محمد الحنفي ولد دهاهمن موريتانيا: ذهبنا إلى الشاعر محمد الحافظ ولد احمد في بيته المتواضع في "لكصر الجديد"، الذي تكتنفه قصور يرى فيها الشاعر جارا مزعجا لبنات أفكاره المتوحشة، التي لا تأنس بغير خيام مضروبة أسفل "نجد البشام".
الرجل لطيف المعشر مع أهله..أطفاله لا يدعونه "بابا" وإنما "الشاعر". ربما لأنهم يدركون حسن وقع ذلك اللقب في نفسه... أدخلنا إلي غرفته المبعثرة. الكتب المنضودة في الخزانة وحدها تحظي بالعناية، أما الملابس المتسخة فقد تكومت في كسر البيت، وبعر الشياه التي تدخل خلسة، عندما يكون الشاعر شارد الفكر مع معلقة جاهلية، متفرق فيها كبعر الآرام في عرصات "الدخول" و "حومل".
الكتب في الخزانة منظمة حسب فنونها ومواضيعها، وأكثرها دواوين لشعراء قدماء ومحدثين.. ولا يكاد محمد الحافظ يفتح ديوانا منها. وخصوصا من الدواوين الحديثة. ليقرأ في قصيدة منها حتى يتوقف فجأة، ليريك في ديوان آخر لشاعر جاهلي أو إسلامي أو أموي صورة أدبية اختلسها المحدث من القديم، أو معني كشط جلده من قصيدة عمودية قديمة وألبسها ثوب "الحر".. وهكذا دواليك في مطالعاته وكأنه قاض لدي محكمة الشعر.
وعند مدخل بيته استقبلنا بحفاوة بالغة، رغم أنه قليل الترحيب بمن يعكرون صفو خلواته الصوفية بالشعر الجاهلي. ودعا إلي ضيافتنا بوجبة تحكي بساطة حياته: المذق (مزج لبن بماء) وخبز وزبادي، ونغمة مبحوحة ترتل أناشيد "غيلان"، تشبه في شجاها تراتيل الكنائس الكاثوليكية.
وحين أردنا أن ننفض معه الغبار عن ذكرياته مع الشعر والشعراء، في جو يطلق عنان العفوية لذاكرته، فلا يكدحها في إطار "مقابلة صحفية" متكلفة، تذكرالرجل كل شيء: أيام طفولته البدوية البريئة، ومضارب خيام عشيرته، وسوائم إبلها، وشقشقة القرم بين هجائنها..وتذكر الوديان الممرعة، والسهول الخصبة، و الجداول المترعة بماء المطر، وتذكر كيف كان في صباه تأخذه حرقة لوصف هذه المناظر الطبيعية التي تأسر عقله، فتعجزه القوالب والأوعية اللفظية لإحتوائها، وبذلك ضاعت تلك التعابير في قلبه الصبي، كما تضيع مئات الصور البديعة في قلب شاعر أخرس.
وتذكر "المحظرة" التي رضع من ثديها أفاويق الشعر الجاهلي، وتعلم غريب اللغة ووحشيها...وتذكر شلته في "معهد أبي تلميت" من الأدباء والظرفاء، ومساجلاتهم وأخوانياتهم، وقصائدهم التي كانوا يصفون بها ظروف الدراسة، ويعلقون بها علي أساتذتهم، وتذكر القصائد التي فاز بها في مسابقات "المعهد" الشعرية.
ومن وهاد الصحراء ونجودها، تذكر أيادي النوى التي قذفت به إلي شوارع بغداد التي أزكمته بروائح البن والشعر، فأنشأ وأنشد، وسمع أسمع، واكتشف- كما قال – "إن في بلاد الرافدين شعرا لا يقصر في جزالته عن الذي في الصحراء".
