض الواقع، في محاولة لإنقاذ الذات المغتالة أحلامها وآمالها، ونظل متمسكين بهاجس البحث عن المعشوق الممكن الغارق في عاطفة مهروقة على أرض اليباب والرماد:"..لكن الإيطاليات عانقنني دفعة واحدة وأكرمنني كرما لم أجده في بنات بلادي المتمنعات، اللواتي إذا نظرت الى إحداهن، شعرت بأنك ارتكبت ذنبا عظيما، لا يمحوه سوى عدلين قبيحي النية")ص8(.وتراهن النصوص في محاولتها لإبادة الموت أو على الأقل إرجاءه بتوسيع الزمن، لذلك تتراءى ظلاله في كل حكاية :"..ثمة نزق، ثمة ميل جارف الى الدعارة، ثمة انغماس في اللذة، وهي جميعا، تجارب تضع الكائن في محاذاة الموت، ويإزاء العدم.ولكنها تجعل فكرة الموت أكثر احتمالا. وتزيد الميل الجارف الى الوقوف في وجه المحرمات والممنوعات توهجا، وتفتح الوجود على الحرية، حرية الكائن في مواجهة الرعب")7(.وهكذا يلامس الكاتب، من خلال صور الجسد، مواضيع تبحث في تركيبتنا الاجتماعية والثقافية غير المعترفة بالاختلاف وتعدد الأصوات، وهو ما يبعث، فينا، حرقة الأسئلة للكشف عن خبايا الذات وأسرارها الثاوية وراء الأقنعة والمساحيق، وهو ما تحاول المجموعة طرحه، لأن الكاتب لا يتخذ من الجسد موضوعا يسرد حالاته أو يجعله فعلا قدريا أو يفسر فعله لمن لا يعرفه، ولكنه يحوله الى أداة فنية لها فعلها وجماليتها، تحرك النصوص الى مناطق لا يمكن للقارئ تجاوزها.لقد تحول الجسد لديه الى فعل كاشف، يعري الناس والمشاعر المزيفة، ويفضح القوانين والأعراف والتقاليد والعادات البالية.وفعلا، وتميز الكاتب في توظيفه فعل الجسد على مستوى الموضوع واللغة والصورة، وبرع في استعمال الحدث بوصفه كاميرا موجهة للوجوه الخشبية، وحولها الى صور من الأشعة الكاشفة عن العمق الذي يقل تكلسا عن الظاهر. والكاتب حينما يستعد للكتابة"..تستيقظ ]فيه[مدافن الطفولة والذاكرة، وتأتي الذكريات دفعة واحدة لتطل من القلب، من عالم مملوء بالاخفاقات والانكسارات والأحلام")8(، لذلك تمثل كتابة الجسد وجسد الكتابة في " الحب بالسيف"، بامتياز،صدى لصوت الذاكرة.

لغة الجسد، جسد اللغة :

