بعد استقصاء دام أكثر من 10 سنوات، صرح بروفيسور أكاديمية موسكو الطبية ألكسندر ماسلوف بواحد من أهم الأخبار التي حيرت الرأي العام الثقافي والسياسي العالمي طوال أكثر من 70 عاما كاملة بشأن حقيقة انتحار أو قتل الشاعر الروسي فلاديمير مايكوفسكي (1893-1930).
ألكسندر ماسلوف أحد أبرز الباحثين الروس في مجال الطب الجنائي، عمل سنوات طويلة في هذا المجال، وقام باستقصاء أسباب وفاة شخصيات بارزة في مختلف المراحل التاريخية بروسيا مثل إيفان جروزني وبوريس جودونوف وميخائيل فرونزا وناديجدا كروبسكايا زوجة لينين، متبعا أحدث الطرق والأساليب العلمية في الطب الجنائي.
منذ سنوات عديدة أخذ الباحث على عاتقه وضع النقطة الأخيرة في قضية انتحار الشاعر الروسي، خاصة وأن سقوط الاتحاد السوفيتي تسبب في فتح العديد من الملفات القديمة وأعاد هذه القضية مغلفة بجملة من الشائعات والأخبار التي تؤكد في مجملها مقتل الشاعر على يد رجال الحزب الشيوعي السوفيتي، وليس انتحاره كما أشاعت وسائل الإعلام السوفيتية آنذاك.
بدأت الشائعات تدور منذ لحظة إطلاق مايكوفسكي الرصاصة المشؤومة على نفسه في 14 نيسان (أبريل) عام 1930. وظهرت العديد من التصورات والأبحاث المبنية على تنبؤات وتحليلات غير متوقعة. ففي عام 1939 أعلن نيكولاي آسييف، أقرب أصدقاء الشاعر، لطلابه بمعهد الآداب: "هناك شيء ما غير طبيعي lt;..gt; ينبغي البحث والتقصي". ونشر فلاديمير فورونتسوف وألكسندر كولوسكوف مقالهما الخطير بمجلة "أوجونيوك" الذي أحدث دويا هائلا. إضافة إلى كل ذلك جاء مؤخرا كتاب فالنتين سكورياتين مُفَجِّرا قضية خطيرة وإن كانت قديمة، حيث اتهم فيه الممثلة فيرانيكا بولونسكايا بقتله بإيعاز من رجال الحزب الشيوعي السوفيتي.
طوال أكثر من 70 عاما اتفقت جميع التحليلات على الشك في عملية انتحار الشاعر، ولكنها في المقابل لم تتمكن من القطع بعملية القتل. أما الجانب الآخر من الآراء، فيري أصحابه أن مايكوفسكي انتحر بعد أن خاب أمله في حب الممثلة والراقصة والمخرجة السينمائية وكاتبة السيناريو ليلي بريك التي ذكرها في غالبية، إن لم يكن في جميع قصائده العاطفية، وعاشت معه ومع زوجها في ن واحد وفي بيت واحد لفترة طويلة، ولكنها في النهاية تركته بسبب غيرته الشديدة وعلاقاته المتعددة مع أخريات.
وفي ظل الثورة العلمية بنهاية القرن العشرين، وبعد متابعات طويلة وفحص دقيق، أعلن البروفيسور ألكسندر ماسلوف أن مايكوفسكي قد انتحر فعلا وبطلقة واحدة في القلب. وبفضل طريقة الاتصال الانتشاري في وجود تحديد الأنتيمون (أحد مكونات محتويات الطلق الناري من الداخل) نجح الباحث في إثبات وجود منطقة واسعة من الأنتيمون يتراوح قطرها بين 8 و10 مللم حول التلف المحيط بمكان الرصاصة، وهو الأمر الذي يميز الطلق الناري الذي تم إطلاقه من مسافة قريبة جدا وبشكل جانبي. كما توصل الباحث الروسي إلى أن صغر حجم الجزء المُشَبَّع بالدم والموجود حول التلف يثبت أن هذا الجزء قد تكون على أثر اندفاع الدم في لحظة واحدة. ولكن عدم وجود تيار دم عمودي يشير إلى أن مايكوفسكي سقط على الفور في وضع أفقي مستلقيا على الظهر. وهكذا-يقول الباحث-انتهى تماما الخلاف حول وضع الجثة بعد إطلاق النار.
أما بخصوص الرسالة التي تركها مايكوفسكي، والتي قال فيها: إلى الجميع. أرجو عدم اتهام أي شخص يموتي. ومن فضلكم لا تثرثروا حول ذلك الأمر. فالفقيد لم يكن يحب ذلك إطلاقا... ماما، أخواتي، رفاقي، سامحوني، فهذا ليس الحل (ولا أنصح به الآخرين)، ولكن ليس لدى مخرج آخر. ليليا، أحبيني. أسرتي هي ليلي بريك، ماما، أخواتي فيرونيكا فيتولدوفنا بولونسكايا.."- بخصوص هذه الرسالة، أكد الباحثون والمثقفون الروس أنها لم تكتب بيد الشاعر، ومن ضمن هؤلاء المخرج السوفيتي الشهير سيرجي إيزنشتاين صاحب "المدرعة بتيومكين". ولكن البروفيسور ماسلوف أشار إلى أن الشائعات التي تدور حول تلك الرسالة المكتوبة بقلم الرصاص، والخالية تماما من علامات الترقيم، هي محض افتراء رغم كثرتها وأهمية أصحابها. ومع ذلك فقد أثبت تقرير المركز الفيدرالي للبحث الجنائي أن "الرسالة كتبت بيد مايكوفسكي نفسه في ظروف غير عادية لعل سببها يعود إلى حالة عصبية-فيزيولوجية ناشئة عن التوتر. ولم تكتب الرسالة يوم الانتحار، وإنما يوم 12 نيسان كما أرَّخها الشاعر بنفسه.
بذلك يضع البحث العلمي في مجال الطب الجنائي النقطة الأخيرة في واحدة من أكثر القضايا الثقافية-السياسية إثارة. بيد أن البروفيسور ماسلوف صرح في نهاية أحد أحاديثه بأن سر انتحار مايكوفسكي سيبقى أمرا غامضا إلى البد، وعلى الباحثين أن يبدأوا بفض هذا السر ليس من جثة مايكوفسكي، أو الرصاصة التي أطلقها على نفسه، وإنما من الأحداث التي جرت يوم 12 نيسان (تاريخ كتابة الرسالة)، واستطاع مايكوفسكي أن يخفيها عن الجميع لتظهر تجلياتها يوم 30 نيسان فقط.