إن تحديد الشعرية بالوزن / القافية اخذ يضطرب منذ القرن العاشر الميلادي خصوصا في الدفاع النقدي الذي قام به أبوبكر الصولي انتصارا لشعرية أبي تمام وفي آراء عبدا لقاهر الجر جاني. فقد نشأ ميل إلى التشكيك في أن يكون الوزن والقافية مقياسا للتمييز بين الشعر والنثر وتقسيم المعنى عند الجرجاني إلى نوعين: تخيلي وعقلي، دليل بارز. فحيث يكون النص قائما على المعنى الثاني لا يكون شعرا، وان جاء موزونا مقفى".
وفي حين قال الشاعر العراقي رفائيل بطي في عام 1922 :"إن الشعر لا يخلقه الوزن والقافية و كل العجب من إصرار الناظمين على التمسك بالوزن والقافية !!فالمستقبل للشعر المنثور".. فإننا نجد في فلسطين وكما ذكرت المرحومة الدكتورة نادرة السراج في كتاب الرابطة القلمية أن بعض شعراء المهجر مثل رشيد أيوب قد وضعوا قصائد نثرية في دواوين شعرهم الموزون منذ عام 1928!!
أما الشاعر الفلسطيني الراحل توفيق صايغ فكان أول من رسخ قصيدة النثر في الوطن العربي قبل نازك الملائكة وقبل أدونيس، فشكلت مجموعته الشعرية “ثلاثون قصيدة" انعطافة نوعية في الشعر العربي. وكذلك فعل جبرا إبراهيم جبرا و مجموعته " تموز في المدينة ". ولقد اعتمدت الأعمال الشعرية للصايغ وجبرا على " تقنية الصدمة والتأثير" أكثر مما اعتمدت على الجمالية الشعرية. وأيضاً فإن الشاعر التقليدي حسن البحيري قد كتب عام 1940مجموعة من الشعر المنثور بعنوان " أحلام البحيرة ". إلا أن الشاعر الفلسطيني راضي صدوق الذي أعد انطولوجيا تاريخية عن الشعر الفلسطيني استثنى منها شعراء قصيدة النثر متنكرا بذلك للحداثة وما بعد الحداثة. مع أنه كما يقول أحمد دحبور:" فإن راضي صدوق نفسه قد أصدر مجمــــوعة بعـــــنوان (الحزن أخضـر دائما) وقد صنفها بالشعر المنثور "..عدا انه وضع في الانطولوجيا اسم الشاعر المرحوم ميشيل حداد وهو من رواد قصيدة النثر في الجليل الفلسطيني المحتل والذي لم يكتب في حياته سطراً موزونا..
وهكذا استثنت انطولوجيا شعرية فلسطينية أسماء الشعراء حسين البرغوثي و وليد خازندار ومحمد حسيب القاضي وزكريا محمد وخالد درويش و منذر عامر وحسن البطل ووسيم الكردي ومهيب البرغوثي وعثمان حسين وعلاء كاتبة ووليد الشيخ وأحمد يعقوب طبعا، عدا عن الأسماء التي تكرست من جيل التسعينيين : كفاح الفني وأنس العيلة ومحمود أبو هشهش وأشرف الزغل وخالد جمعة وأحمد الحاج وسمية السوسي وخالد عبد الله وغيرهم من"ضيوف النار" وآخرين من الجيل الجديد وبانتظار اكتمال تجربتهم مع أن بعض أسمائها قد بدأت تتكرس.

