حاوره في مدريد خالد كاكي : خالد/ لنبدأ بأعمالك الأخيرة، الفصل بين الحلم والواقع، بين الرسم والفوتوغراف. من أين أتت الفكرة؟
- الفكرة متشابهة أساساً فالتجريد هو عالمي الأولي والخاص بي، فإني أنطلق من الواقع بروحه وماهيته. الواقع بالنسبة لي هو التجريد، كل التجريد الذي أرسمه يلهمني إياه الواقع المعاش، على كل المستويات. وعلى هذا الأساس أرى التجريد في كل مكان وفي كل شيء.
* إذن هل تقرأ التجريد في مفردات الواقع كما يقرأ العراف مايخفى؟
- كلا، فالفنان قبل كل شيء ينبغي أن يكون ملتزماً بخط ما من المبادئ. وليس لدي بدءاً أي إشكال حول هذا الموضوع. ثمة فرق بين الفنان والرسام. وأي كان منطلق الفنان ينبغي عليه أن يعرف نفسه ومايريد بالتحديد، أن تكون لديه الصورة واضحة فيجرّب ويكتشف وأن يشغل بكل تفاصيل العمل الفني من تقنيات وعناصر إبداع ومقومات اللوحة. فمواضيع مثل حقوق الإنسان المرأة والطفل ...أي عالمنا اليومي وتفاصيل معاناة الإنسان كلها حاضرة لدي وتدفعني جميعاً للبحث واستنباط تقنيات غير مطروقة لأصل إلى المشاهد.
* ما علاقة حقوق الإنسان باللوحة؟
-لو عدنا قليلاً إلى الوراء، الفن عبر التاريخ ومنذ إنسان الكهوف البدائي، مرتبط بأجواء السحر وعالم الأساطير والكائنات التي كانت تحيط به في يومه وبيئته، كان يحاول تمجيد هذه الكائنات. فيما بعد وفي العصور المسيحية المتأخرة ارتكز الفن على مفهوم إيصال الرسالة الدينية فلم تكن آنئذ للفنان حرية الاختيار. مع انه كان صادقاً في تعبيره المسيحي والفن يزيده إيماناً بمعتقده. فرانثيسكو دي غويا مثلاً كان ملتصقاً بالمجتمع ولهذا نراه انشغل بهموم الحياة والمجتمع وكان وفياً لرؤيته تلك. أما في عصرنا الحاضر فقد تعقدت الأمور. فموضوع الالتزام بقضية ما في الفن ليس مسألة شعور بمسؤولية إنما هو ما يجرّك الواقع إليه. ثمة أمل ضئيل في التغيير وهي عملية صعبة على أية حال. ولعل جذور مبادئ الفنان تكمن في طفولته وتكوينه الشخصي بلاشك، بالنسبة لي مرحلة العراق الأولى لها أثر واضح في شخصيتي، الطفولة والانقلابات العسكرية وإرهاب الدولة في الخمسينيات والستينيات ...إلخ. أنا متفق مع فرويد حول تأثير الطفولة في مستقبل الفرد إلى حد بعيد. خذ على سبيل المثال هذه اللوحة (يريني لوحة نصفها الفوتوغرافي صورة طفل) .. محاولة اختيار هذا الوجه سبب لي الأرق ، بدأت التساؤل مع نفسي .. لم هذا الوجه بالتحديد؟ ثم اكتشفت أن له جذور في اللاوعي فأن في الوجه شبهاً لأخ لي توفي منذ أمد بعيد عندما كان صغيراً. فاللاوعي دفعني إلى اختيار جزء مهم من عمل فني أرسمه اليوم.
* ما تريد قوله إن هذه هي عفوية التجريد.. ثم البحث عن الجذور؟
- يأخذ التجريد لديّ أشكالاً وله مفرداته، الدوائر والبقع مثلاً ترتكز على ثلاث نقاط: في القمة يأتي الكون – الدائرة ثم الحلقة المكتملة وفكرة الاتصال حيث اللانهاية أواللابداية وقد استخدمها البوذيون كثيراً في (الزين). النقطة الثانية في الترتيب هي الإنسان والربط الجدلي أو القدري بين الكون والإنسان والجنس.. هذه ببساطة فكرة عن محاور عملي. فلا معنى للكون بلا إنسان ولا معنى للإنسان بلا كون. الديمومة والجنس يكونان ثنائية مأساة الإنسان وحاجته الغريزية للبقاء.
* لماذا كلمة (المأساة)؟
- لا أعني المأساة بمعنى العنف، بل حاجة الإنسان إلى الديمومة.
* ما هي خلفية هذه العناصر أو الرموز في لوحتك؟
- هي التضاد بين هذا وذاك، الحياة والمأساة، الخير والشر. هي مكونات العمل نفسه، وليس الترميز المباشر لها. الأساس هو الفكرة فالعمل النهائي للفنان يكون صادقاً ومعبراً إذا صدق الفنان مع نفسه وتطابق مع ما يريد.
* هل التصوير الفوتوغرافي في أعمالك من تصويرك؟
-بعض ما أستخدمه فقط، لأن التصوير مهمة أخرى. لكنني أستخدم اللقطات الصادقة لقربها من الواقع.