وتذكر عودته لبغداد بعد أن فارقها سنوات عديدة، فارسا يمتطي صهوة جواد الشعر علي منصة "المربد"، يخاطب حبيبته "بغداد" بملء حنجرته الشجية:
ناجيت في جفنك الأطفال والحلماوأوبة الشهدا في الحلم والنوما
مخالسات ووخزات مجنحةمن حب طفلين عن بوح به اكتتما
هبت تطارحني ليلي الغرام وماعتمت أن لألأت من ثغرها أرما
في صوتها كان نعناع العراق سقي روضاته صيب يهمي بها ديما
وصدرها كان بستانا مهدلة منه العناقيد بالرمان قد وشما
أين التي كان نعناع العراق لها ذوائبا وهزيع الليل إن عتما؟
سبحان منشيئ معروش الجنان لها ومن يبرعمها حقلا ينث لمي...
وعندما تضج القاعة من حوله: "الله أكبر"!، يهز الفارس عطفيه زهوا، وتأخذ منه العزة العربية مأخذها، فيزمجر:
والعاديات بذي قار إذا ضبحت والموريات به قدحا إذا اضطرما
مما أثرن به نقعا، وسطن به جمعا، تغير به صبحا غلا شمما
لايكتسى عنتر إلا الحديد ولا يوادع القوم قعقاع بني اللؤمي
وتذكر صراخهم عليه باللهجة العراقي "أعد مالت القرءان".. والعجوز الانجليزية التي عانقته وضمته إلى صدرها قائلة: لم افهم شيئا مما قلته، إلا أن وقفتك الواثقة من نفسها وأنت تنشد القصيدة اعجبتني.
وحدثنا عن المعروف عنه من ارتجال المطولات، فذكر أنه كان يسرد القصيدة سردا، فتربوا على الثلاث مائة بيت من دون ان ينبهر له نفس، إلا أنها عادة شاخت بتقدم سنه، فلم تعد الجواهر المنظومة تتحدر من فمه كما كانت، ولم يعد قادرا إلا على ارتجال المقاطع القصيرة.
وحدثنا إن السفير الكويتي السابق، في نواكشوط، السيد سليمان الحربي أراد في بعض الأيام اختبار ملكته تلك، فقال له – وقد أراه في كفه صورة لممثلة هندية تدعى "إيماملين": صف هذه الجميلة في قطعة شعر بنت ساعتها، وتمن عليّ أمنية أحققها لك، فأنشأ الشاعر ارتجالا:
أإيماملين يا إدهاش عقليوإيماني بمن خلق الجمالا
أيعبد قومك الأبقار جهلاولو عبدوك قد كان احتمالا
وحاش الله لم أشرك بربيوما قلبي عن الايمان مالا
ولكن إن يكن صنم فأولىبوجهك أن يكون لهم ضلالا
ثم كانت أمنية الشاعر بعد ذلك في ديواني نزارقباني وبدر شاكر السياب.
وشكا لنا اثناء حديثه، بحدب الولد على امه، عزوف الناس عن سبر أغوار اللغة العربية بمعرفة فقهها وأسرارها، وحدثنا انه انشد مرة بحضرة دكتور معروف من بلاد الشام، لم يشأ ذكر اسمه، قصيدة مطلعها:
كسوت نهديك من سحر النسا إتبافإن عتبت فإني أرفض العتبا
فقال له الدكتور بحزم: والله.. القصيدة جيدة لولا الكلمة الفرنسية التي في مطلعها، (يقصد إتبا) فرد عليه الشاعر ساخرا:
صحيح! ولكن مما يسهل الخطب أنها من فرنسية أمرئ القيس:
من القاصرات الطرف لو دب محولمن الذر فوق الإتب منها لأثرا
وفي حديثه عن أخطاء كثير من الشعراء المحدثين في لغتهم، ومن ضمنهم نزار قباني الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، قال: إنه لو كان أستاذ اللغة العربية في فصل ابتدائي، وذكّر له أحد تلامذته لفظة "الكأس" في اختبار لقواعد النحو، كما فعل نزار عند قوله:
أما كسرنا كؤوس الحب من زمنفكيف نبكي على كأس كسرناه
لكان حظه منه عند التصحيح "صفرا".
