... في عقدي الثمانينات والتسعينات: الجزء الاول

مقدمــة

سيحاول هذا الموضوع التصدي لمهمه ليست بالسهلة اذا ما اريد له ان يكون شاملا. ولكنه سيحدد مهمته ضمن اطار أضيق نسبيا، التصدي للملامح العامة والجديدة والتي تزامنت مع احداث سياسية غاية في الجسامة في عقدين هما عقدي الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي وحتي في هذا الاطار فانه يطمح الى اثارة النقاش حول الاتجاهات الرئيسية التي سلكها الفن التشكيلي العراقي في هذه الحقبة.
بدأت بكتابة هذا الموضوع قبل ما يقارب العام والنصف وكنت قد غادرت العراق في أواخر عام 2000 وتربطني بالكثير من الفنانين التشكيلين الذي نشطوا في هذين العقدين علاقات معرفة أو على الاقل كنت مطلعا عن كثب على اعمال أغلبهم وكما تربطني علاقات ممتازة مع أغلب قاعات العرض الخاصة والرسمية و قد لايكون بمستطاعي الالمام بكل اتجاهات الفن التشكيلي العراقي في هذه الفترة ولكن يمكنني الادعاء بان بمستطاعي تناول اغلبها يساعدني في ذلك كوني احد الفنانين التشكيلين الناشطين في هذه الفترة ثم شهادة البكالوريوس في التاريخ وعلاقة قديمة بالفن التشكيلي منذ عضويتي في المرسم الحر في كلية الآداب عام 1969 باشراف الدكتور المرحوم خالد الجادر، وأخيرا وليس آخرا، النية الحسنة. وبما ان هذا الموضوع من السعة والتشعب بحيث لايمكن تغطيته بالكامل، وخصوصا وان الفن التشكيلي العراقي ذو قاعدة واسعة وتقاليد عريقة، فانني سأرحب بكل الملاحظات والاضافات.

بريشة خالد الجادر

عندما وضعت حرب الخليج الاولى أوزارها في أواخر الثمانينات أنهى الفن التشكيلي العراقي إحدى حقبه المهمة، حيث جرى منذ العام 1980 بداية الحرب مع الجار الشرقي، وبشكل يفوق المعتاد، تكريس ميلٍ طبيعي للانظمة الشمولية بإلحاق الفن، وبضمنه الفن التشكيلي، بآلة التعبئةالحربية بإعتباره أحد مفاصل آيديولوجية النظام.
أن ما أقصده بالميل، ولكي لايكون سببا للالتباس، لايعني بالضرورة التحقق الكامل للساعين اليه، فالكثيرمن الميول، وبضمنها هذا الميل لم يتحقق الا جزئيا كما سنوضح لاحقا.
لن يجد المتابعون لتاريخ الفن أي جديد في هذا الميل التكريسي، فقد جرى هذا بشكل واضح في مثالين تاريخيين صارخين على الاقل. الاول : الفن التعبوي الالماني قبل و إثناء الحرب العالمية فقد تم الحاق الفن العلني بآلة الدعاية الهتلرية.. في حين جرى،وعلى الضد من ذلك، تصنيف واحدة من أهم منجزات الفن التشكيلي الالماني والعالمي وهو" التعبيرية الالمانية" وممثليها الكبار بإعتبارها فناً منحطاً، أما المثال الثاني فهو : قيام السلطة السوفيتية بتبني مدرسة رسمية محددة وخصوصاً في الحقبة الســـتالينية. وأُدخل الفن والادب السوفيتيين بذلك في حقبة من الركود غيرمألوفة في مجتمع كان حتى ذلك الحين في منتهى الديناميكية مما ترتب عليه مغادرة العديد من الفنانين التشكيليين الرياديين أمثال(كاندنسكي، (ماليفيتش)،(شاغال ) (سوتين ) وغيرهم الى دول أخرى.

