القدس تنتظر من يكشف أسرارها
قدم الدكتور إبراهيم الفني رؤية كلاسيكية لتاريخ مدينة القدس، في كتابه الجديد (الأطلس المصور لستة آلاف سنة من الحضارة في مدينة القدس)، وهو مجلد فخم جاء في نحو 470 صفحة من القطع الكبيرة وحوى نحو 500 صورة ملونة وخرائط.
واستعرض الفني، باللغتين العربية والإنجليزية تاريخ القدس منذ ستة آلاف عام، مستفيدا من تجربته الخاصة ومما قدمه باحثون أجانب وإسرائيليون حول المدينة المقدسة، وبعضهم، مثل فان بيرشم، قدم خدمات علمية في أبحاثه خصوصا عن (القدس الإسلامية)، ما زالت تشكل مرجعا هاما للباحثين الفلسطينيين والعرب، وان تم التعامل مع تلك الأبحاث الهامة بانتقائية لخدمة ثقافة شفهية عربية متداولة عن المدينة المقدسة.
وهي نفس الانتقائية التي نظر إليها من قبل باحثين معاصرين إلى كتب الإخباريين العرب عن القدس والأحداث التي مرت بها منذ الفتح العمري-العربي الكبير لها، وهي كتب تعاملت، رغم بعدها التاريخي، وربما بسببه مع ميثولوجيا العهد القديم كحقائق.
ويتميز كتاب الفني عن ما كتبه باحثون عرب آخرون بالصور والمصورات والخرائط وكثير منها نتيجة جهد علمي لباحثين أجانب وإسرائيليين، تحتاج، رغم أهميتها إلى بحث وتمحيص، وهو ما يقدر عليه الدكتور الفني الذي عمل في الحفريات في القدس ومدن فلسطينية أخرى وزامل كثير من الأثريين قبل عام 1967 عندما كانت الضفة الغربية تدار من قبل الحكومة الأردنية وسمحت لعشرات من الأثريين بالعمل في القدس وغيرها من المدن الفلسطينية، وعمل الفني أيضا بعد احتلال ما تبقى من الأراضي الفلسطينية عام 1967 في حقل الآثار عندما اتخذ الاحتلال الإسرائيلي إجراءات ضد الأثريين الأجانب واوقف أبحاثهم وطردهم، واستولى على المتحف الفلسطيني بالقدس وما يزال والمسمى (متحف روكفلر) ونقل كثير من محتوياته خصوصا مخطوطات البحر الميت، إلى متحف الكتاب بالقدس الغربية، وسخر علم الآثار لخدمة أغراض سياسية، ورغم قوة الحديد والنار التي استخدمها إلا انه فشل في تحقيق نتائج ذات بال في هذا المجال، مثل أية محاولة لتسخير علم الآثار، في أي مكان في العالم لخدمة أغراض دينية وسياسية.
وأعلنت حكومة الاحتلال عن سياستها تلك بوضوح في الأيام الأولى لاحتلالها القدس الشرقية عندما هدمت حارة المغاربة، وهي حي فاطمي يعود عمره إلى 900 عام فوق رؤوس أصحابه، لتوسعة ساحة حائط المبكى.
وفي مثل هذه الظروف وجد الدكتور الفني وزملاؤه من الباحثين الفلسطينيين أنفسهم في مواجهة تكاد تكون يومية مع سياسية تجيير علم الآثار لخدمة أغراض سياسية فجاءت أبحاثهم، وأبحاث عرب آخرين، إلى حد كبير كردة فعل تجاه السياسة الإسرائيلية وهذا ما اثر على سوية الأبحاث العلمية الفلسطينية والعربية.
وان كان الأمر لم يكن دائما على هذا النحو، فبرز من الباحثين الفلسطينيين والعرب خصوصا خارج الأرض المحتلة باحثون شبان سلكوا طرقا جديدة وان تكن وعرة مثل الدكتور زياد منى الباحث في الدراسات الكتابية، والذي أنجز أبحاثا جدية تتعلق بالكتاب المقدس وبمورثات أخرى مثل كتابه عن (بلقيس)، ولاقت هذه الأبحاث صدى جيدا لدى قارئ ما زال يبحث عن ذاته وتاريخه برؤية علمية وحديثة.
