بقلم دوغلاس جونز
ترجمة: خالدة حامد
إن الربط الجوهري بين اللغة والفكر يزود ما بعد الحداثيين بأداة قوية في هدفهم الرامي إلى زعزعة أساس الحقيقة الموضوعية (التمركز حول اللوغوس). ولعلهم سينجحون في غايتهم إذا ما تمكنوا من إبعاد المعرفة الإنسانية عن الاحتكاك بالعالم الواقعي؛ إن تمكنوا من فصل البشر عن الواقع بذاته بمقدورهم عندئذ الإفلات من مسؤولية معرفة الرب المسيحي والإجابة عن تجلياته في الواقع. ولا نحصل على وسيلة ذلك إلا بالربط بين اللغة والفكر. وتفترض المعرفة الموضوعية والتأويل إطاراً يشتمل على التغيير والدوام معاً ؛ فمن دون الدوام نفقد العقلانية والأخلاق والمعنى والمعرفة. ولست معنيّاً هنا بالطريقة التي يتناول بها المسيحيون هذا المنظور العالمي لكن لاشك في أهمية ذلك. علينا أن نحتفظ بتفسير ما للواقع ننحني فيه لرب أزلي متعال ونستعد لأوامره المتعالية. ومن خلال السعي إلى نبذ جوانب الواقع الموضوعية والمتعالية يأمل ما بعد الحداثيين تخليص العالم من أشكال الموضوعية كلها، بما فيها المسيحية. وتحقق نزعة الفكر ـ اللغة الجوهرية هذا الهدف من خلال جعل أي زعم بحقيقة موضوعية نتاجاً لزمن وثقافة معينين وبمقدورهم أيضاً إنجاز هذا الهدف من خلال جعل أي زعم بالمعرفة نتاجاً للغة مادمنا جميعاً نتفق بأن اللغة الإنسانية ـ من نحو ومفردات و…الخ ـ متواضع عليها.
الاستنتاج الذي يحتاجه الغاداميريون وغيرهم من المابعد حداثيين هو إيجاد علاقة جوهرية بين اللغة والفكر لأن وجود علاقة لاجوهرية أو عارضة بينهما ستخفق في طبع بصمة الذاتانية التي يبتغونها. فإن كانت اللغة مرتبطة جوهرياً بالفكر فلن يكون بمقدور أي فرد عندئذ أن يمزق حجاب الواقع ولن تتملص فكرة من قيد كونها نتاج موروثها. وسيكون بمقدورنا الوصول إلى الواقع في حالة ارتباط اللغة بالفكر لاجوهرياً. ولن يختلف اثنان في أن موروثاتنا التاريخية بمقدورها التأثير في أحكامنا وقيمنا وتعبيراتنا. وهذا أحد معاني المحاباة والافتراض المسبق الذي نتشبث به في الأبحاث التاريخية وبين الثقافية. ويصعد وتشرهاوزر من مسألة العلاقة الجوهرية / اللاجوهرية :
المزاعم الإنسانية بالمعرفة كلها تنطوي في داخلها علاقة جوهرية بالسيروروة التاريخية التي تبرز هذه المزاعم من بينها. وهذا لا ينطوي بالضرورة على القول التافه بأن أي زعم بالمعرفة سيبدي ملامح " عرضية " للسياق التاريخي الذي صُيغ فيه مثل اللغة والنحو وأسلوب المؤلف بل يتضمن حقيقة أن معنى وصلاحية أي زعم بالمعرفة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالموقف التاريخي لمن يقوم بالصياغة ولمن يقوم بالتقويم، معاً (1).
كيف تأتى لغادامير، إذن، الوصول إلى أطروحة " الصلة الجوهرية بين الفهم واللغة ؟ " (2). وما براهينه على ذلك ؟ وقد أكد ما بعد الحداثيين، منذ نيتشة وهيدغر وغيرهم، ومراراً على عدم إمكانية تبرير ذلك إلا أن غادامير يهدف، على الأقل، إلى تقديم تسويغه الخاص في برهانيه في " الحقيقة والمنهج " اللذين سأتناولهما هنا.