بريشة جواد سليم

على ان من الانصاف القول انه لم يتم تبني ودعم مدرسة دون غيرها في الفن التشكيلي العراقي من قبل المسؤولين، فقد كان استعمال مختلف الاساليب الفنية أمرا متاحا، ولكن السائد كان فن المناسبات والذي يتم بموجبه إقامة المعارض والمهرجانات الفنية في المناسبات السياسية. وفي سنوات التسعينات بالاخص كان بالامكان رؤية الكثيرمن الاعمال التي تدين الحرب ليس في مجال الفنون التشكيلية فحسب، كما في لوحات علاء بشير التي تدين الحرب بشكل صارخ والتي تمثل جنديا (مزمنا ) في الخندق الامامي يده التي تحمل البندقية كانت يدا آلية وعششت الحمامة، رمز السلام، في رأسه، بل بالامكان الاشارة الى اعمال مسرحية جريئة مثل العمل الذي قدمه المخرج المسرحي غانم حميد (أنا ضمير المتكلم ) والتي أدانت الحرب في تصويرها الحياة المرعبة لجندي في الجبهة تلاحقة الكوابيس، وكما في مثال القصة القصيرة فيما كتبه صلاح زنكنة (التماثيل ) وهذا على سبيل المثال لا الحصر.

وسواء إستفاد ممثلو السلطة في العراق من هذه الامثولات والسوابق التاريخية أم أن حدسهم الشمولي قادهم إليها ــ وهذا هو الاغلب ـ فإن الامر واحد، إذ بذل ممثلو السلطة كل ما بوسعهم لجعل الفن مفصلاً تابعاً في ماكنة الدعاية السلطوية في الحرب ضد "العدو الهمجي القادم من الشرق" كما وصفوه. لقد كانت الصورة التي عليها نظام الحكم الديني في إيران، وخصوصاً في الغرب، بإعتباره متخلفاً، قد قدّمت دافعاً إضافياً من أجل دعم فن موجّه، هذه الالية التي ستفقد مبرراتها في الحرب اللاحقة بعد إحتلال الكويت، لكي يُقاد الشعب هذه المرة في حرب مع العالم الذي لانستطيع أن نصفه بـ (المتخلف)،على غرار ما فعلنا مع إيران، إنما لكي نصفه هذه المرة بـ(الكافر).. وفي هذا الاطار أقيمت في الثمانينات العشرات من المعارض والمحافل الادبية والنشاطات الفنية المختلفة دعي اليها العشرات والمئات من الفنانين والادباء العرب والاجانب وتم صرف مبالغ طائلة لمثل هذه النشاطات. ولقد إستمرت أشكال أخرى من هذه النشاطات على أوجها في فترة التسعينات وخصوصاً المحافل الادبية على غرار المربد، والغنائية الاستعراضية على غرار مهرجان بابل الدولي. وأعلن عن اقامة فن تعبوي دون مواربة أو محاولة أطلاق تسمية اخرى ما أدى الى ظهور بعض (الاعمال الفنية) التعبوية تحمل الملامح البوسترية، ذات مستويات غاية في الانحطاط والمباشرة، فقد قدم احد الفنانين المعروفين، على سبيل المثال، لوحتين سماهما " جدار السلام" والثانية "جدار الحرب"، وبالتأكيد فان جدار السلام يمثل العراق وانجازاته فيما يمثل " جدار الحرب " بالمقابل، ايران. في الاولى الانجازات والعمران وفي الثانية الخراب والتخلف.
على أن هذه الصورة السلبية ينبغي عليها أن لا تلغي الجانب الاخر من الصورة، والذي تمثّل في تحقيق إنجازات كبيرة للفن التشكيلي العراقي فقد تم، الى جانب هذا الميل الالحاقي، و بغض النظر عن نوايا السلطة تحقيق إنجازات غاية في الاهمية، فقد شهد مهرجان بغداد للفنون التشكيلية تألق محمد مهر الدين، وقدمت سعاد العطار المقيمة في أوربا منجزاً تشكيلياً مهماً، وعرض سلمان عباس مثالاً مبشراً لصعوده المتألق لاحقاً، اما علاء بشير فقد قدم ثلاثة أعمال تتضمن أدانة صارخة للحرب، وقدم فنانون آخرون مثل محمد تعبان ووليد شيت ونوري الراوي وآخرون أعمالا مهمة.