وكما قلنا في ورقة سابقة:إن قصيدة النثر، التي اكتسبت شرعيتها في الوطن العربي، وبالتحديد في مراكز ثقل الحضور الشعري كالعراق ولبنان وسوريا و مصر، لم تزل تتعرض في فلسطين إلى مقاومة، لا بل إنها تواجه بسخرية من جانب الذين يعتقدون أن الثورة الفلسطينية والانتفاضات المتتالية لا علاقة لها بتثوير الأدب ونفضه. وإذا كانت الانتفاضة السياسية تأتي لغة من باب النفض (والنّفضُ ما تساقط من أوراق الشجر)، و كي لا تبقى جيوش من الشعراء تطرز على الثياب نفسها، فان نفض الثوب الشعري في فلسطين يجعل فعل الانتفاض الثقافي والسياسي يكمل دلالاته في المحتوى والإطار والآفاق.. وفي تقديمنا لملف الشعراء الشباب قلنا لسنا بحاجة هنا للرجوع إلى "مواقف ومخاطبات" النفري و لا إلى "الإشارات الإلهية " للتوحيدي ولا إلى "رسائل" الجاحظ و لا إلى "أخبار" الحلاج..لكننا وجدنا من الضرورة الرجوع إلى التراث الصوفي باعتباره مرجعا تراثيا للكتابة الجديدة.
ففي أيلول 2003 قدمت الباحثة سحر سامي رسالة الدكتوراة إلى قسم اللغة العربية كلية الآداب جامعة القاهرة عن الشعر الصوفي وعلاقته بقصيدة النثر.


ابن عربي وقصيدة النثر
و قد رأت سحر سامي: أن ابن عربي هو مؤسس لـقصيدة النثر الجديدة.. وانه قدم نوعا من التأسيس يمثل سبقا بالقياس إلى الدراسات الحديثة في مجال الشعرية، بل وفي أشكال الكتابة النثرية والسردية التي تعدّ تمهيدا مبكرا لقصيدة النثر والإبداع القصصي والروائي الحديث.
فمحي الدين بن عربي خاض مغامرة الكتابة حتى نخاعها، واستطاع أن يقدم عالما بديلا أو موازيا للواقع من خلال اللغة. انه يوجد باللغة وفيها، ويعرف ذاته والعالم بهذه اللغة وفيها أيضا. إنها لغة الإشراق المحملة بالتجليات. لغة تخلق خالقها. وهي إظهار الوجود الباطني.
واستندت الباحثة إلى كتاب الفتوحات الذي يعتبر من أهم كتب ابن عربي التي تتجلى فيها طاقته الإبداعية ورؤاه الفلسفية في حالة من النشوة والتوهج الفني.. ، بلغته المتميزة وتراكيبه وصوره وأشكال التناص والسرد فيه،حيث فكرة الشعر والخلق الشعري عند ابن عربي لا ينفصل جوهرها عن فكرة خلق العالم ،وكيفية الخلق كتجسيد لظهور الخالق في خلقه ورؤيته لذاته في مرآة العالم والموجودات، وحيث يميز فكرة الشعرية عنده ضرورة الانفلات من القوالب الجامدة والأطر التي تحد من حرية الروح..
فاللغة عند ابن عربي، من حيث كونها صياغة جديدة رافضة ومختلقة مع كل التراث السابق، يمثل اختلاقها في حد ذاته جزءا من مفهوم الشعرية يرتبط بالقدرة على استثمار إمكانيات اللغة البلاغية والدلالية داخل النص، وتوظيف كل ذلك لفتح حدود اللغة على المطلق..ولهذا تتجاوز اللغة حدود العلاقة المنطقية بين الأشياء لتكون ذاتها، لغة تخلق منطقها الخاص، تهدم العالم وتعيد تشكيله في سياقات جديدة وهي وسيلة وغاية في نفس الوقت تحمل قيمها الجمالية. بها يعرف الصوفي خالقه وبها يخلق العالم من جديد ويوجد فيه. وهي تعبير آخر عن فكرة النفس الإلهي في الخلق فهي لغة وجودية ومعرفية بكل المقاييس، وهي الصورة الشعرية بالمعنى الفلسفي عند ابن عربي، وفكرة الخيال، والخلق، وما يسميه ابن عربي بالقوة الخيالية
فنص الفتوحات المكية يقيم كثيرا من العلاقات مع كم لا يحصى من النصوص مثل القرآن والنصوص الدينية التوراتية والمسيحية والأحاديث النبوية وأقوال الصحابة والشعر والتراث النثري العربي إضافة إلى الخطاب الصوفي برمته والخطاب الفلسفي والأساطير. فهو نص مفتوح على الوجود تستطيع الكلمة فيه الإحالة على خطاب كامل في إطار العلاقة الجديدة التي تحددها رؤية ابن عربي الفكرية والجمالية.