تمارس اللغة في " الحب بالسيف " عنفا وعريا نصيا، تستديم توتر وانفعال السارد، وما يقصد بعنف النص " تلك النبرة التي تشعرنا أن الكاتب يواجه عنف الواقع بمعادل من العنف يتجلى في اللغة والصوغ والجرأة على اقتحام المسكوت عنه، وقد لا يكون هذا هو التحقق الوحيد لعنف النص، لأن السخرية والباروديا يمكن أن يبلغا عنفا جارحا.. في جميع الحالات، يضطلع عنف النص بتنبيه القارئ الى أن الكاتب معني، أساسا بخلخلة ما هو قائم ودفعنا الى إعادة النظر فيه ")9(، لذلك لا نستغرب وجود معجم مربك وفاضح يفيض بفتنة الجنس في نصوص المجموعة.ويختلط فيه الحكي الواقعي بالمتخيل الذي يتماس مع المدار العجائبي الساخر كما في قصتي :"الفرح في باب الجديد"و" الحب بالسيف". ويلجأ الكاتب الى توظيف طبقات لغوية متعددة قائمة على استبدال اللغة وتفجيرها لتستوعب تعدد الأمعاء، وتنفتح على تعدد المسارات التأويلية، إذ يتناغم المحكي الفصيح والمحكي العامي والمحكي الشعري في انسجام تام يقل نظيره،كما في المقطع التالي :" لم تلبس الفاتنة شيئا، أو لبست قليلا، تعطرت كثيرا وتزينت أكثر، وتركت جسمها يعيط بالله والشرع، إذا مالت الى اليمين تعرى منها اليسار وإذا مالت الى اليسار تعرى اليمين، وإذ انحنت الى الامام انفجرت قنبلة في باب الجديد ")ص24(. ويجدر بنا أن نعترف بكون المجموعة توظف الوصف العجيب، وتحتفي بتفجير اللغة القائمة على الحكي المتدفق والمشحون بلغة بسيطة تستعمل خطابا يساهم في خلق شعرية جمالية تتعالق مع غواية التماهي :"نظر الحب الى السيف بعد ستين زرقاوين تسيلان لعابا، وضع السيف فمه على شفاه الحب المتفجرة حمرة لامعة، وبدا على الخصر المشدود المطاوع لقبضة كف.." )ص70(، فتزهر اللغة بانزياح الرؤى المنطوية في الغور السحيق لتكتب طبقات التاريخ والذاكرة وانفجارات الحاضر، ويعبق جسد الكلمة بأبعاد لا تنضب، فتغدو نصوص المجموعة نصا واحدا يجسد الجراح الروحية والجسدية على جسد الصفحة، وبموازاة مع هذه الملاذات المحتضنة للذات تأتي اللغة عند الكاتب مخضبة بصور شعرية تسعى الى تبديد نثرية الواقع، خالقة أفقا حالما متعددا، وهو ما يتبدى في هذه النماذج :
-" هي تتبختر بين خيام البائعين مثل كائن فضائي لا يلائم مشهد الموت البطيء الذي يحاضر باب الجديد من كل جانب "( ص24).-" دمي يخرج غريبا مني، يقفز هو أيضا، ويجري على الإسفلت"(ص33).
-" انتبه الى زوايا مثلثات الحليب المدببة كالمسامير، فقد تذبح الكيس في لحظة" (ص38).
-" وتدفق الدم عبر ضخات متتالية على ايقاع دقات القلب، مثل صنبور منسي "(ص45).-" أنقذوا حياتنا من الموت بعد أن عضتنا سموم الصحراء؟"(53).
-" ابتسمت له، فأشرقت أرض المعركة بالأنوار والورود والزهور العطور و تغريد البلابل بينما البيادق يتبولون والعرق يتصبب تحت خوذاتهم الساخنة القابلة لقلي البيض " )ص60(.
-" أضواء الحياة الريجينسية ترقص فوق الجوارب المضيئة، تقفز، تتوقف، ثم تطير ثم تثقب عيني السيف، فينحبس الدم في قلبه ")ص69(.
فلغة النصوص،إذا، تنفتح على ذاكرتها وجسدها الشعريين المتوهجين بحرارة الوجدان والجمال، ليمتد شعاعها الشعري باقي المكونات الأخرى، التي تفتح السرد على فضاء دلالي انزياحي يظهر الجمال بقوة انزياحه المهيج للتخييل، " يفتحها على فضاءات جمالية تدفعها الى تخطي إبداع يحرر لها حيوات جميلة"، فيوقظ السرد نحو الفتنة الفائرة، التي تتجاوز التصوير الجامد والسردي للحكي، وخير مثال على ذلك قصة" الحب بالسيف". ويصوغ الكاتب عوالمه الحكائية بلغة سهلة وبسيطة من دون أن تفقد شعريتها وبريقها ورعشتها التعبيرية المنسوجة من تجسيد رائع للعلاقات الإنسانية والاجتماعية ، التي يعيد الكاتب صياغتها بعين البساطة الممتعة،لأنه يبلور موقفه الشعري شديد التكثيف، ويستبطن لحظات نفسية خاصة بكونه القصصي، وأحيانا يعتمد إفراغ المشاعر المتدفقة بأسلوب سردي مباشر، كما في قصة"كف عفريت".
إن لغة الكاتب في هذه المجموعة تعانق ورشة التجريب بامتياز، من خلال اللعب النصي القائم على استدعاء خطابات واقعية )كتوظيف بنية ولغة الشطرنج في "رغبة الملك"( ورمزية، يعمل على أسلبتها، والسخرية من حمولاتها لدلالية والتداولية /، كما في قصتي"الفرج في باب الجديد" و"الحب بالسيف"وباقي القصص الأخرى، على اعتبار أن السخرية والباروديا مكون فني ثابت في اللغة القصصية للكاتب)10( منذ عمله الأول " الكلام بحضرة مولانا الامام"، إضافة الى توسل نصوصه بلغة المتعددة المحتضنة للذاتي والحائمة حول الموضوعي لتشخيص لقطات من التحول الاجتماعي والمخيالي، ونقد هشاشة الواقع الكائن المملوء" بالألم والزحام والعويل والنشل والتسول المسلح")ص23(، حيث ترى" الفتنة في كل شيء، صبيات الأربعة عشر يقمعن طفولتهن باندفاع مجنون نحو غنج مبكر")ص24و25(.