فائق حسن

الفن أم السوق؟

في العام 1988إنتهت أطول حرب نظامية في القرن العشرين وإنطلق الناس في بغداد ومدن العراق الاخرى مبتهجين مستبشرين ببداية حقبة جديدة من السلام ظنّوها، خطأً، طويلة. و ساد الشارع العراقي فرحٌ غامر وإنطلق الناس في الشوارع بمزاج جديد لم يألفوه منذ أواسط السبعينات وعاد الجنود المتعبون من جبهات القتال ، ودخل جيل جديد، الى جانب الحرس القديم،معترك الحياة الفنية والثقافية، كما ودخلت عوامل غير مسبوقة الى الحياة التشكيلية العراقية أهمّها : بروز المنتجات التشكيلية، واللوحات بشكل خاص كسلعة مطلوبة على نطاق واسع. وكتب عامر فتوحي أوائل عام 1990 في جريدة الجمهورية موضوعاً بعنوان " الفن أم السوق"واضعاً تعارضاً تعسفياً بين الفن والسوق.
إن منتجات الفن التشكيلي بإعتبارها سلعة، تنتج لمستهلك غير معلوم، قد جائت متأخرة قليلا على الصعيد العالمي عن سيادة شكل المجتمع السلعي، لاسباب كامنة في طبيعة هذا المنتج، ولكنها تحولت الى ظاهرة مهيمنة في الحياة الفنية الاوربية في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين حتى الوقت الراهن، وقد تحدثت فوانسواز جيلو في كتابها " حياتي مع بيكاسو"كيف إنه قد حقق من المبيعات المباشرة لاعماله أرباحاً تصل الى بضعة ملايين من الدولارات عدا الاستثمارات المتفرعة. لاشك إن بعض الفنانين العراقيين قد حققوا في فترات سابقة لهذه المرحلة مبيعات لاعمالهم، ولكن دخل الفنان لم يكن ليرتقي الى مستوى تلبية متطلبات المعيشة الدائمة ناهيك عن سداد تكاليف المواد الفنية باهظة التكاليف، وكان الفنانون التشكيليون يعتاشون في الغالب على مرتباتهم بإعتبارهم مدرسين أو أساتذة في المعاهد والكليات وكانت مبيعات اللوحات تشكل مصدراً إضافيا لتعزيز مداخيلهم، كما لم تشهد الساحة الفنية التشكيلية وجود فنانين متفرغين يعتاشون على هذه المبيعات، على الضد من الوضع الناشئ في الثمانينات والذي تعزز لاحقا، والذي شهد تفرغ العديد من مدرسي الجامعات وغيرهم للعمل الفني والعيش بشكل كامل على المبيعات وتحقيق مدخولات عالية جداً. هناك عوامل عديدة لعبت دوراً مهما في هذا الاتجاه :
أولاً: خصائص الفن التشكيلي العراقي، وسعة قاعدته، والتنوع الكبير الذي يمثله، ارتباطا بالمؤسسات التعليمية الفنية ذات المستوى العالي . وكذلك ظاهرة انتعاش الفن التشكيلي باعتباره نشاطا فرديا، غير مرتبط بشروط وجود قاعدة مادية ومؤسساتية مثل المسرح، على سبيل المثال، حيث يكون قادرا على التملص من التقييد، في ظروف انظمة الحكم الشمولية.
ثانيا التضخم النقدي الذي جعل أسعار اللوحات رخيصة جدا بالمعايير الاوربية.
ثالثاً: وجود جالية ضخمة من العراقيين المقيمين في أوربا وأمريكا والميالين الى إقتناء الاعمال الفنية العراقية بدوافع مختلفة
رابعا : ظهور العراق بشكل ملفت للنظرعلى ساحة السياسة الدولية ترتب علية السؤال المنطقي : من هو العراقي؟ وكيف يفكر؟ لقد كان وجود أعمال فنية راقية، في ظروف الجوع والحرمان والحصار غير المسبوق مفاجئة للكثيرين كان الرسامون يرسمون باصرار ومثابرة في الوقت الذي كان فيه هدير الطائرات الامريكية والبريطانية ودوي القنابل يصم الاذان، ولقد رسم الرسامون في ظروف بطولية، إنقطاع التيار الكهربائي والحر اللاهب وخصوصا في الفترة التي تلت حرب الخليج الثانية. وفي المعرض الذي أقامه الفنان نوري الراوي على قاعة أثر، على سبيل المثال، عرض الراوي أعمالاً مائية تمثل بعض مناطق ديالى التي لجأ هو اليها مثل الكثيرمن العراقيين إثناء حملات القصف الجوي في حرب الخليج الثانية. لم يتوقف الفنانون التشكيليون العراقيون عن الانجاز تحت أشد الظروف قساوة، لم يكن المال هو الدافع الوحيد وإنما قطعاً شكل من أشكال المقاومة وإثبات الذات، وواجه الفنانون التشكيليون مشاكل تتعلق بتهيئة المواد الفنية التي كانت أما غير متوفرة وأما غالية الثمن وقد تم تصنيع وأيجاد الكثير من البدائل مثل أحبار الخط ومواد تحضير قماشة الرسم وبعض الالوان النباتية وغيرها.
خامسا: الوعي الثقافي و التشكيلي لدى اوساط واسعة من العراقيين وميلهم الى إقتناء اللوحات. ان مسحاً غير رسمي للمبيعات اوضح أن اكثر من65 % من هذه المبيعات قد ذهبت الى مقتنين عراقيين. على خلاف الاعتقاد السائد بأن أغلبية المبيعات تذهب الى جهات أجنبية.