وحدثنا حديثا طريفا دار بينه وبين أديب كان مدلها بـ"نزار"، فقال: كان ذلك في بغداد سنة 1979 خلال إقامتي بها، حين توثقت الآصرة الأدبية بيني وبين أحد أدبائها، على اختلاف بيننا في الذوق الأدبي. وكان معجبا بنزار قباني إلى حد الافتتان.. وكان لا ياتيني بمثل من شعره إلا جئته بأروع منه من شعر المتنبي وأحسن تفصيلا، فقال لي مرة: "إن نزارا عبر بالمرأة عن الثورة" فقلت: لقد سبقه المتنبي إلى ذلك حيث يقول:
محب كنى بالبيض عن مرهفاتهوبالحسن في أنيابهن عن الصقل
بل جعلها مستجما للثورة في قوله:
وللخود مني ساعة ثم بعدهافلاة إلى غير اللقاء تجاب
فقال: ولكن نزارا تحدث عن غزو الفضاء، وعروج الانسان إلى القمر، فقلت: لقد سبقه المتنبي إذ يقول:
يرى النجوم بعيني من يحاولهاكأنه سلب في كف مسلوب
أيكون سلب إلا بعد غزو؟ بل اليس السلب ثمرة الانتصار؟ أو ليست النجوم من أبعد الأجرام الفضائية وأصعبها غزوا؟
فقال كاليائس من جهة، وكالمنتصر المطوق لخصمه من جهة اخرى: ولكن نزارا ذم الرئيس المصري السادات بأروع ما يمكن. وانشدني قصيدته "النكسة":
سرقوا منا الزمان العربي
سرقوا فاطمة الزهراء من بيت النبي..
فقلت: أنا أكره الهجو والهجائيين، ولكن إذا كان مناط الابداع عندك منحصرا في ثلب هذا الزعيم العربي، فقد ثلبه المتنبي قبله.. فدارت عيناه في حملاقيهما من دهش، وأنا انشده قول المتنبي:
لا يدرك المجد إلا سيد فطنلما يشق على "السادات" فعال
فأسلس القياد.
ثم يضيف قائلا: وكنت أمازح أحد الأدباء بأنه حصل لي مع المتنبي ما يحصل لبعض الصوفيه مع مريديه، فمهما أحرج بضنك أو كرب ظاهروه بما يسمى عندهم "مددا"، وعلى هذا فروح المتنبي أمدتني بهذه التورية. وقد سبق لي في معرض رد لي على كتاب "مع المتنبي" لطه حسين، ان قلت "إنه قد كوشف للمتنبي عما قد يكون من تحامل الأخير عليه، فقال:
وإذا خفيت على الغبي فغادرأن لا تراني مقلة عمياء
تماما كما زعم المعري أنه كوشف به في قوله: أنا الذي نظر الأعمى على أدبي..
واخبرنا أثناء حديثه ذي الشعب أنه ألتقى في الشارقة بالإمارات بالأديب العراقي بلند الحيدري، وأنه كان يقيم معه في فندق واحد، فقويت بينهما عرى الوشيجة الأدبية، رغم ان محمد الحافظ لم يكن معجبا بما أنشده إياه الحيدري من أشعاره، عكس الحيدري الذي كان يسجل كل ما أنشده محمد الحافظ من إشعاره إعجابا بها.
وذكر أن بلند حدثه، مستشهدا على حسن أجراس اللغة العربية، بقصيدة كتبها لصديقه الشاعر الإفريقي اليوبولد سيدار سينغور (الرئيس السنغالي الأسبق)، عند استقلال السنغال في العام 1960، فلما أنشده إياها بالعربية، قال له سينغور : لقد وصلني نصف معني قصيدتك من خلال جرسها وموسيقاها.