جسد الحكي، حكي الجسد:

يؤطر التشخيص الحكائي في " الحب بالسيف" مسارين جماليين في السرد : الأول يمتح من عوالم الطفولة والحلم والتذكر )نصوص "كف عفريت"،"جنازة رجل"...(، والثاني ينهل من تشخيص الواقع بنقل جزئياته )نصوص"الفرج في باب الجديد"،"سيدي قاضي حاجة"...(، والسرد في هذه المجموعة القصصية يتسم بالخصائص التالية :
- سرد خطي أحيانا، كما في قصة"كف عفريت"..، وسرد متقطع أحيانا أخرى، ذو بنية دائرية، كما في "جنازة رجل"، عبد الله الزهيمري"..
- سرد موجه بالحوار، كما في " عبد الله الزهيمري"و " الحب بالسيف"، حيث التماس مع الفن المسرحي، أو السرد الموظف للوصف المعطل لحركة السرد، كما في " كف عفريت"...
- سرد مقلوب، يتداخل مع نص أصل، ثم يقلبه الى نص فرع، كما في" حكايات مقلوبة" التي تمتح من السردية القرآنية / قصة النبي موسى مع الخضر.
- توظيف شكل التقطيع الشعري المرتكز على الأسطر والجمل القصيرة الموجزة، حيث يعتري النص نوعا من التفكك، باعتباره تشويها في نظام الحكاية، على غرار تجربة الكاتب المغربي أحمد بوزفور في أعماله القصصية. يقول السارد :" بعد أن نزلنا الى البر، مشينا مسافة يومين، حتى بلغ بنا التعب حدود العجز عن المشي، فوجدنا ربعا طيبا، به قوم كرماء، أنزلونا بحماهم، وأغدقوا علينا من فضلهم.." )ص 53(، هذا بالإضافة الى استعمال التقديم والتأخير/"جنازة رجل " و"عبد الله الزهيمري"، والحذف والغموض المقصود/"رغبة الملك "و "الحب بالسيف"، وتداخل الأحداث والتشكيك في واقعية ما يروى، وتوظيف المونولوج"كف عفريت"، وتقاطع الزمان والمكان"سيدي قاضي حاجة"، والاشتغال المكثف لشبكة ترميزية " رغبة الملك" أو مساهمة الحلم والاستيهام في صياغة المسار الحكائي "كف عفريت"أو تحويل الجسد الى قيمة رمزية ذات مدى حكائي " جنازة رجل"أو عبر تحول اللغة الى جسد له سلسلة من الصور البلاغية والرمزية التي تشخصه وتمنحه بنية حكائية )"الحب بالسيف"(، أو تداخل بنية لعبة الشطرنج بلعبة الحكي "رغبة الملك"، و إسناد الكلام لشخوص من عالم الأشياء)الجثة، السيف..(بتوسيع مفهوم الشخصية.وكل هذا التنوع في أساليب السرد يراهن على الامتدادات الإيحائية والسميائية للدال السردي، وفي نفس الوقت يؤشر على أنه يمتح أو يتناص مع تجارب كتابية في مقدمتها الخطاب القرآني، وبهذا تتجاوز نصوص المجموعة، على المستوى السردي، النمطية والجاهزية التي تعيد إنتاج الواقع النصي،خصوصا وأن هذا السرد، على العموم، سرد تلقائي انسيابي.يضاف الى ذلك كون الجسد خلق خيطا سرديا رابطا محكما للنصوص، بحيث جعلها نصا واحدا متعدد الزوايا بطرح بسيط، لكنه يأسر القارئ ويسحره.
إن السارد في " الحب بالسيف" يحكي بضمير المتكلم، ويطل على القارئ من فوق، كنه لا يلبث أن ينزل من برجه ليشارك القارئ في الرأي)قصة"الحب بالسيف"(، ويهيمن أحيانا على فضاء النص، يختفي أحيانا أخرى ليفسح المجال لملفوظ الشخوص، كما في المقطع التالي :"فالتفت الى الحكيم وقال : "أرأيت ؟ لم يحدث شيء مما خربت السفينة من أجله، أما الآن فقم الى وجهها تصلحه وحدك !" )ص53(. وإن السارد ينطلق من التجربة الذاتية نحو مجاهل ومسالك
التخييل وفضاءاته حتى يحقق ذلك التواصل العميق بين الذاتي والموضوعي، الشخصي والتاريخي، والواقعي والمتخيل،لذلك يهيمن الميثاق السير ذاتي على النصوص بسبب تعمق شعور الذات المبدعة بالاغتراب لعدم تلاؤمها مع واقعها المتدهور في قيمه، فينكفئ الكاتب على ذاته مستعيدا ذكريات ماضيها،بعد أن خيب الواقع المعيش أحلامها وطموحاتها، وحولها الى سلسلة من العذابات السيزيفية.
وإذا كان المكان يقوم بدور أساسي في العمال القصصي، فإنه في "الحب بالسيف " يعد معادلا للجسد بكل مستوياته وأبعاده، لذلك جاء المكان في نصوص المجموعة ليفصح عن العلاقة والأمكنة، حيث ينوب عنه السارد في عملية ضبطها، والتعرض لجزئياتها. ومن هنا، يهيمن الفضاء العام )قعر النهر، الشاطئ، الدرب الكبير، غرفة الفندق، المدينة، الضريح، القنطرة، السفينة، البستان، المقهى، الماكدونالد.. (على الفضاء الخاص ) البيت(، لأن " الفضاء الحيوي كما يقول ماتوري ليس فقط فضاء جغرافيا عندما يضيق عليـ]ـه[ الخناق داخل المناخ الاجتماعي والعائلي الذي تبرز فيه والفضاءات المسموح بها والمسكوت عنها في الكتابة القصصية")11(. وهكذا يظهر السارد مقتحما للمكان، ومتحركا على مسرحه بكل حرية خارج حدود الممنوع، وبما أن العلاقة مع المكان تعكس نوع العلاقة القائمة بين الذات وجسدها، فإننا نلمس درجة الوقاحة/ الشفافية التي يعالج بها هذا الفضاء الجسد، كما نلمس، سطوة السلط بأنواعها الضاغطة على الفرد رغم ثورته في سياقات خطابيا مباشرة.