التجديد دين الحياة
ولأن التجديد هو دين الحياة وليس التخلف هويتنا وليست هوايتنا محاربة التقدم والتطور.. وللأسف فان أكاديميا مثل الدكتور عز الدين المناصرة، قد شن حربا على قصيدة النثر التي سخر منها وأسماها القصيدة الخنثى، وبعد ما أثاره هذا الكتاب من ردود فعل ومساجلات واحتجاجات.وفي السنة الأولى من الألفية الثالثة -وهذا التـزمين مهم، أهمية إدراك إيقاع الحياة _، انشغل المناصرة في إنجاز بحث خاص عن قصيدة النثر العربية من خلال استفتاء وجهه لعدد كبير من الشعراء والنقاد العرب عن قصيدة النثر..وبرأينا إن ما صرح به الشاعر العراقي سعدي يوسف:"من أن الشعر الفلسطيني هو درويش و وليد خزندار وزكريا محمد "قد مثل المحرك الرئيس لحرب المناصرة على قصيدة النثر، لأنه شعر بإقصاء، وهو الذي وضع اسمه في المرتبة الثانية في سلم الشعراء الفلسطينيين والعرب بعد محمود درويش في كتابه جمرة النص الشعري !! ويكفيني هنا أن أتبنى إجابة الأديب الراحل وشيخ النقاد الدكتور إحسان عباس على استقصاء المناصرة..
يقول الراحل د.إحسان عباس : "أنا نشأت على الإيقاع المنظم منذ عهد بعيد، وكانت ميولي رومنتيكية صرف.في إيثار الشعر القريب إلى نفسي..، لكني وجدت أن حيرتي هي نفس حيرتك بصدد القضـايا التي تتصل بقصيدة النثر.. فهي ليست سردا ولا قريبة من الشكل الملحمي، ولا شبه بينها وبين الشكل المسرحي... ولا قرابة بينها وبين المقامة، وقول محمد الماغوط: أنا اكتب نصا لا يحل إشكالا لأنه يعمم بدل أن يخصص، وربما كنت اشـد منك حيرة في موقفي من هذا الجنس الأدبي، نحن متفقان في هذا الحوار على استعمال مصطلح قصيدة النثر إلى أن يتم الاهتداء إلى مصطلح انسب، وأنها جنس أدبي يجد مجاله في الواقع، في المجلات والصحف، وانه لا جدال حول واقعيتها، ولكننا لا نزال غير متفقين على العناصر الشعرية التي لابد من توافرها فيها، ولا على النسبة الضرورية من كل عنصر، وما هي العناصر الشعرية التي إذا نحيت بقيت قصيدة النثر معترفا بها ومقبولة، وهل تحديد عناصر بعينها لازمة وأخرى غير لازمة يقف ضد حريتها وحرية مشاعرها؟؟
إن كون قصيدة النثر قديمة قدم القصائد الكلاسيكية والرومانتيكية وقدم تفاوتها في النوعية يفرض علينا قبولها، وحين قبلنا قصيدة التفعيلة فإننا قبلنا الانشقاق على عرف شعري سائد أو قل سلمنا بان الشعر الغنائي(Lyrical poetry)
فن قابل للتحول، وان استمراره في التحول يتفق والدعوة إلى استقلال كل شاعر بخط شعري، كي يضمن لنفسه التفوق، ويتجنب تكرار النماذج المألوفة، ويتجاوز ظاهرة الاستنساخ التقليدي، وهي سواء أكانت تطويرا للقصيدة العربية جاء موازيا لحركة شعر التفعيلة، أو كانت حسبما نعتقد جنسا أدبيا ثالثا أو غير ذلك فانه لا شيء يقف ضد شرعيتها، ولكن التنوع الذي ظهر لدى ممارسيها يفترض غربلة نقدية لهذه الظاهرة، وربما التصنيف الممكن داخل هذه الظاهرة التي ستصبح واسعة مع الزمن وتميز شاعر عن آخر فيها، شعر التفعيلة ألم يدمر الوزن والقافية العنصرين البارزين في الشعر الكلاسيكي والرومانتيكي وبالتالي قضى على الإيقاع المنظم الخارجي (إلا قليلا).