وذكر أن بلندا حدثه عن كتاب يؤلفه بعنوان "أعلام الأكراد". ترجم فيه لإبن خلكان مؤلف "وفيات الأعيان"، ولمعروف الرصافي وأحمد شوقي، بإعتبارهم أكرادا.
ولكن القنبلة التي فجرها في حديثه عن بلند، هو ما زعم ان الشاعر العراقي العجوز أسر إليه به من العزم على الإنتحار، وحين قال له محمد الحافظ: إن الانتحار هروب، والهروب ضعف. قال له :أن كثيرا من العظماء انتحروا. وذكر له جملة من الأسماء كلها غربية. وحين ذكّره محمد الحافظ بالوعيد الأخروي الوارد فيه. لم يكترث، ورد عليه قائلا: الاحتمالات كثيرة، وأنا أتحمل النتائج.
ويعلق محمد الحافظ: ثم نعي لي بعد ذلك بشهر أو بشهرين، فلا أدري هل مات حتف أنفه، أم أنه نفذ ما كان يدور في خلده؟!
ورد محمد الحافظ حين سألناه عن أدونيس والبياتي أنه لا يرى فيهما أكثر من فيلسوفي جمال.
وبعد أن تركنا الشاعر محمد الحافظ ولد احمدو يتذكر ما شاء أن يتذكر، سألناه أن يحدد لنا بدايته مع قرض الشعر، فاستهل قائلا: "لست أدري أين شرى برق الشعر من جناني، ولكن أذكر أني بعد حفظ كتاب الله العزيز، وأنا صغير، تململت في رمضاء الشعر الجاهلي، من خلال شرح العلامة الاندلسي الأعلم الشنتمري، لما اختاره من أشعار الجاهلية، وحفظت ذلك، نصا وشرحا، ثم أنسيته وكأني امتثلت وصاة أبي تمام لبعض تلامذته في الشعر، دون قصد, حيث أخذه بحفظ كتاب – أظنه الحماسة- وأخذه بنسيانه أيضا.
وتلك الأطلال أو الرسوم أو اللوائح التي تبقى من ذلك المحفوظ الذي نسي هي سماد وطمي يساعد على إيتاء نخيل الشعر أكله بإذن الله... وعلى كل حال وجدتني وقد راهقت الخمسة عشر تقريبا أقرزم ببعض الأشعار التي لا أطلع
عليها الناس (وكان العرب يسمون تلك المحاولات الأولية قرزمة) ومع بداية عقد السبعينيات وتزامنا مع دراستي في
الإعدادية، واحتكاكي بمجتمع مدني جديد، بدأت أذيع على الناس في استحياء طائفة مما نفث على روعي... أذكر أن من
أوليات شعري قصيدة فازت لي في مسابقة بعنوان "الاصالة الموريتانية", وفازت بجائزة الشعر للمدرسة في إعدادية أبي تلميت، التي كانت وقتها تسمى "معهدا إسلاميا".
وأما عن بداية إطلالته على الشعر العربي الحديث وعن رأيه في بعض من قرأ لهم من شعراء ونقاد... فيقول: "بعدما
التحقت بالثانوية (1973-1974) جد لي منحى آخر في الشعر حيث انفتحت لي نوافذ على الشعر الحديث من خلال المطالعة في المراكز الثقافية. ومن خلال الكتب التي كانت تصلنا من المشرق، فقرأت لشعراء النهضة وأدبائها، وكان من ضمن من قرأت له طه حسين. الذي كنت ولعا بكتاباته مع مخالفتي إياه في أكثر ما يرى من آراء عن الشعر الجاهلي، وقرأت أيضا اغلب ما كتب العقاد، ويعجبني حسن تحليله وإن كان أسلوبه أسلوبا علميا جافا، وقرأت لكثير لا أستطيع حصرهم من الأدباء، وأعجبني أحمد شوقي إعجابا محدودا، ليس كما يسميه الناس "أمير الشعراء"، ولكن أرى انه كان شاعرا موفقا إلى حد بعيد، وقرأت لنزار قباني ولم أكن من المدلهين فيه ولا أيضا من الزاهدين فيه، ولكني كنت أرى أنه شاعر حسن النحيزة الشعرية، وإن كان في شعره الكثير من التجاوزات اللغوية.. كما أن محفوظه من المصطلحات الغربية العصرية أكثر من محفوظه من الشعر الجاهلي ومن الأدب العربي القديم، والميتلوجيا العربية القديمة.. وقد ذكر ابن طباطبا العلوي في مقدمة كتابه "عيار الشعر" ما معناه: أنه إذا لم يعرف الإنسان ما نسميه اليوم
"ميتلوجيا"، بأوسع معاني هذه الكلمة، للأمة، لا يستطيع أن يلقن لقانة صحيحة موروثها وإبداعها".
