مازن الراوي من لندن: عندما تمّ تكليف الفنان لوسيان فرويد برسم صورة شخصية (بورتريه) للملكة أليزابيث الثانية رغب باكينغهام بالاس أن يكرم الفنان الملكة بعمله. فهو الى جانب فرانسيس بيكون وغيره من التشخيصيين أحد أهم الفنانين المعاصرين في هذا اللون الفني. وبعد قرابة عامين من العمل أنجز لوسيان ما كُلف به، ولكن الاستنكار والضجة أحاقت بهذا العمل. لم تكن الملكة المبجلة تشبه الملكة. ورأى الكثير في اللوحة إهانة لها وللملايين من محبيها. ومع أن أعمال الفنان، في لوحاته الشخصية اتسمت دائما ً بالغرابة وبالتحوير، وصفت تارة بأنها عدائية وتارة اخرى بالتشويه، إلا أنها لم تكن تلك الاعمال لشخصيات اجتماعية كالملكة التي تحظى بحب وتقدير البريطانيي..

سيرة

لوسيان فرويد فنان انجليزي ولد في برلين في العام 1922، وهو حفيد عالم النفس الشهير سيغموند فرويد. هاجرت أسرته الى بريطانيا وهو لما يبلغ العاشرة من عمره. بدأ حبه مبكراً للرسم، ثمّ كرس كل وقته محترفاً الفن في العام 1942 بعد عجزه عن العمل في الاسطول البحري البريطاني.
ومنذ العام 1951، حينما حازعلى جائزة احتفال بريطانيا بعمله " داخل بادينغتون " المعروض في كاليري ووكر بليفربول اعتبره النقاد واحداً من أقوى الفنانين التشخيصيين المعاصرين. ويختص فرويد عموماً بالصور الشخصية (البورتريه) ليتجاوز المدارس المعهودة ويستقل برؤية وتقنية خاصة به ليجاور ويتجاوز الفنان الانجليزي فرانسيس بيكون المشهور في هذا المجال. وكانت أعمال لوسيان فرويد في البداية ملونة على نحو دقيق مهني وتعنى بالتفاصيل، لذلك وُصِفَ بأنه فنان واقعي أو ما فوق الواقعية. ولكن الموضوعية والتشخيصية في أعماله جعلته في تقييم النقاد، فيما بعد، أن يحرز مكانة خاصة بعيدة بعض الشيء عن غيره من الفنانين التشخيصيين المحدثين في بريطانيا منذ الحرب العالمية الثانية. وقد أضحت أعماله منذ أواخر الخمسينيات تكتسب طابعاً أعمق في إضفاء الكشوفات السيكولوجية على الوجوه التي يرسمها، برصد تاريخها وموقعها الاجتماعي ويعري عواطفها ومشاعرها. لذلك غدت أعماله أكثر توسعاً وأشدّ تعبيرية. ووصفه الناقد روبرت هوكر بأنه " أعظم فنان واقعي حتى الآن ". وهو يرسم، على الأرجح، أولئك الاصدقاء والمعارف الذين عاش معهم ورصدهم طويلاً. وبهذا فإن اعماله تستبطن وتكشف نماذجه بما هم عليه، ليس على ما نراه في الواقع. إنه يحفر في شخوصه ويعلن فيهم ما هو كائن.

الفنان والملكة

في تقرير كتبته سوزان كيبينبيرغر ينطوي على قدر من الخيال لمجريات العمل الفني الذي أنجزه لوسيان، لكنه طريف وموحي، قالت فيه الكاتبة: جلست الملكة بسكون. جلست طوال ساعات، طوال أيام. ولكن كم من الوقت استغرق الأمر ؟. ذلك ما لا نعلمه. " هو سرٌّ " كما يصرح قصر باكينغهام. إلاّ أن الملكة في جلساتها قبالة الرسامين في قصرها لينجزوا لها " صورة شخصية " لم تتعدى الجلستين، كل منها لم تتجاوز النصف ساعة فقط. هكذا أنجز لها الفنانون 131 لوحة. لا وقت للملكة، وهي تضجر بالتأكيد من الجاسات والتحديق الطويل في الآخرين !.

ولكن أمام الفنان لوسيان فرويد لم يكن الأمر بهذه السهولة. لقد تجاوزت الملكة التقليد الذي دأبت عليه مع الفنانين الآخرين. اقتطعت الملكة من وقتها ومنحت الفنان لوسيان ما اقتضاه عمله الفني من وقت وجهود في تلوين صورتها الشخصية. ومع ذلك يبدو أن الوقت لم يكن كافياً.