البرهان الأول : طبيعة التأويل
في الجزء الثالث من " الحقيقة والمنهج " يستهل غادامير مناقشته عن اللغة بتقديم برهان عام عن جوهرية اللغة والفكر على النحو الآتي : نحن مدينون للرومانسية الألمانية بأساس الدلالة المنظمة التي ترتكز عليها طبيعة الفهم اللسانية لأنها علّمتنا أن الفهم والتأويل شيء واحد في نهاية المطاف... أما التأويل فهو نمط تحقق الفهم. لا يقصد من هذه العبارة عدم وجود مشكلة تعبير خاصة ؛ فالاختلاف بين لغة نص ما ولغة المؤول، أو الهوّة التي تفصل المترجم عن الأصل، ليس قضية ثانوية بل على العكس من ذلك فإن الحقيقة هي أن مشكلات التعبير اللساني تعدّ مشكلات فهم أصلاً. الفهم كله تأويل والتأويل كله يحدث بواسطة اللغة التي تسمح للموضوع بأن يحل في جسد الكلمات وتكون هي في الوقت نفسه لغة المترجِم (3).
ونجد أن البرهان ينطلق هنا من مقدمتين منطقيتين :
1 ـ الفهم كله تأويل.
2 ـ التأويل كله لسانيّ.
ويستتبع ذلك أن الفهم كله لساني.
يتصف هذا البرهان بغموض كبير، كما يبدو. يتوصل غادامير إلى المقدمة الأولى بعد نقاش مطول بصدد بعض تفصيلات نوع الفهم الذي يحدث عند الترجمة من لغة أجنبية. في هذه الحالة ينبغي للمؤول أن يقدم عملاً إبداعياً يحمل بصمته دائماً عند الانتقال من لغة إلى أخرى ؛ عليه أن يتغلغل في اللغة المستقبلة كي تنساب الترجمة بسلاسة. لا يمكن إنتاج ترجمة آلياً أو ميكانيكياً دونما إبداع.
التأويل يضيف معنى
يرى غادامير أن " الفهم " أقرب إلى شكل من أشكال الحوار و" التأويل " أقرب إلى نوع من الإضافة الإبداعية للغة أخرى. وبدلاً من أن يطرح غادامير مقدمته الغامضة ـ " الفهم كله تأويل " ـ فإنه يقودنا إلى فهم مقدمته على النحو الآتي : كل الفهم المتضمّن في أحداث الحوار يشتمل على إضافة معنى على نحو إبداعي. لكننا حينما نلحظ الكيفية التي يصف بها غادامير مقدمته نجد أنها سرعان ما تفقد الكثير من قوتها الأولية لأنه لا يتحدث عن " الفهم كله " بل عن شكل محدد لا يتضمن أشكال الفهم المتعددة، كالفهم المتولد في دخيلة امرؤ يمسك حبة طماطم ناضجة ويتأمل في لونها وتركيبتها الصحية. هذا ولا ريب شكل مهم وشائع من أشكال الفهم ـ والحكم والمعرفة ـ لا يتضمن ترجمة من لغة أخرى أو حواراً أو حتى مونولوج مع الذات.
لا يطال النقص قضية الفهم في هذه المقدمة فحسب، بل التأويل أيضاً. فهل حقاً أن على التأويل كله أن يتضمن إضافات إبداعية ؟ يؤكد غادامير أن أسهل مثال على حالته هو الترجمة من لغة أخرى والتي يعدّها هو شخصياً " حالة متطرفة " (4). فكل من يقوم بالترجمة من لغة إلى أخرى يصير واعياً بالصعوبات التي يمكن أن تنجم في أية لحظة. لكن حتى في هذه الحالة نغالي نحن بالتركيز على المقاطع الصعبة ويفوتنا الكثير من الواضح واللاإشكالي. قد يصح هذا الأمر على النصوص البلاغية لكن الموضوعات الشائعة قلما تشوه المعنى الأصلي.
فإذا كانت حالة غادامير المتطرفة (المتمثلة بالتأويل) تخفق بأن تكون قوية كما يظن هو فماذا عن أغلبية حالاته الأخرى الأقل تطرفاً ؟ بمعنى آخر، هل أن شكل الفهم الضيق الذي ذكره غادامير (وأعني به الحوار) يشتمل دائماً على إضافات إبداعية في الحالات الأكثر دنيوية ؟ فعندما أتكلم مع شخص يتكلم الإنكليزية المعاصرة ونفهم بعضنا لا نكون بحاجة للإبداع التأويلي. وعندما أطلب من أطفالي القيام بأمر ما فأنهم يستطيعون فهمي بسهولة. وإن أرادوا أن يضيفوا لتوجيهاتي شيئاً سيكونون مذنبين بالتملص لأن المعنى كان واضحاً لهم. نحن بالعادة لا نواجه سوى مشكلات طفيفة عند إدراك معاني المتكلمين الإنكليز قبل قرنين أو أكثر. بل أن غادامير نفسه يعترف بأن الحوارات التي تقوم بين شخصين يتقنان اللغة نفسها لا تتحول إلى معنى تأكيداً لقوله بأن " من الممكن تعلم كل لغة بطريقة يعني استعمالها على أكمل وجه أن الشخص ما عاد يترجم من أو إلى لغته الأم بل يفكر باللغة الأجنبية " (5). وبذا فإن من أتقن اللاتينية مثلاً بمقدوره الفهم بلا ترجمة. وبذا لا يوجد عائق جوهري يجبرنا على نوع من التأويل الإضافي الذي تستدعيه مقدمة غادامير الأولى.