ظهور إزدياد دور القاعات الخاصة

وقد ترافقت هذه الظواهر في الحركة التشكيلية العراقية، مع ظاهرة الازدياد المطّرد لقاعات العرض الخاصة، فحتى عام 1988 كانت قاعة الاورفلي هي القاعة الوحيدة غير المملوكة للدولة والتي تتوفر فيها المواصفات والمستوى الفني اللائق والتي تمتاز بنشاطها المنتظم وتعود هذه القاعة للفنانه وداد الاورفلي وكانت الافتتاحات التي تنظمها هذه القاعة، وكذلك النشاطات الثقافية الاخرى من قبيل العروض المسرحية والندوات وعروض الافلام السينمائية حوادث ثقافية مهمة، كما أضفت السيدة الاورفلي من خلال ديناميكيتها ونشاطها الذي لاينضب وكذلك مزاوجتها بين الاحتفالات التقليدية العراقية مثل أيام (الزكريّة) و الليالي الرمضانية روحاً حية وطابعاً بغدادياً أصيلاً على نشاطات القاعة، والسيدة الاورفلي متعددة المواهب، فهي تعزف على لآلة البيانو وكذلك على آلة العود وتغني الاغاني الغربية والشرقية.
وقد تحوّل البناء الذي تشغل القاعة جزءاً منه الى مجمع ثقافي حيث كان، قبل إن تغلق قاعة الاورفلي ابوابها لكي تنتقل الى مكان آخر في العام 2000، يحتوي على قاعات للمحاضرات لتدريس اللغات والموسيقى ودروس نظرية وعملية في الرسم للاطفال والبالغين وغيرها كما ضم المجمع مكتبة وقاعة لعرض الازياء التقليدية المحلية وقاعة لاعمال السيراميك وقاعة صغيرة لعرض الاعمال المائية إسمها قاعة الزاوية بإشراف الفنان أديب مكي. أما في القاعة الجديدة التي بنتها السيدة الاورفلي ليس بعيداً عن الاولى فقد تضمنت قاعة للعروض السينمائية وقاعة لتعليم الرسم وكافتريا إضافةً الى قاعة لعرض الاعمال الفنية.
كان حفل الافتتاح التدشيني لهذه القاعة والذي أقيم في صيف 2000 رائعاً حضره جمهور واسع من الفنانين والفنانات وكذلك من الجمهور العراقي المهتم بالفن التشكيلي لم أشهد له في أوربا مثيلاً، مما رسخ قناعتي السابقة بأن هذا الشعب الحي أقوى من المأساة.
شهدت نهاية عقد الثمانينات وبداية التسعينات إغلاق العديد من القاعات المملوكة للدولة، والتي لعب بعضها دوراً مهما في الحياة الثقافية العراقية مثل قاعتي الرواق والرشيد كما تم لاحقاً إغلاق قاعة التحرير، ومن جهة أخرى فقد حدث نمو إنفجاري في قاعات العرض الخاصة، وذلك بالارتباط مع الارباح المتحققة التي سبق الحديث عنها، وبالمكانة التي حققها الفن التشكيلي العراقي، فالى جانب قاعة الاورفلي سابقة الذكر والتي كان لها الدور الريادي، إفتتحت سميرة عبد الوهاب قاعة بغداد في الموقع القريب من نصب الجندي المجهول كانت هذه القاعة الانيقة تعرض أعمالاً لممثلي الحداثة العراقية وتحتوي على كافتريا أنيقة ، وفي نفس الفترة وفي مكان قريب إفتتح الفنان المرحوم موفق الخطيب قاعة أسماها " قاعة إصدقاء الفن" ضمت عدداً كبيراً من الفنانين المشاركين ذوي الاساليب الفنية المختلفة والذي لايجمعهم جامع سوى سوى صداقتهم لموفق الخطيب. ثم إنتقلت القاعة بعد ذلك الى إحدى قاعات نادي العلوية، لكي تُسمى لاحقاً باسم قاعة العلوية، والتي اصبحت تحت ادارة الآنسة هيفاء القاضي، بعد أن لقي موفق الخطيب مصيره المأساوي.