ويتوجه بالسؤال إلى الدكتور المناصرة:" ألست ترى أن الغالب على قصيدة النثر منذ نشأتها وحتى اليوم ـرغم التنوع ـ هو التأمل، صوفيا كان أو غير صوفي، وأن التأمل يلتقي مع إطلاق الحرية للهواجس النفسية مع التحرر من القيود الشكلية، لكن عجلة التطور في الفن، لن تقف، كما أنها لم تقف، عند حدود التأمل، وان ذلك يعني انه لابد من تغليب العناصر التي يجب أن تسود مرحليا ـ قصيدة النثر لكي تستحق اسم نوع أدبي مستقل، ثم تصبح من مهمة كاتبها انه يثور على التحديدات بتميز. و يسأل د.عباس :" إلى أي حد ستصل قصيدة النثر في الحرية، وهل ستصل بها هذه الحرية إلى درجة تنهزم فيها هويتها؟ ويجيب بيقينية راسخة:" لا يوجد جنس أدبي يوغل في الحرية إلى درجة يفقد معها هويته". وبرأينا إن ممارسة الحرية بكل تجلياتها وأشكالها وتصنيفاتها لا يمكن أن يعد هزيمة كما أن الهوية الشمولية للإنسان قد اكتسبت مفاهيم وتعريفات وإعادة صياغة انطلاقا من منظور الحرية.
أما بالنسبة للشاعر محمود درويش فبرأينا انه لم يخرج عن الإطار الفني الذي أوجده السياب للقصيدة العربية !! وكأن شاعر الثورة الفلسطينية قد اتخذ موقفا من التجديد والتثوير ربما لاعتقاده الراسخ أن الشعر إنشاد، في حين لم يكن موقفه من قصيدة النثر موقفا فنيا أو إبداعيا إنما كان موقفا فكريا وسياسيا من أطروحات منظري قصيدة النثر كأدونيس وأنسي الحاج وبول شاؤول..

وماذا يفعل الجيل الشعري الجديد في فلسطين والذي أطلقُ عليه:" جيل الانترنيت ومفتتح القرن الحادي والعشرين"، هذا الجيل يعيش مرحلة تسقط فيها أنماط الرؤى الفكرية التقليدية، وتحل في مكانها أنماط جديدة تمثل حساسيات مختلفة، فتتوارى الرؤى الفكرية والفلسفية الكلية وتحل في مكانها تجارب تحتفي بالجزئيات، وبالتفاصيل الصغيرة التي تعبر عن العابر والمعيش أكثر من المتكامل والجاهز أو المكرر في حياتنا من السخرية المريرة الدفينة و الفوضى العارمة.. لهذا تغترب قصيدة الجيل الجديد في فلسطين عن عصرها وناسها، دون أنّ تخسر زخم التبشير بالحرية و بالديمقراطية وبالتمرد والتفرد والتجدّد والتقاط هموم الإنسان.. فلقد غادر الشاعر وظيفة التلاوة، ولهذا انقلبت القصيدة إلى نَصّ، وما يعنيه ذلك من موت المؤلف، وبهذا أفضى موت المؤلّف إلى ولادة القارئ بسلطة الذائقة المتجبرة والتأويل.. فالشاعر يكتب في صيغة قصيدة، والمتلقي يستقبل في صيغة نصّ.. الأمر الذي يمنح القارئ حقّ استيلاد النصّ، عندها يقوم المتلقي قارئ النصّ فيمنح نفسه حقّ قتل الشاعر في حين يبحث الشاعر عن قارئ لديه الحد الأدنى عن كيفية قراءة القصيدة تماماً كما أنصت إليها الشاعر ــ بينه وبين نفسه ــ في مسار خلقه..