الفنان الذي يبلغ 81 عاماً من العمر شرع يخطط ويلوّن، ثمّ يلون، بدقة وباهتمام استثنائي ليصل إلى التفاصيل التي يريدها أن تبرز في عمله الفني. ويُذكّر المرء في توخي الدقة يُذكّر في عمله بالفنانين الكلاسكيين القدماء. فهو يقضي النهار والليل في التلوين وإعادة التلوين، بمساحات لونية وطبقات تأتي الواحدة فوق الاخرى، جاد للغاية أمام النموذج ـ الوجه الذي يرسمه.
يَعتَبرُ الفنان لوسيان فرويد الانشغال بالنماذج التي يرسمها عملاً متكاملاً يقتضي منه تكريس وقت كامل للعمل المضني المشفوع بالتامل وبالدراسة. بعض نماذجه التي يريد رسمها تأتي إلى محترفه في النهار، وفي الليل ينشغل أيضاً برسم نماذج اخرى. هكذا يقضي شهوراً في إنجاز الصور الشخصية (بورتريت). أمّا بالنسبة إلى الملكة فقد اختلف الامر. لقد أحدث لها" المهاجر من هولاند بارك " في نظامه الخاص بعض الاستثناءات وقدَّمَ لها بعض التنازلات، بل غادر محترفه الأثير إلى حيث أرادت الملكة.

في سان جيمس بالاس اتخذت الملكة موقعها، ووجد الفنان هناك ما سماه " مغامرة اكتشاف القطب"، وهو يحدق لأول مرةٍ في هذا الوجه الغريب. بينما كان يرسم في الغالب صوراً شخصية للذين يحيطون به: أصدقاءه، زوجته ومن يجتذبه من الاطفال والاصدقاء. ويعيد كذلك رسم صورته الشخصية.

رفض ديانا

كان فرويد يمتنع دوماً عن تلبية طلب من يكلفه بعمل فني. لم يقبل أن يرسم الأميرة دايانا التي سماها " ملكة القلوب ". لم يجرأ على ذلك بسبب من شخصيتها اللامعة المحاطة بالاسوار، حيث الخشية من الفشل في تجسيد صورتها الحقيقية في عمل فني. وكذلك امتنععن رسم البابا والأمير جارلس. والواقع أن فرويد الفنان الذي يتقاضى الملايين لعمله الفني هو الذي يختار وينتقي نماذجه ويقبل أن يخطط بقلمه ويلوّنبريشته وجهاً من الوجوه.

عُرفت الملكة بحبها للكلاب أكثرمن اهتمامها بالفن المعاصر، وهي لا تعنى بالضربات الوحشية لفرشاة الفنانين الموهوبين ولا تستنبط منها المعنى. وربما لا يعرف أحدٌ مالذي تفكر به عندما تقف أمام أعمال لوسيان المضطربة والمشوهة والمرعبة أحياناً، وكيف تفسر أعماله في الصور الشخصية المبقعة الوحوه. ربما رأت الملكة أليزابيث الثانية، وهي تنظر الى وجهها الشخصي في اللوحة التي رسمها، ان ملاكاً يكمن خلف الشيطان. والواقع ان والدة لوسيان سَمَّتهُ بهذا الاسم القدسي تيمناً بالملاك. وربما استعرضت الملكة أيضاً عدداً من الصور التي أنجزها الفنان لأمه في فترات مختلفة بحيث بدت فيها مختلفة القسمات بين لوحة واخرى. مجموعة أعمال فنية مكرسة لوالدته تعود الى 15 عاماً رسم فيها لوسيان وجه أمه بتقدم عمرها ومرورها إلى الشيخوخة. ويعتبر لوسيان هذه الأعما ل أكثر قرباً له وأشدّ حنيناً ودفئاً إلى نفسه.