كانت الشخصية الدينامكية الوثابة المتفائلة لموفق الخطيب، واهتماته ومعارفه الموسوعية، تعكس صفات فنان حقيقي اكثر مما تفعل لوحاته، ما اهله، بسبب هذه الجاذبية، ان يكون قاسما مشتركا للعديد من الفنانين الذين يصعب جمعهم والتوفيق بينهم، و بسبب هذه الصفات كان رحيله خساره كبيرة للفن التشكيلي العراقي. وسنلاحظ ان الكثير من القاعات كان نجاحها مرتبطا بشخصية مديرها والمشرفين عليها. فالتوفيق بين الفنانين التشكيلين، بسبب الميل القوي للاستقلالية والفردية،(التي رأينا انها من بعض الوجوه كانت ذات نتائج ايجابية) هي امرٌ ليس من السهل تحقيقه.
وتزايد إفتتاح القاعات فقد أدار أديب مكي ــ كما ذكرنا ــ قاعة الزاوية التي كانت تقع في نفس البناية التي تقع فيها قاعة الاورفلي والتي تخصصت في عرض الاعمال المائية وأعمال المصغرات مما اضفى على نشاطها شكلا خاصاً وربما تكون هذه القاعة هي الاولى من نوعها التي إختصت بعرض الاعمال المائية في حين كانت القاعات الاخرى الاخرى تعرض الاعمال المائية ليس على سبيل الحصر وإنما جنباً الى جنب مع الاعمال الزيتية والاعمال المنفذة بتقنيات أخرى. وفي نفس الفترة إفتتح المهندس شامل كبة قاعة (عين ) قصيرة العمر والتي أغلقت أبوابها بعد أن حققت إنجازات محسوبة.
أما قاعة (حوار) لقاسم السبتي وقاعة (أثر) لمحمد زناد فقد تخصصتا في عرض أعمال الحداثة، وكان موقع هاتين القاعتين المجاور لاكاديمية الفنون الجميلة في منطقة الوزيرية ببغداد قد نشّط من إحتكاكهما بالطلبة ووفرت الكافتيريا الملحقة بقاعة (حوار) فرص اللقاء للطلبة والاساتذه والفنانين ونشطت روح الحوار.
وفي منطقة الكرادة ببغداد كانت قاعة نظر التي إفتتحها الفنان فهمي القيسي واحدة من الامثلة على القاعات الصغيرة والانيقة التي حافظت على مستوى رصين ومتوازن، وعلى مسافة قريبة من هذه القاعة كان هناك معهد كوديا بإدارة الفنان ضياء حسن الشكرجي الذي كان إضافة الى إحتوائه على قاعة عرض لاقامة المعارض وعرض الاعمال الفنية، يحتوي على صفوف لتدريس اليافعين والاطفال الرسم. وفي نفس المنطقة إفتتح الفنان المعروف جميل حمودي في أوائل التسعينات قاعة (إينانا)... وكانت القاعة الموجودة في فندق الحمراء لاصحابه الاخوة "شريف" الذين يمتلكون أكبر وأفضل مجموعة لاعمال الفنان فائق حسن قد سموّا القاعة بإسمه وتخصصت قبل وفاة هذا الفنان الكبير بعرض أعماله، ثم ما لبثت أن قامت بعرض أعمال الفنانين الواقعيين العراقيين مثل : ميسر القاضلي، نشأت الالوسي، عبد الامير علوان، منير العبيدي وغيرهم.