والقصيدة هي عمل تجريبي، منطقي وغير منطقي، انصهاري وانفجاري يشظي النص و يغتني ويزدهر داخل اللعبة الخصبة للتحولات، وإن ترجمة الآداب الأجنبية والعلاقة مع آثار الماضي الأدبي تلعب كلها دورا أساسيا في إبداع الشعر وخلقه في انفتاح تفاعلي على الآخر، لكن ليس انفتاحا لتسامح متراخ..
ومن داخل ورشة الشعر العراقية الخاصة والمتميزة والمتفردة..كنت أدرك أن المنهج البنيوي والتفكيكي في النقد الأدبي كانت الغاية السياسية منه تفكيك وإلغاء الثقافات الشمولية..وفي هذا السياق جاء تيار الحداثة ليفكك ويقصي ويلغي بما يتناقض مع قانون نفي النفي الهيغلي الذي لا يتطلب النفي الكليّ، إنما نفي ما هو سلبي فقط وإعادة البناء على ما هو إيجابي في الظاهرة التي تم نفيها.. عندها رأيت أن واقعنا العربي ليس مهيأ تماما للتعامل مع الرؤى ما بعد الحداثية،بل لازالت الحداثة وما قبل الحداثة أيضا تمارسان فعالياتهما .. وكنت أرى مناخ ما بعد الحداثة الثقافي قادما خلال عقد أو عقدين ليسمح بتجاور كافة الاتجاهات في الكتابة، بحيث يكون هناك أتباع لكل مدرسة أدبية مهما كانت، القصيدة العمودية، قصيدة التفعيلة، قصيدة النثر، و قصيدة ما بعد الحداثة التي ترافقها تقنية الكمبيوتر. وهي ديمقراطية بطبيعة موضوعاتها وشكلها، وهي حليفة الحياة أكثر من الموات.فمرجعيات القصيدة الجديدة هي الحياة الجديدة، ومجموعة القوانين الجديدة التي غزت الحياة، بعدما تلاشت المنظورات السابقة.. فرفضت الثنائياتى التجاور مع القصائد الأخرى وليس إقصاءها أو إلغاءها عبر معادلات مثل: (الشعر/النثر).. فرفضت الثنائيات المتعارضة والمتناقضة والمتضادة على أرضية التنافر ، إنما على أرضية وحدة وصراع الأضداد..

ماذا يفعل الشاعر اليوم في فلسطين والعالم وقد أحالت العولمة الشعر إلى مساق التنافس الاستهلاكي، ورمى النظام العالمي الجديد بالشعر إلى المضاربات الاقتصادية لدور النشر..
بصورة عامة يبدو أن الثقافة في فلسطين تعيش مواتا منظّما تديره آلة الموت و استبداد نزعة الانسحاب من العصر.إن وطأة التخلف، وثقل الاحتلال وشدة الضغط الاجتماعي، العائلي والعشائري والأخلاقي، كان لا بد لهذه العوامل أن تذهب بشكل جدلي، إلى خلق نقائض راديكالية للتخلف، ومن دون الكثير من المقدمات المنطقية والتراكمات الواجبة شكليا من اجل قيام حركات التجديد، كي تشكل قفزات نوعية كردة فعل على التخلف العام. فعبر مسار التاريخ الإنساني وقفت النخبة تعارض بشكل جوهري وتصارع ضد ذهنية التخلف والانسحاب من العصر..والحياة الثقافيةلك الإجماع غير المبرهن عليه والمعتبر وعياً اجتماعيا مشوها... والحياة الثقافية اليوم،تعاني بشكل أو بآخر من وضعية عدم التوافق بين عالم ينقضي، وعالم يولد، عالم يذهب إلى الماضي غير قادر بمنظوماته وإمكانياته التقليدية على إشباع الضرورات، وعالم آخر يمكن أن يقوم بهذا الإشباع، من خلال تلبية الحاجات الوليدة..