وعن تأثير هذا التلاقح بين القديم والحديث على شاعريته، يقول: "بدأت تظهر نتائج هذا التلاقح عندي في قصيدة "كابوس الخريف" سنة 1974 وفي قصيدة "عودة الهديل" سنة 1975. وقمت برحلة إلى المشرق العربي. فأقمت في بغداد عاصمة الأدب وقتها، وأقمت في مكة المكرمة والمدينة المنورة. فنهلت من الشعر الحديث، ومن المترجمات الشعرية للشعر العالمي في بغداد، ونهلت أيضا في مكة والمدينة من مخطوطات ومطبوعات الحديث النبوي الشريف، فاعتمل ذلك في، وظهرت نتائجه في خط آخر بدأ عندي مع بداية 1982 تقريبا, وهو عودة الشعر القديم بروح عصرية، وتجلى ذلك في المطولات والنفس الطويل في الشعر والجزالة، ثم بعدما حضرت مهرجان «المربد" سنة 1986 إلى آخر السنوات التي أقيم فيها ذلك المهرجان العظيم، انكسر منحنى الخط إلى شيء من الخضرمة، حيث أزعم أنني أسكن الصورة الشعرية الحديثة في جبة عربية قديمة، ولعلي أمثل على ذلك بقطع من شعري، منها قصيدة بعنوان «قالت.. وقلت..!"
دارت سمادير بالأقداح حامية فاستشعر الكبر من أقراطها الذهب
بخورها من أساطير تناسخ بي جزيرة بلغات الطـــير تنتهب
شدت رحال مطايا الحج بسمتها فالأقحــوان حقول منه تغتصب
مدت إلى الخلد جسرا من أضلاعناوعلمتنا الجفون السحر ما الأدب؟
وفي آخرها أقول:
خريطة من رمال الموت في يدهاهي العروبة لا رأس ولا ذنب
إنا- وجدك- ما نامــت زلازلنا إلا تململ من إعصارها الغضب
قد يعلم الله أنا معــــشر أنف إن ترأم الضيم في أوطانها العرب
إلى أخر هذه القصيدة بوصفها مثالا.
ومازلت في هذه المنحى الأخير وهو إسكان أو تدجين الصورة الشعرية بكثافتها الرؤيوية، وبتداخل الحواس فيها في جبة عربية أصيلة، ولعلي أشرت إلى ذلك في قصيدة مطلعها
فتحت شباك الصباح أغردلما تلألأ خدها المتورد
نمنمت من لغة الحجاز عباءتيفغناي شماخ الغناء ومزرد
والذي اصطلح فيه مع نفسي هو هذا الاتجاه، فبعد أن مررت بالطور التقليدي ثم بالطور الرومانسي، ثم رجعت إلى الكلاسيكية، ها أنا أحاول أن اختط لنفسي خطا بعيدا عن المصطلحات المدرسية، إلا أن مؤداه الإبداع من خلال فصاحة اللغة وعذوبتها والتصوف فيها. واستثمار التكنلوجيا اللغوية - إن صح التعبير-".