أما مقدمته الثانية، " التأويل كله لسانيّ "، فتركز على سيرورة التأويل لا نتيجته وفي هذه الحالة يحق لنا أن نتساءل عن الكيفية التي يمكن أن تكون بها السيرورة الذهنية لسانية. بمقدورنا أن نفهم طبعاً الكيفية التي تشتمل بها السيرورة الذهنية على السرعة والمقارنة والقصدية والتمييز و…الخ، لكن كيف تشرك اللغة بطريقة جوهرية ؟ لاشك أن بمقدوري تأويل علامات العاصفة على الأفق من دون وجود رموز لغوية عليها. ويمكن لي أيضاً تأويل رشح أنف طفلة ما بأنه علامة على إصابتها بالزكام من دون أسمع منها كلمة (أو إذا افترضنا أني أصم وأبكم). إلا أن هذه الأمثلة المضادة تتسم بالبساطة وغادامير معنيّ بالنصوص. أليس أن التأويل كله لنص ما يعدّ لسانيّاً ؟ لا، ليس بالضرورة ؛ فلكي تعمل حجة غادامير بشأن ارتباط اللغة والفكر بشكل سليم علينا أن نفهم استعماله لكلمة " كله " في المقدمة الثانية. فهي قد تشير إلى ميتافيزيقا التأويل على اعتبار أن " كل جانب من التأويل يعدّ لسانيّاً " أو قد تشير سيرورة التأويل عموماً على اعتبار " دائماً ما يتضمن تفسير معنى نص ما دائماً استعمال رموز لسانية ". إن هذا القول لا يعدّ مثيراً للجدل ؛ فمن ينكر جوهرية الفكر ـ اللغة لا ينكر حقيقة أن اللغة متضمّنة حينما نسعى لتفسير عبارة لاتينية في اللغة الإنكليزية بل يعني أن السيرورة التأويلية نفسها ليست سجينة في اللغة على النحو الذي يتطلبه برهان غادامير.
سأوضح ذلك بالمثال الآتي : حينما أسعى لتفسير الجملة الروسية الآتية Na stolye staeet lampa (يوجد مصباح على المنضدة) فإن سيرورة نقل المعنى لا تتضمن إيجاد الرموز الإنكليزية التي تكافؤها لأن المعنى ليس غريباً. بمقدورنا محو الرموز من دون أن نمحو المعاني والكلمات لا تحمل أسهم تشير لنا إلى المعاني المتوخاة. وبالمثل، فإننا عندما نزودها بما يكافئها من رموز باللغة البرتغالية لن يساعد المتكلمين من غير البرتغاليين (أي أن الكلمات بوصفها علامات على الصفحة لا تحمل معنى إطلاقاً مع أننا قد نتكلم بتلك الطريقة لنختصر العملية). عندما نهتم بالمعنى نهتم بخواص ورتب الموضوعات والمفاهيم وأي منها لا يعدّ لسانياً، ولا يشتمل أي منها على الترميز. فمثلاً إذا أردنا تأويل العبارة الروسية أعلاه لمتكلم الإنكليزية فإننا نرغب في أن نستدعي إلى الذهن المعنى نفسه الذي يقرنه الروس مع هذه الرموز. ولما كانت الرموز الروسية مقترنة بمفاهيم معينة تقابل رتب معينة وخواص في العالم نجد أن مكافئاتها الإنكليزية تقترن بالمفاهيم نفسها. المفاهيم بارعة بالإحالة والتخصيص والمناشدة في حين تعجز عن ذلك السمات التي تحمل رموزاً لسانية. ولاشك أن السيرورة أعقد من ذلك بكثير لكن حينما يقول الروسي، أو يكتب، Na stolye فإنه يثير المفاهيم نفسها حينما نقول " على المنضدة ". وتثير staeet و lampaالمفاهيم نفسها حينما نقول " يوجد مصباح ". ونلاحظ أن المفاهيم التي تقابل مصابيح ومناضد ومختلف العلاقات لا تظهر على الصفحة أو بأي شكل لساني لكننا استحضرناها في أذهاننا وبذا يفهم المستمع الجملة أعلاه. والأهم من ذلك أنه إن كان الصواب يطال شيئاً مثل ذلك فعندئذ لن تكون الرموز اللسانية حجاباً يفصلنا عن العالم. فالمفاهيم التي نثيرها تعد ماوراء شخصية نستدعيها إلى أذهاننا عند الحاجة لكنها مستقلة عنّا تماماً. المفاهيم الماوراء شخصية تأخذ تفكيرنا إلى خارج موقفنا التاريخي المتناهي وكل ما يحيط به من ضوابط عرضية مثل اللغة.