ليست بالضرورة خلاصة
إن الإبداع هو كالداينامو يولد الكهرباء والنقاد هم من يقيسون قوة هذا التيار..ولأن الإبداع هو أولا فإن النقد يأتي ثانيا مع أن أدوات ومفاهيم النقد أصبحت متخلفة عن مجارات النص الأجد فربما احتاج الأمر إلى أن يخلق النص الأجد نقاده
فالنص الأجد هو نص مغاير ليس بهدف المغايرة من أجل المغايرة، إنما لأنه يسعى نحو رؤى ومعايير جمالية ومعرفية خاصة.. من خلال هندسة خاصة للمخيلة الشعرية في نصٍ أجد شكلا و مضمونا بما يخلق صوتا متفردا
ولهذا الصوت المتفرد مقومات جوهرية يقوم عليها وهي برأينا:
1-الموهبة الشعرية
2-الرؤية الجمالية الحادة المتأتية من منظومة الشاعر الفلسفية المتخاصمة مع القبح غير المهادنة له بما يجعل من ذلك قضية حياة أو موت
3-إدراك إيقاع حياة العصر مع استشفاف " نبوئي " للمستقبل وهذا يشترط
4-الميتبوليزم المعرفي الجمالي _ (الموازي لعملية الآيض البيولوجية في جسم الكائن الحي
أي الهضم والتمثيل الغذائي ) _ السليم للإرث الإنساني للشعر وإن لم يتسنى ذلك فليكن إرث المبدعين المتميزين المتفردين فان لم يكن هناك "عسر هضم" إبداعي جمالي معرفي تتم إعادة تمثيله و تركيبه بشكل مبدع و متفرد بهاجس الابتكار الجديد الذي يتطلب براءة اختراع لم تطرق من قبل
5-المثابرة
وتعني الإخلاص المطلق والمتفاني للشعر والإبداع بحيث يكون الهاجس الأول والأخير للمبدع هو الشعر والإبداع وكل ما عدا ذلك يكون ثانويا أو رئيسيا مع التأكيد أن الشعر هو الأساس
6-القاموس اللغوي
يقول النفري: "كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة ". لهذا يستنجد الصوفي بالجسد وإيقاعاته وآلياته يجسد الرؤيا بغناء وانتشاء، فيما الشاعر الذي تجمعه الرؤيا بالصوفي وتفرقهما آليات التعبير فان اتساع الرؤيا للشاعر يتماهى مع اتساع العبارة في قاموسه اللغوي و شسوع فضاءات لا متناهية لهندسة مخيلته ومعماريتها البنائية فللذاكرة سطوة مستبدة تهون أمامها منجزات إبداعية لا حصر لها..فتختلط الشعرية فيها بالخطاب الشعري بلا انسيابية و بما يضعها في تضاد وتنافر.. فالخطاب الشعري يتجرد من شاعريته كلما اتكأ على الذاكرة وعلى السائد من اللغة/الوعي
فمثلا عندما يقال:" مما لاشك.. يأتيك المتبقي من الكلام جاهزا في الذاكرة الجمعية:مما لاشك فيه أو عندما يقال: أمّ فترد الذاكرة أمّ رؤوم /حنون..وماذا يعني أن يقال قمة عالية؟ هل دلالة العلو هي صفة أخرى للقمة؟ وماذا في واد سحيق عميق؟
عندما يقول أحدهم: “على الأرائك تغفو القطط " !! للمتلقي صاحب الذائقة المغايرة أن يتساءل: كيف تغفو القطط؟ هل توجد حالة صفة تشبيه كناية استعارة؟ لكن المخيلة الشعرية منفتحة تمنح إغفاءة القطط و علاقتها بالأرائك لسعة شعرية مقربة أو منفرة..