على سبيل الختم :

من الأكيد أن هذه المقاربة قد أسقطت العديد من الأسئلة التي قد تثيرها نصوص : الحب بالسيف"، التي وفق كاتبها في أن يعبر من خلالها بجرأة شديدة عن عري الجسد ورغباته المتوقدة والحبيسة، ويكتشف رسم معالم عالمنا الغامض بأماكنه وشخوصه، ويبسط قلمه فوق رمال صحرائنا العارية واللامتناهية لكشف المستور واستخراج المكبوت في الوعي، والتعبير عنه بواسطة بناء جمالي يواجه سلطة الواقع بسلطة المتخيل. إنها كتابة تلج سراديب جسدنا لترسخ تميزها في زمن اليباب والخواء استعدادا لدورة حياتية أخرى، وبالفعل، نجح الكاتب،مرة أخرى، في تشكيل نصوصه بصورة تنضاف الى رصيده القصصي، الذي يشكل تفاصيل تجربته القصصية المعبرة عن صوت قصصي أصيل يوظف وعيه لصالح الحياة والناس والقيم الإنسانية من خلال ركوب مغامرة التجريب القصصي.

الإحالات والهوامش :

)*( علي الوكيلي :" الحب بالسيف " ،قصص، منشورات جماعة الكوليزيوم القصصي، مطبعة أنفو-برينت 2004، فاس،المغرب.
)1( كولدمان – ساروت – روب كرييه – موليير :" الرواية والواقع "، منشورات عيون المقالات، دار قرطبة، الدارالبضياء –1988، ص :11و12.
)2( عبد الكبير الخطيبي :" الرواية المغربية" ،ترجمة محمد برادة، منشورات المركز الجامعي للبحث العلمي،ع2، الرباط،1971،ص:70.
)3( عبد الكبير الخطيبي :"الجسد بين الصورة والدليل "،"الحياة الثقافية" )التونسية(،ع 66 – 1993،ص:67.
)4( علي الوكيلي :" الحب بالسيف "،مرجع مذكر،ص:7، وجميع الإحالات الموجودة في ثنايا النص، والموضوعة بين قوسين، مأخوذة منه.
)5( حسن البقالي :" من عري الكائن الى عري الحكي "، العلم الثقافي، السبت 8أبريل 1996،ص:3.
)6( د حسن يوسفي :" الكوميديا والجسد والمقدس "، العلم الثقافي،س28، السبت 13ماي 1997،ص:4.
)7( د محمد لطفي السيد :" نداء الهامش ":"الحياة الثقافية) التونسية(،ع67/68، 1994،ص :40و41.
)8( واسيني الأعرج :" حوارات اليوم الأخير"، صحيفة " المساء"، الأحد 25 جانفي 1987،ص:10.
)9( د محمد برادة :" الرواية الجزائرية بين ثورة الاستقلال وهاوية الإرهاب"، صحيفة "الحياة "بتاريخ29/9/2004، نقلا عن موقع دار الحياة :www.daralhayat.com
)10 ( انظر ،إبراهيم القهوايجي :"شعرية القص واستراتيجية الكتابة في " الكلام بحضرة مولانا الامام"، صحيفة " بيان اليوم السادس "،العددان :3751 و 3758،4/12أكتوبر و 27 شتنبر2002.
)11( عروسية النالوتي :" والفضاءات المسموح بها المسكوت عنها في الكتابة القصصية التونسية ": "الحياة الثقافية التونسية،ع76/68،1994،ص: 20