وأما عن رأيه في الشعر الحر، وهل سبق له أن جرب هذا النوع من الشعر الضيف على ثقافته، فيقول: "في أواسط
السبعينيات تأثرت كبقية جيلي بما يسمى "حركة الحداثة الشعرية" أو "مدرسة الشعر الحر" فكتبت فيه عدة قصائد من ضمنها قصيدة بعنوان "الربيط", نشرت بجريدة "الشعب" الموريتانية، وقصيدة بعنوان "الرجع" وأخرى بعنوان "قراءة التاريخ من رجليه" كتبتها في الثمانينيات، وكانت على شكل رسم كاريكاتوري للشعر الحر، وبعد أن تمرست بمتابعة قضية "حركة الحداثة" أدركت أن الشعر الحر كان عجزا وليس قدرة، وأن من البواعث الأساسية لمولده قلة البضاعة اللغوية عند الشعراء، فالشعراء المستبحرون في اللغة العربية المحيطون بتراثها العريق الخصب، لم تضق بهم أرض الإبداع يوما، أو كما قال عمر ابن الأهتم المنقري التميمي.
لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها ولكن أخلاق الرجال تضيق
فلم تضق اللغة العربية ولا قوافي الخليل بالإبداع، وإنما هو جهل أبناء "العربية" بلغتهم".
ثم استطرد: "ولقد عثرت على هناة لهذا الشعر منها: أن أصحابه أرادوا أن يوسعوا واسعا فضيقوه، ذلك أننا بين أمرين أحلاهما أمر، فإما أن نأخذ تفعيلتين من البحر المركب كالطويل مثلا أو البسيط فلم نأت بجديد، وإنما استبدلنا بحرا ببحر، أو أن نقتصر على البحور الأحادية التفعيلة كالمديد والرجز والرمل، فنخسر نصف الأبحر الخليلية.
وقد ضاق أصحاب (الشعر الحر ) بالقافية فاعتبروها معادة مكرورة، ورأوا انه لا يسلم صاحبها من التأسيس على معمار سابق، أو كما نسميه وقوع الحافر على الحافر، إما قصدا أو عن غير قصد, فوقعوا في نثرية جعلت شعرهم مجرد تحليلات وتعليقات.
وقد حضرت خمسا من (المرابد) في العراق الشقيق، لاحظت فيها مع بعض زملائي من الشعراء، حتى من أصحاب الشعر الحر، إن الشعراء يبدأون بمقدمات لقصائدهم ثم يخلصون إلى إنشاد شعرهم، فلا ندرك ذلك إلا عند ما ينبه احدهم على بدء القصيدة.
ومن الطريف أن شاعرا من احد الأقطار العربية ألقى قصيدة له بعنوان:" اشهد أنى نعجة" فلما فرغ من إلقائها جلس
جنبي وكان يجلس معي أحدا الشعراء الشيوخ اليمانيين، فسأله صاحب القصيدة: ما رأيك فيها؟, فقال له:اعد علي عنوانها.
فلما أعاده عليه قال له بلهجته اليمانية: والله أنت فاهم نفسك اكويس!"
ويضيف محمد الحافظ: "ثم لاحظت أن أول شاعرين نبسا بالشعر الحر مسيحيين احدهما مصري قبطي، كان متهما بالولاء للإنجليز وهو لويس عوض، والآخر لبناني, لا يحضرني اسمه. فأصابع اتهام العمالة تشير إلى نوايا الشعر الحر من هذا الوجه.
ومن الطريف في هذا الباب أن احد عمالقة الأدب في المغرب الأقصى ذكر أن كل تغيير في بحور الخليل يترتب عليه
بالضرورة تفكك في جثمان الأمة, فقال: إن ضياع الأندلس كان نتيجة الموشحات، وان ضياع فلسطين كان نتيجة الشعر الحر, فكأن هذا الشعر تعويذة سحرية تحفظ على الأمة بيضتها".