للشاعر رؤية جمالية/ فلسفية لغوية مغايرة لا تقوم على الاستنساخ البصري للسائد والمألوف فالمغايرة الشعرية تتأتى في بعض تجلياتها من المخيلة الشعرية لعين الشاعر /أي مخيلته التي تطلق الفضاء إلى اللامعقول بـ"آلية لا معقولة" لتقدمها "معمارية الشاعر" بـ"أفق معقول" بما يؤسس سبقا للشاعر ورؤية جديدة
فنجد اكتظاظايرة فيها الكثير من الشعرية لكنها تكون كالدرر بين أشياء كثيرة تكون مهمة البحث عنها مهمة شاقة بما يؤسس لضياع تلك الدرر..فنجد اكتظاظا للجمل الشعرية وللصور الشعرية بغير تجانس وتناسق عدا أن الكثير من تلك النصوص قد صيغت بذهنية القصيدة العمودية أو قصيدة التفعيلة..
إن الهندسة المعمارية للقصيدة ليست بناء ميكانيكيا و شكلانياً فقط انه إبداع لمخيلة منطلقة منفلتة تؤسس بخلق جديد غير سائد كما يقدم العالم براءة اختراع
هنا تكمن صفة التفرد والتميز للهامات الشعرية، معتبرين الموهبة الخلاقة المسكونة بهاجس التجديد أهم مقومات الصوت المتفرد شعريا وإبداعيا طالما كانت الغاية هي التجديد والمغايرة في سياق جمالي/ فلسفي لغوي يتجاوز السائد والمألوف بسلاسة
إن الاتكاء على الذاكرة الفردية والجماعية حالة تكاد تكون عامة تسم غالبية المنجز الإبداعي في المشهد الشعري الفلسطيني والعربي
ومع التأكيد على التعامل الإبداعي مع المألوف والموروث بما يعزز الأصالة ويلغي حالة القطيعة مع المناهل الأولى لكن على أن لا يكون تعبيرا عن عجز في إطلاق الفضاءات للمخيلة أو استسهال المنجز الإبداعي..
ماذا يفسر التراكم الكمي لأعداد لا حصر لها من المجموعات الشعرية والقصائد والنصوص والأسماء الشعرية ؟ فيما التغيير النوعي يكاد يكون محصورا بأصحاب المخيلات اللامحدودة و هندستها المعمارية مع سبق الإصرار على التجديد والخلق خارج المألوف والسائد في سياق الحركة والثبات وما بينهما من قديم وجديد..
إن أرسطو لم يميز بين الشعر والنثر على أساس النظم الوزن والقافية وإنما اشترط عنصر الخيال.. وهو الذي اعتبر الشعر ـ كسائر الفنون ـ نوعا من المحاكاة، فربط أسس النظرية الشعرية بالدراما
فرؤية الشاعر هي التي تضفي الوحدة على ما يكتبه من شعر، وليس الوزن أو الإيقاع الداخلي الذي حاول بعض النقاد أن يستكشفوه في قصيدة النثر، لكن التنوع الكبير في عالم القصيدة يجعل اكتشاف القوانين الداخلية لكل قصيدة عملا إلزاميا لأن لكل قصيدة شكها وانتظامها الداخلي بعيدا عن ريف الثقافة و ثقافة الريف..
وبعد أن احتلت الرواية مساحة كبيرة من الإنتاج الثقافي وصف بعض النقاد الشعر بأنه: جنس أدبي قاصر، وهو في طوره إلى الاضمحلال والتلاشي، فهو ميت ولم يعد يستنطق تجربة كونية..
ربما لهذا السبب اعتبر أحد الشعراء البريطانيين أنّ شاعر قصيدة النثر أشبه بشخصية روبنسون كروزو في الجزيرة المنقطعة عن العالم، وعليه أن يعتمد على نفسه في كلّ شيء، من القنص والزراعة إلى الطبخ وجلي الأواني..

كل هذا تتعمده الكتابة الجديدة اليوم في فلسطين والعالم، بما يؤكد الذاتية الشخصانية وهو يقول: الشعر كائن في كل شيء، وفي كل تفاصيل الحياة ربما في قصاصة مرمية على الأرض أوفي فاتورة نجلبها من السوق..