ولم تقتصر أهمية زياد منى على أبحاثه ولكن على أدارته لمشروعه الثقافي المتمثل بدار قدمس في دمشق التي قدم من خلالها أبحاث معمقة لباحثين أجانب وعرب.
وأهمية كتاب الفني الجديد انه يتحدث عن ستة آلاف من تاريخ المدينة في مواجهة غير مباشرة مع الدعاوى الإسرائيلية الرسمية التي تتحدث عن ثلاثة آلاف عام هي تاريخ القدس، تبدأ مما تسميه تلك المزاعم (التاريخ اليهودي) وكأن تاريخ المدنية بدا بتلك الحقبة المثيرة للجدل في تاريخ المدنية، وعندما نظمت بلدية القدس برئاسة أيهود اولمرت (الشخصية المؤثرة في حزب الليكود الحاكم الان) احتفالات كبيرة وباذخة جدا بمرور ما أسمته ثلاثة آلاف عام من تاريخ المدنية قبل عشر سنوات، أثارت سخرية كثير من الباحثين في العالم وكذلك وسائل الأعلام حتى تلك المحسوبة تقليديا بأنها صديقة لإسرائيل.
وكتبت مجلة التايم الاميركية النافذة في حينه منتقدة خطوة اولمرت تلك.
وأيضا من أهمية الاطلس انه يضع أمام الجمهور الواسع صورا ومعلومات عن مدينة تعيش في وجدانهم، وربما لم يعرفوا عنها الكثير، وان تكن لعبت أدوارا في كثير من الحالات كانت محورية، في تاريخ المنطقة والعالم، ففيها، مثلا، تم وبعد نحو أربعة قرون الكشف عن قبر المسيح لتقام عليه كنيسة القيامة بعد تبني الإمبراطورية الرومانية للمسيحية، وفيها عقد معاوية بن أبي سفيان وعمرو ابن العاص الاتفاق الشهير بينهما الذي أسفر عن هزيمة جيش الخليفة الراشدي الرابع علي بن أبي طالب، وكان من نتيجة ذلك طبع تاريخ أمة بأكملها بطابع معين، وفيها صنع صلاح الدين الأيوبي أسطورته، بينما وقع بعض أبنائه اتفاقات مع ملوك الفرنجة تشبه إلى حد كبير اتفاقات سياسية وقعت قبل سنوات قليلة بين أطراف النزاع المعاصرين، وربما المقارنة بين بنود تلك الاتفاقات والاتفاقات الحالية تصيب البعض بالدهشة وكأن التاريخ لا يكرر نفسه فقط في هذا المنطقة في العالم بل أيضا لا يتحرك.
والواقع أن مدينة القدس ما زالت تنتظر باحثين عرب ليستنطقون حجارتها وأسوارها وزواياها ومدارسها وأسواقها ومساجدها وكنائسها التي سار فيها عرب وعجم وغزاة وفاتحون وأنبياء وأدعياء وآشوريون وفراعنة وكنعانيون وفرس، وكانت منذ البداية حلما (قوميا) عربيا ورمزا لانتصار نهائي على الإمبراطورية الرومانية في الشرق الأوسط وفيما بعد شهدت ساحة صراع لا مثيل له بين الشرق والغرب، في تلك الحروب التي لا مثيل لها والتي اسماها العرب (حروب الفرنجة) بينما أطلق مفجروها عليها (الحروب الصليبية) وما زال تأثيرها حاضرا، بهذا الشكل أو ذاك حتى ألان.

انقر على ما يهمك:
عالم الأدب
الفن السابع
المسرح
شعر
قص

ملف قصيدة النثر
مكتبة إيلاف