وأضاف: "وعلى كل حال فأنا أتابع الشعر الحر وأتوفر على مكتبة هائلة من دواوين عمالقته وأقزامه، وعلى ذكر العمالقة والأقزام، فإننى لما رأيت ثراء الأمة العربية في موسيقاها الشعرية. إذ تتوفر على 16 بحرا تصل عن طريق المجزوءات والمنهوكات إلى ما يقارب 100 نوع شعري.
بالإضافة إلى أن لغة العرب تكاد تكون موزونة في نفسها. وبالرغم من هذا الشعر الهائل والمملكة النغمية الباذخة، ومع أن التراث الغربي سواء كان يونانيا أو رومانيا لا يتوفر إلا على 4 أبحر هي اقرب إلى الأزجال منها إلى شيء آخر، فان بعض شبابنا يغار من شعرهم ويطلب منا تقليده: فما مثلنا والحالة هذه إلا كمثل قوم عمالقة مروا بأمة من الأقزام فغاروا من قصرهم، هذا إن لم نشبههم بأصحاب موسى إذ قالو له: اجعل لنا إلها كما لهم ءالهة، و الجواب في كلا الحالين هو قول سيدنا موسى: إنكم قوم تجهلون. ولأمر ما يسمى هذا النوع حداثة ولم يسم إبداعا، فالكلمة ذات جذر استعماري لا يخفى على ذي بصيرة. أي انه نسف القديم برمته.
ولتدرك فداحة الخطب التقت إلى الوراء قليلا، حيث كانت قصائد شوقي تنشر في مصر فتقرأ في يومها تقريبا في كل الشام والعراق، فيتغنى بها الأدباء، وتدور على كل الألسنة، ولن تجد مقطعا من "الشعر الحر" يدور على ألسنة العرب جميعا. ويستلذه شداة الأدب، وتطرب له النفوس ويؤثر في الرأي العام، إلا ما كان من بعض قصائد نزار قباني وذلك أن نزار كان شاعرا عربيا قحا ولكنه ركب الموجة الحداثية، ابتغاء اتساع رقعة جمهوره. و إلا فنحيزته النظمية هي ملاك شهرته ".
وأما عن ما يلهم الشاعر محمد الحافظ بن أحمدو، فيقول: أطوار العمر متعددة، وملهمات الشعر كذلك... فقد كان الجمال بصورة عامة في طور الشباب أهم الملهمات، والجمال منه صوفي، ومنه روحي، ومنه مادي،
وأنا أعتبر نفسي من شعراء الغزل يسكنني دون أن أريد:
جمال روحك أنساني تصوفـــه حسن اختيال بديعات الطواويــــس
ونسك عقدك في محراب صومعة من جيدك الأغيد الزاكى المقاديس
وبسمة انفق الدنيا وزينتــــها فيها ونهد كرمان الفراديـــــــس
وفاترا من رخيم النغم مخبتتــة فيه جداول رقراق الأحاسيــــــس
وفى جفونك من سحر الأنوثة ما يكفي لتدمير واشنطـــــــن وباريس
وليس هذا من أجود ما عندي من الغزل، ولكنه كان من أوضح ما يمثلني من المزاج الصوفي الغزلي، ولعلي لم أتوكأ في ذلك على أي عصى، وان كنت أجدني أحيانا التقي مع ابن العربي الحاتمي، دون أن يكون ذلك عن قصد أو تدبير، مثلا هنالك قصيدة بعنوان ( في حانة ابن الفارض الصوفية ) فيها أقول:
هل باب خدرك للعشاق مفتوح ياربة الخدر كم تهفو لك الـروح
يا معرج الروح في مرقى قداستها إذ هيكل الأرض إحسان وتسريح
من كم حورية تغفو بحجـــلتها لاحت لها من سنى الخلد التلاويح
من سكرة الورد من نور الضحى غردا بما به شكر الغيث الأباطيح