*كيف كنت ترسم قبل عشرة أعوام مثلاً؟ أعني هل كانت لديك الهموم نفسها؟
- بداية التسعينيات مرحلة مهمة في مشواري الفني، لأنني خلال السنوات الست السابقة دخلت عالماً من المتاهات. عندما وصلت إلى مدريد عام 1980 أنجزت أعمال قريبة من أعمالي اليوم وكان فيها الكثير من القوة، ولكن تلك كانت تتضمن منحوتات أو إنشاءات نحتية (إنستالايشن) ثم تلتها مرحلة ضبابية استمرت بضع سنوات. عملت في الثمانينات على مفرداتي الخاصة ورؤيتي للفن الحديث وكنا قد سمعنا يومها بالرسام الشهير أنطوني تابييس ثم رأيت أعماله الحقيقية. ثم تلت تلك المرحلة متاهة ضبابية أخرى بين الأعوام 1986 و 1990 دخلت فيها معترك العمل الغرافيكي والواقع إن المحفز كان إقبال الجمهور وصالات العرض على اقتنائها. فهل كانت تلك الحقبة مهمةً فعلاً ؟ إيجابياتها معروفة وهي اكتشاف تقنيات عديدة ساعدتني فيما بعد في التسعينيات في أسلوبي الأكثر خصوصية.
* هل درست الرسم أوفن الحفر (الغرافيك) في العراق؟
- كلا ولكنني أعتقد إنه من الإيجابي إنني درست في إسبانيا وليس في العراق. فعندنا في العراق الأستاذ بشكل عام فنان أصلاً (رافع الناصري، فائق حسن...إلخ) فيملي على الطالب أفكاره وأسلوبه وتقنيته لينتهي التلميذ متأثراً بأستاذه الفنان أصلاً. أما في أسبانيا فإن الأستاذ يعلمك التقنية وأساسيات الرسم فتنطلق لوحدك.
* بمن تأثرت إذن وتقنيات من أثرت فيك؟
- المهم في العملية الفنية هو الفكرة وفيما بعد تأتي التقنية، كلمة فنان مثلاً كلمة حديثة، لأن الفنان هو من يبتكر أسلوبه وطريقته في التعبير. لابد أن يكون ثمة تأثير للآخرين فيك، لا بد للفنان أن يستدل على طريقه بالبحث من خلال الفنانين القريبين منه والقريبين إلى ذائقته. هناك تأثير واضح لتابييس في أعمالي لا أنكر ذلك. خذ مثلاً حرف الواو، فإنني أكتبه مراراً حتى أصل إلى واوٍ ما لا تشبه البقية، والنتيجة إن آخر واو أتوصل إليها لا علاقة لها بالرسم الأول. التكرار هو عملية إعادة الإكتشاف. بيلاثكيث وغيره تأثروا ببعض.. بيكاسو مثلاً كان يبتلع من حوله.
* ولكن، لكي تكون فناناً أصيلاً ينبغي أن تبتكر أسلوبك.
- هذا صحيح ولكن المشكلة لا تكمن في البحث عن أسلوب، فالأسلوب يأتي وحده. المرحلة هي التي تملي عليك، الرغبة في التغيير، فالتغيير باستمرار يعجبني. المرحلة الحالية عمرها ست سنوات منذ 1998. ومع هذا هناك فرق واضح ضمن أعمال المرحلة نفسها. الخط يبقى واحداً، الموضوع واحد، يبقى فقط التعبير عنه، فالفنان يرسم في حياته لوحة واحدة فقط!
* هذا ما يقوله ماركيز في الأدب!
- نعم، أنا أعني أن المضمون واحد لكن الشكل هو المختلف، طريقة التعبير والتقنية مختلفة. ألمهم أن تكون أفكارك أصيلة. فرانسيس بيكون مثلاً كان مخلصاً لأفكاره وعبر بصدق عن حالته الجنسية، كان ذلك مبدأه. ثمة الكثيرين على هذه الشاكلة، أستاذي داريّو بيالبا، مصور وتجسد أعماله العنف بشكل واضح أو لربما هي رغبته المازوكية. يصور رجلاً تحت (الدوش) أو في مسبح ..إلخ كلها إحالات ودوافع جنسية.
* هل ترسم بالوعي أم باللاوعي؟
- أنا أرسم بوعي، حتى النقاط والبقع والمصادفات اللونية أسيطر عليها. أنت تريد رسم بقعة ولا تعرف كيف ستكون في النهاية، أنا أحاول كبحها وإعادة رسمها حتى أحصل على شكل البقعة المطلوبة. وحتى في مرات عديدة وقد تقدم العمل الفني، قد ألغي جزءاً مهماً من اللوحة إن لم يعجبني. أحب الترتيب في العمل، التكوينات المدروسة، النقاط .. الخطوط وأصعب شيء هو الدقائق الخمس الأخيرة قبل انتهاء العمل.
* هل لاتزال مستمتعاً بالرسم؟
- أبدأ نهاري بالرسم وأحياناً عديدة أنهيه بالرسم. الرسم واجبي ومهنتي المحببة فثمة أيام أقضي فيها أكثر من 14 ساعة عمل.
* وأعمالك بتقنية الحفر (الغرافيك) ؟
- الغرافيك هو الآخر يحتاج إلى (سكيتشات) قبل تنفيذها بالنسبة لي، ثم تطرأ عليها بعض التغييرات ساعة التنفيذ النهائي. حاولت مراراً إيصال الغرافيك إلى مستوى الرسم بمواد مختلفة تقنياً. أحاول نقل تقنية الرسم بالفرشاة إلى الحفر على الزنك، ولا أحبذ تقنيات الحفر المطروقة والعادية. ثمة فنانون كثيرون حاولوا تقليد أعمالي فأساؤوا إلى أنفسهم من حيث لايشعرون، لأنهم استعاروا تقنيات لا تناسب أساليبهم.
لقد درستُ الرسم متأخراً وبوعي كبير مع إنني كنت أعرف ما أريد من الفن منذ عمر مبكر، ولهذا أراني محظوظاً إذ ليس من السهل معرفة ما تريد منذ البداية.
التعليقات