وتوالى فتح القاعات بصورة إنفجارية : قاعة (الاناء) لعائلة الدهان والتي كانت بإدارة المخضرم المرحوم (أبو خالد ) حتى وفاته ثم قاعات الفجر لـ (سمر رانية ) وشركائها، قاعة الافق لـ (مؤيد الحيدري ) قاعة المسك للسيدة (نجاة الاورفلي ) والتي تمتلك هي الاخرى مجموعة كبيرة من أعمال الفنان فائق حسن وفنانين آخرين.. وبعد أن اغلقت قاعة (مينا ) أبوابها إفتتحت السيدة غادة الآلوسي، التي كانت تديرها، قاعة أخرى بإسم (دالي ).
وفي منطقة المنصور والى جانب القاعات سابقة الذكر إفتتحت الفنانة مهين الصراف قاعة الصراف الملحقة ببيتها كما قامت الفنانة رؤيا رؤوف بافتتاح قاعة (رؤيا) وأقامت فيها معرضا شخصيا لها. وفي منطقة الوزيرية قرب جسر الصرافية السابق إفتتحت مجموعة من القاعات كانت احداها تعود للفنان إسماعيل فتاح الترك ولم تتح لي فرصة الاطلاع على نشاطاتها حيث غادرت العراق بُعيد مزاولة هذه القاعة لنشاطها.
لقد تم الى جانب ذلك وعلى نطاق واسع إفتتاح مشاغل خاصة للرسم (أتيليهات) خاصة بفنان واحد على الاغلب وكان الفنانون يستعملونها لعرض بعضٍ من أعمالهم الى جانب قيامهم بالعرض في قاعات أخرى. هذا الى جانب العشرات من المحلات المغمورة التي كانت تبيع اللوحات متدنية المستوى للسواح والتي نمت في هذه الفترة نموّ الفطر، كان يعمل في هذه المحلات أو لصالحها فنانون شباب و طلبة ناسخون لاعمال الفنانين العالميين، أو لاعمال الفنان فائق حسن،الذي بلغت لوحاته أسعاراً قياسية، ولكن هذه المحلات لم تكن لتخلو تماماً، وبمحض الصدفة من أعمال تجريبية هنا وهناك ذات قيمة فنية، كما إنها كانت مدرسة تمرس فيها مقلدو اللوحات من الطلبة أمنوا لانفسهم دخلا إضافياً.
كما قام الفنانون العراقيون لاول مرة بمحاولات، قائمة على المبادرة الفردية لايجاد منافذ خارج القطر وفي الدول العربية وبالاخص في الاردن ودول الخليج، لعرض أعمالهم وإقامة معارض شخصية وجماعية، ونشطت الحركة التشكيلية الاردنية وقاعات العرض الخاصة وكانت أغلب الاعمال المعروضة فيها لفنانين عراقيين. وليس دون دلالة ان تكون قاعة الاورفلي في عمان، وهي واحدة من أوائل القاعات الخاصة، قد اُسست واُديرت من قبل سيدة عراقية هي السيدة إنعام الاورفلي المقيمة هناك منذ الستينات. ومن عمان أو دول الخليج أو تونس شق بعض الفنانين طريقهم للتعريف بفنهم في دول اخرى في أوربا وامريكا.
وبشكل عام فقد بلغت مبيعات اللوحات الفنية أرقاماً غير مسبوقة، وبلغت مبيعات بعض القاعات عشرات الملايين من الدنانير العراقية في الشهر الواحد، وحقق الكثير من الفنانيين التشكيلين مداخيل عالية جعلتهم يعيشون بمستويات معيشية عالية، ولكنها من جهة أخرى لعبت دوراً سلبيا في إنتاج أعمال فنية لتلبية متطلبات السوق مما أدى في بعض الحالات الى المحافظة والابتعاد عن التجريب وقلل عند بعض الفنانين روح المغامرة والبحث.
ان السوق لا يتعارض مع الفن، فدخول المنتجات الفنية والثقافية بشكل عام السوق كسلعة، هو تطور طبيعي وايجابي. ولكن الظواهر الايجابية تحمل معها، فيما لايمكن استبعاده أحيانا، جوانب سلبية وسوء استغلال.

يتبع


[email protected]