من نفح سبابة الراعي مساء ندى غمامه فوق بسط الأفق مطروح
من هذه المزق الأنفاق من قزح وشى الفضاء به المزن الدواليح
أنت التي ان تهادت في مسيرتها يسري بمخشوشب الأجسام تلقيح
الحب روح مطل من نوافذنـا عن انفس الناس بالتقديس ترويح
اخصوصبت من أديم الأرض سنبلةواحضل من رمة البهمى الصحاصيح
وعاودت سيرها الأنهار جاريـة منها إلى جنة الخلد المطاويح
ياربة الخدرما خمر بعاتقــة إن لم تناد: بما أكننتم بوحوا
حبابها من ثنايا الصبح بسمتـه وتحته الغسق الوردي مذبوح
ما عاقرتها من الأرواح مر عنة إلا ومنها خبيئ النفس مفضوح
ولاتلامسها اقلام شارحـهــا إلا وأغربها شرح وتوضيح
يا لمسة الساحر الموهوب هل قدرعلى المحبين أن تغلي الجوانيح ؟
فلا شك أن جمال المرأة من أعظم ملهمات الشعراء الشباب، ولكن وكما قال الإمام على كرم الله وجهه "تلك شقشقة هدرت ثم قرت". فبعد ما أبيض مسحلى كما قال الفرزدق. ودعاني الغواني عمهن _ كما قال شاعر آخر _ أصبحت الملهمات هي قضايا الأمة العربية. والقضايا المهمة في التاريخ المرتبطة بمصير هذه الأمة، وعظمة سلوك السلف الصالح من عباد وشعراء وأدباء -أو سمه أن شئت - التصوف في معالم حضارة هذه الأمة.
وأحسن ما يعبر عن كلفي بذالك قصيدة:
إقرا فذي صحف التاريخ منشورهأرواح من غبروا فيهن محشوره
أما يرف إذا يفـــــتر لؤلؤة عنا فم الدهر بالإدهاش ماشوره؟!
ألم نحجل لخيل الليل أرسغها أما أفرنا من الطوفان تنوره؟!
ألم نكور لذي القرنين عمته ألم نضمخ بعود العز كافوره؟!
ألم نخط من حرير الفجر مملكة كان الرشيد بها هارون أسطوره؟!
ألم يكن جوهر الشورى رسالتنا والله أنزل من ذكر لنا نوره؟!
أما كتبنا بماء السحر قصتنا فالكون سبورة والشمس طبشوره؟!
أما كشفنا الغطا عن كل مخبية أما أنرنا لهذا الغرب ديجوره؟!
إذن.. قفا ودعا نجدا بآبدةمن القوافي على ثهلان محفوره
ثم اعذرا.. همت من شعري بأوديةعقصت منها شعور الحور مضفوره
يخضوضل الشعر ياقوتا بقافيتي أشجى به معبد الجني طنبوره
إلى آخر هذه القصيدة ".
ثم ودعنا مع محمد الحافظ شاعرا جاهليا أخره زمانه، وميكانيكيا يتقن تركيب "قطع غيار" اللغة العربية، فيرسم بها لوحة إبداعية تخلب العقول.
ظل سنوات طويلة.. يحس بالغبن وغمط الحق، ويرى أنه شاعر مزدرى، في وقت "تستن فيه فصال الشعر حتى القرعي"، فينشد بحسرة قول الزمخشري:
وأخرني دهري وقدم معشرا على أنهم لا يعلمون وأعلم
ورغم أنه حاز في السنة الماضية "جائزة شنقيط للإبداع"، والتي هي أكبر جائزة أدبية تمنح في موريتانيا، إلا أنه لا يزال يستقل ما يحظى به من عناية واهتمام، في بلاده وفي كل العالم العربي.. ويجأر بمل حنجرته الدافئة، مع المتنبي، بغرور الشعراء المعتاد:
ودع كل صوت غير صوتي فإنني أنا الطائر المحكي والآخر الصدى!
التعليقات