عليك أن تتذكر أن هدفي هنا هو تقويم مقدمة غادامير الثانية لمعرفة ما إذا كان التأويل كله لساني لأنه إن صح قوله لكانت اللغة متضمّنة لا جوهرياً في التأويل مادام المعنى نفسه ليس لسانيّاً بل يتألف من خواص ورتب ومفاهيم ماوراء شخصية. ولهذا نجد بين تأويلي غادامير للمقدمة الثانية (" كل جانب من التأويل يعدّ لسانياً ") و (" دائماً ما يتضمن تفسير معنى نص ما دائماً استعمال رموز لسانية ") لا يسمح غادامير للتأويل الثاني ما دامت تفسح المجال أمام الانفلات من حلقة اللغة. عليه أن يميل للأول بطريقة تجعل أي شيء في فكرنا لا يتحقق من دون أن يرتبط باللغة وبهذه الطريقة فقط يمكن له أن يغلق علينا اللغة إلى الحد الذي يكون كل ما نفعله مشروطاً بتواريخنا الطارئة.
البرهان الثاني : طبيعة المفاهيم
لكي يبرر غادامير جوهرية اللغة ـ الفكر فإنه بحاجة للتأكيد على أن التأويل كله لسانيّ وهو يهدف إلى القيام بذلك بقوله أن المفاهيم كلها لسانية أصلاً. ويعدّ الفصل الموسوم " ظهور مفهوم اللغة " في الجزء الثالث من كتابه هو مفتاح هذه الخطوة. بل لعليّ أجزم أن كتابه كله يرتكز على هذا البرهان، فإن أخفق لن يكون لديه موضع آخر يؤكد فيه جوهرية اللغة ـ الفكر وتنهار دمغة الذاتانية ولن تكون آفاقه بحاجة إلى الانصهار لأننا نستطيع التعالي على ظروفنا التاريخية. إذ يقول :
إن تمكن شخص من نقل تعبير ما من شيء لآخر فإن ذهنه يفكر بشيء مشترك بينهما لكن هذا لا يحتاج بالضرورة إلى كليّة توليدية. إنه في الحقيقة يتبع خبرته، الآخذة بالاتساع، التي ترى المتشابهات سواء أكانت مظهر الشيء أو دلالته لنا. إنها عبقرية الوعي اللساني الذي يتمكن من منح تعبيرات لهذه التشابهات (6). ويقول في موضع آخر :
إن القدرة الديالكتيكية على اكتشاف التشابهات ورؤية خاصية مشتركة بين أشياء كثيرة هي أقرب ما تكون إلى كليّة اللغة ومبادئ تشكّل الكلمة … إن الانتقال من نطاق إلى آخر لا ينطوي على دالة منطقية فحسب بل يقابل طابع اللغة الاستعاري [المجازي]. وتعد الاستعارة الشكل البلاغي لهذا المبدأ التوليدي الكليّ (اللساني والمنطقي معاً). ويقدم أرسطو توكيدات عدة على أنه لا انفكاك للصلة بين اللغة والمفهوم …ولهذا قبل أن نشرع بالمنطق التوليدي علينا أن نطور العمل في اللغة نفسها (7).
وهكذا نجد في هذين القولين أن المفاهيم وتصورنا للواقع على نحو مقولات جنس / نوع يشتمل على ملاحظة التشابه وتشخيصه. ويعدّ ذلك نشاطاً استعارياً. ولما كانت الأنشطة الاستعارية لسانية أصلاً فإن مفاهيمنا وتصوراتنا تعدّ لسانية بالضرورة.