من المفروض انهما ـ هو والملكة ـ قد تحدثا معاً في سياق التهيؤ للرسم عن حفيد سيغموند فرويد الذي هرب من المدرسة عندما كان صغيراً وأنزل سرواله في الطريق. لكن الملكة المبجلة يجب أن لا تبدي الاستغراب وأن لا تتبدل ملامحها من الحديث سواء عن ذكريات سابقة أو عن متاعب الحياة الحالية، لأنها ملكة ومن مهماتها أن تبقى رصينة لاتظهر مشاعر الدهشة أو الاستغراب. ولكن عن أي شيء تحدثت الملكة، وعن أي شيء تحدثا معاً ؟. لا نستطيع في الواقع معرفة ذلك، ولكننا نستطيع التخمين بأن الحديث بدأ عن كلبيهما بغية البدء بالتواصل والاسترسال. ثمّ دار الحديث عن السيارات وعن الخيول التي تحبها الملكة وتبدي نحوها الحب والعواطف الواضحة، وأخيراً عن برلين التي ولد لوسيان فيها من أب معماري ليهاجر مع أسرته إلى بريطانيا. وربما تبادلا الحديث عن الأبناء... ولوسيان يفوقها في عدد الاطفال. حقاً لا يُعرف ما دار بينهما من أحاديث، وهي طبعاً ضرورية بالنسبة إلى فنان يريد استكمال معرفته بدواخل من يقابله ليصوره بعمقه ويجسد جوهره. ولا يأتي هذا إلاّ بعد دراسة معمقة لجوانب النموذج المزمع رسمه، وبعد إضاءة له من خلال الحوار المباشر ورصد عواطف الشخص ومعرفة تاريخه. لقد أدلى الفنان بأحاديث وأجريت معه لقاءات لا تقل تقريباً عن ما قامت به الملكة. ولكنه يرفض اللقاءات والتصريحات السريعة والعابرة. ولم يقبل التحدث مع الصحافيين الذين حضروا افتتاح معرض خاص بتطور أعماله قبل عامين في " تات كاليري " الذي كرسه كواحد من أهم الرسامين الانجليز.

الملكة لم تعلق

لقد انشغل لوسيان فرويد قرابة عامين في انجاز العمل الفني الخاص بالملكة أليزابيث الثانية.: هذا العمل الصغير بحيث يمكن وضعها في علبة عادية. لوحة لا تتجاوز مقاساتها 23,5 × 15,2 سم. وكان من الممكن أن تأتي اللوحة أقصر من ذلك ببضعة سنتمترات أقصر لو لم يعن لوسيان بإبراء حلية الرأس: تاج الملكة الذي يكلل رأسها لدى افتتاح البرلمان، وكما تبدو به في طوابع البريد.

لقد أنجز لوسيان فرويد اللوحة، وقبل ثلاثة أيام فقط من عيد الميلاد سلّمها هذية للملكة. ولدى تسلمها العمل الفني بدت الملكة هادئة ولم تعلق بشيء، ولم تنقل الصحافة جملة واحدة تعلق فيها على اللوحة. أما الآن فقد أصبحت من عائدية مدير المجموعة الملكية الذي امتدح العمل الفني وأثنى عليه معتبراً إياه " عملاً رائعاً ".
وما أن عُرضت اللوحة على الملأ حتى جاءت الصيحات من بعض وسائل الأعلام، خاصة صحف التابلو، لتقول إن الملكة في اللوحة يبدو كما لو أنها مصابة بالسكتة القلبية، وقالت أخرى إنه تبدو مثل حارس شقي يرتدي شعراً مستعاراً. وقالت التعليقات القاسية بأن عنق الملكة في الصورة أشبه ما يكون بعنق لاعب ركبي. وكتب احد المعلقين: " ان لوسيان فرويد خليق بعمله هذا ان يسجن في تاور بريج. ولم يجر حول أي عمل فني معاصر تعليقات وانتقادات ولغط مثلما جرى بصدد هذا العمل الذي يصور الملكة. أما الملكة نفسها، وعلى خلاف ما كانت تعلق أحيانا على بعض صورها، فلم تتحدث أو تعلق مطلقاً، وخلدت إلى الصمت. وقد جعل موقفها الفنان لوسيان قلقاً. لم يكن يعني بما تكتبه الصحافة السريعة الفضائحية. لقد صوّر الملكة، في الواقع، كما هي وكما يراها فعلاً: إمرأة عجوز، إمرأة ذات عزم، تنطوي على بعض الحنق. وبالضبط هذا ما رآه النقاد في عمله الفني. عمل يبدو فيه القوة والسلطة مجسداً، فتظهر في الملكة فريدة متعالية ومعبرة، صادقة مع نفسها مخلصة مع ذاتها، غير عاطفية البتة. وأخيراً تُقَدَم الملكة في لباس انسان. أما لوسيان فرويد، فقد قال عن اعماله: بأن أية صورة شخصية، حتى تلك التي لا تشبه صاحبها بلحمه ودمه وتقترب في الشبه من طيور صغيرة ضعيفة، هي في الواقع سيرة ذاتية. أي بمعنى أن الفنان لاينقل ما يراه مثلما تفعل آلة التصوير، بل يحلل و يُشّرح ما يراه معتمداً على دراسه نموذجه ورؤيته الفنية.

أين يمكن للمرء أن يشاهد تلك اللوحة التي رسمها لوسيان؟
عليه أن يذهب إلى سوق التذكاريات في باكينغهام بالاس. إنها معلقة في ركن رويال نيوز، وهي اللوحة الوحيدة بين صور تذكارية عديدة مطبوعة على بطاقات بريدية يمكن حيازتها بخمسين فينيك فقط.