المشكلة الأولى في هذا البرهان هي افتراضه أن المفاهيم والتصورات كلها نتاجات إنسانية محضة. لا شك في أن جوانب من إدراكنا الذهني للمفاهيم يعدّ ذاتياً ؛ وبمقدورنا التكلم عن امتلاك المفاهيم واكتسابها لكن لا يعني ذلك بالضرورة أننا نستطيع إدراكها على نحو سليم. فإذا كان مفهوم ما معتمداً على خواص في العالم مستقلة عنا تماماً فعندئذ لا يمكن القول أن البشر يخلقون المفاهيم أو يصوغونها. فإذا كان مفهوم النمر، مثلاً، يعتمد على الخواص الميتافيزيقية والبايولوجية للنمور الحقيقية فعندئذ ليس أمام الوعي الإنساني سوى القليل ليقوله عن مفهوم النمر. العالم برز بصفة كيان مخلوق قبل أن يأتي آدم للمشهد. ولا تضيف مفاهيمه، ومفاهيمنا، شيئاً لبنية الخلق. فإن كان البشر يخلقون المفاهيم بطريقة اعتباطية ذاتية فبمقدورنا عندئذ أن نبتكر اختباراً قوياً لنظرياتنا الفلسفية. فإذا كان مفهوم النمر بناءً إنسانياً اعتباطياً مفروضاً على الواقع شأنه في ذلك شأن المفاهيم الذاتية الأخرى فعندئذ لماذا سيخفق الذاتانيون في حضور لقاء حميم يضم هذا التمر أو الإنسان نفسه ؟ أليست هذه المفاهيم أبنية إنسانية اعتباطية ليست لها صلة بالواقع ؟
يتضح أن برهان غادامير المفهومي يرتكز على زعمه بأن أية ملاحظة أو توصيف للتشابه يعدّ لسانياً. وإن مقدمته بصدد الاعتراف بالتشابه في المفاهيم ومقدمته عن كون الاستعارات لسانية لا تثير اعتراضاً لأجل الاعتراض. بل أن الربط بين هاتين المقدمتين يوصل إلى تعميم مفاده أن كل ملاحظة للتشابه هي استعارية. ولعل السؤال الأول هنا : لِم نعتقد بصدق هذا الزعم ؟ ولماذا يكون لإدراكي الحسي بخصوص التشابه بين اخضرار العشب في مرجي واخضرار شجرة فوق المرج نفسه علاقة باستعارة لسانية ما ؟ بمقدوري أن أمسك حزمة من العشب بيدي وأسحب غصناً من شجرتي وأدرك التشابه بين الاثنين. ليس ثمة كيانات لسانية تحجب رؤيتي لهذا التشابه وبمقدوري أن أدرك ذلك من دون إثارة أية رموز لسانية لتوليد التشابه. بمقدورنا الإتيان بمزيد من الأمثلة المضادة لمزاعم غادامير ؛ فهو يؤكد أن التعبير اللساني الاستعاري سابق على خواص التشابه والتطابق الميتافيزيقية.
يبدو أن السبب الوحيد الذي يقدمه غادامير لهذا التشابه هو أنه " لا يوجد في الوعي اللساني تأمل واضح بصدد ما هو مشترك بين مختلف الأشياء " (8). بمعنى أننا حينما نكون في حالة استعمال اللغة والتحاور لا نأخذ خواص العالم بنظر الاعتبار بل نمر عليها عبر اللغة. وإن كانت الميتافيزيقا سابقة على الاستعارة علينا عندئذ أن " نتأمل علناً " بالتشابهات الماثلة أمامنا قبل اللجوء إلى مفردات كليّة من قبيل " كلب "، " منضدة "، " قارب " … الخ. لكن يبدو أن هذا لا يصيب الهدف ؛ فالأفراد لا يخلقون اللغة بيسر، فنحن نولد في ممارسات لغة ما تتطور في المجتمعات مع الزمن. ومع ذلك بمقدورنا ملاحظة الأطفال وهم يصطدمون بالواقع بينما يدركون مفاهيم معينة بشكل أفضل كما يسعى البالغون إلى الاعتراف بمجموعات جديدة من الخواص التي تدفعنا إلى التأمل باللغة على النحو الذي يوحي به هو. وهكذا يبدو أن زعم غادامير الجوهري بخصوص أسبقية الاستعارة محض توكيد ما بعد حداثي دوغمائي. وبذا يهر أن غادامير لا يمنحنا أي سبب لتبني نزعة اللغة ـ الفكر الجوهرية بل أن مساعي التفكيكيين تصل إلى النتيجة ذاتها (9).
الهوامش :
1. Gadamer, Truth, p. 7.
2. Ibid., p. 362.
3. Ibid., p. 350.
4. Ibid., p. 349.
5. Ibid., p. 347.
6. Ibid., p. 388,389.
7. Ibid., p.390.
8. Ibid., p. 388.
9. See David Novitz, "The Rage for Deconstruction," The Monist, Vol. 69, No. 1, January 1986, pp. 39-53.
التعليقات